بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الحادية والخمسون ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
ونحن ما زلنا نتكلم عن المثل الذي ضربه الله تعالى للقرية التي جاءها الرسل، وكذبوا رسله، وتطيروا بهم، وتشائموا برسالتهم ودعوتهم.
لقد وقفنا عند قوله جلا وعلا ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾، هذه الصورة التي ذكرها الله تعالى في هذا المثل تخبر عن حال رجل آمن بأولئك الرسل الذين لقوا من أصحاب القرية عنتاً وتكذيباً، وأذية وتكذيباً من الرجم والمس بالعذاب الأليم.
هذا الرجل لما وصلت المسألة إلى هذا التهديد، وانتهى بقومه الحال إلى أن هموا بإيقاع العقوبة برسلهم، جاء ولم يكن مجيئه من قريب، إنما جاء من مكان بعيد، وهو أقصى المدينة، أبعد نقطة في المدينة، ولا ندري سعة هذه المدينة، لكن السياق يوحي بأن المجيء كان مصاحبا بمشقة، وعناء، وبُعدٍ، حيث جاء من جهة بعيدة، وجاء لاهثاً، جاء وقد أسرع وحث الخطى ليصل إلى قومه قبل أن تستحكم عليهم أسباب العقوبة، بأذيتهم للرسل وإيقاعهم بما هددوا به الرسل من الرجم والمس بالعذاب الأليم.
جاء من أقصى المدينة، ولم يذكر الله اسمه، وما ذكر أوصافه التفصيلية، ولا ذكر من شأنه إلا أنه جاء من أقصى المدينة، وأنه جاء يسعى، وأنه رجل.
ذكر هذه الصفات لأنها موضع الاستشهاد، ومحل الاعتبار والاتعاظ.
فقد جاء من بعيد في غاية الحرص، ومنتهى الرغبة في إنقاذ قومه.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ﴾،لم يذكر في هذا المجيء مقدمة، إنما دخل مباشرة فيما جاء من أجله استباقاً للوقت، واغتناماً للزمن.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ﴾، وهذه دعوة فيها من اللطافة ما هو واضح بيِّن، حيث دعاهم بما يؤمنهم، ويظهر عظيم رغبته في إقبالهم على كلامه، حيث دعاهم بالوصف الذي يشترك معهم فيه، وهو أنه وإياهم من نفس القوم، من نفس الجنس، من نفس الفرع.
فهم قوم من جنس واحد.
﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾، أمرهم باتباع الرسل.
والاتباع مقدمته الإيمان، ثم الطاعة، والانقياد لما جاءت به الرسل، فلا يتحقق الاتباع، إلا بهذين الأمرين.
الإيمان: وهو وعقد القلب، وما يطوي الإنسان عليه فؤاده من تصديق الرسل.
واليقين بما جاءوا به، والقبول لأخبارهم، ثم بعد ذلك يتبع هذا الطاعة، فإن الله تعالى ما أرسل الرسل إلا ليطاعوا، كما قال جل وعلا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سورة النساء:64..
فما من رسول إلا وحقه على قومه أن يطيعوه، ويمتثلوا أمره، وينتهوا عما نهى عنه وزجر.
﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾، من هم المرسلون؟ إنهم الذين جاءوا إلى قومهم، فالألف واللام هنا للعهد الذكري وهم الرسل الذين تقدم ذكر خبرهم، وما ردَّ عليهم القوم من الرد القبيح والتكذيب لما جاءوا به، والتهكم برسالتهم، والتهديد لهم بالرجم والعذاب الأليم.
بعد أن أمرهم بالاتباع وأخبر أنهم مرسلون، هذا إقرار بأنهم مرسلون من الله جل وعلا، فإن المرسل لهم هو الله جل في علاه، كما قال هؤلاء لقومهم من قبل في مجادلتهم، ومناقشتهم لما كذبوا رسلهم، قالوا لهم ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
فقال هذا الرجل لقومه﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.
بعد ذلك ذكر مسوغات لقبول دعوة هؤلاء، وأنهم ما جاءوا إلا بما فيه الخير لهم، فقال ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
فذكر وصفين زائدين على الرسالة.
الرسالة في حد ذاتها موجبة للقبول، لكن من دلائل صحة هذه الرسالة وصدقها ما ذكره في تفصيل صفاتهم، ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾، أي من لا يطلب عوضاً، ولا ثمناً ولا مقابلاً لدعوتكم، وهدايتكم، وإنقاذكم مما أنتم فيه من ضلال وكفر مبين.
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، أي وهم على هداية من الله عز وجل في دعوتكم، على هداية من الله عز وجل في أعمالهم، على هداية من الله عز وجل في عقائدهم، فقد جمع لهم الاهتداء من كل وجه، في قولهم، وفي عقدهم، وفي عملهم، وفي معاملتهم، وفي كل شؤونهم.
وهكذا هم رسل الله، فإن الرسل يجمعون هاتين الصفتين، فهم لا يسألون الناس مالاً ولا مقابلاً على دعوتهم.
وقد أخبرت الرسل بالقول الصريح، والبيان الواضح الفصيح أنهم لا يسألون على دعوة الخلق وهدايتهم أجراً كما قال الله تعالى عن نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، كلهم قالوا لقومهم،﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ انظر : سورة الشعراء: الآيات (109، 127، 145، 164، 180)..
وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول لقومه، طائعاً لربه الذي أمره بالقول ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ سورة الفرقان:57..
﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ سورة الشورى:23..
وقال جل وعلا ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ سورة الأنعام:90.
وقال تعالى: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ سورة هود:29.
فسؤال الأجر من دواعي الانصراف، ولذلك أمر الله تعالى الرسل أن يخبروهم أنهم لا يسألونهم أجراً، عوضاً، ولا ثمناً، ولا مقابلاً، لا في أنفسهم، ولا في ذرياتهم وأقاربهم.
فهم لا يسألون ما يثقل الناس ويصدهم عن طاعة الله جل وعلا.
ولذلك قال جل وعلا في استنكار عدم قبول أولئك للدعوة، وعدم انصياعهم للرسل، وعدم طاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ سورة الطور:40..
يعني أتسألهم أجرا يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة، فهم لأجل هذا، مثقلون، ولأجل الغرم الذي سيلحقهم صادون عن الإسلام، ولأجل الخراج والمقابل للإيمان لم يستقبلوا ما جئت به من رسالة، ولم يقبلوا على ما جئت به من هداية.
كل ذلك ليس بحاصل، ولا بجاري، فإن الله تعالى نزه الرسل وبرأهم عن أن يقبلوا أو أن يأخذوا من أقوامهم شيئاً مقابل ذلك الذي دعوهم إليه، مقابل الدعوة، مقابل الجهد الذي بذلوه في دعوة أقوامهم.
وقد قال الله جل وعلا في خبر هود لقومه، ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾ سورة هود:51..
فالأجر مأمول من الله عز وجل، لا من الخلق، مهما كان أولئك على قدرة ومال وجاه ومنصب فإن الرسل قد انصرفوا بقلوبهم إلى خالقهم، فلم يسألوا أجرا من الخلق، بل أجرهم على الله جل وعلا، ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سورة الشعراء:109..
فالأجر على الله عز وجل لا على غيره، وهذا من دواعي قبول رسالة الرسل، ولذلك قال﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾، وأضاف إلى ذلك وصفاً آخر يستلزم القبول، وهو ما هم عليه ، وما يدعون إليه من هداية وحق، قال:﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، أي وهم مبادرون إلى فعل ما دعوكم إليه، فإنهم أول من أسلم، وأول من آمن، وأول من اهتدى، وأول من أخذ بما دعاكم إليه.
وهذا من دواعي قبول الرسالة والإقبال عليها ولذلك ذكرها هذا الموفق الذي شرح الله صدره للإسلام، فجاء إلى قومه فقال لقومه ﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم زينا بزينة الإيمان، ولا تسلبنا يا ذا الجلال والإكرام ما مننت به من الهدي القويم.
ونسألك أن ترزقنا يا حي يا قيوم الاستقامة ظاهرا وباطناً.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.