بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الثانية والخمسون ))
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
وفي هذه الحلقة إن شاء الله تعالى نستكمل ذلك المثل الذي ضربه الله تعالى في سورة يس، مثل القرية التي أرسل الله تعالى إليها ثلاثة من المرسل، وعززهم جل وعلا بالمؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى مؤازرا للرسل، ومعززا لدعوتهم، وداعيا قومه إلى قبول ما جاءوا به، فقال لهم﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
وبعد هذا الوعظ والترغيب في قبول دعوة الرسل، وبيان موجبات القبول لهذا الرسالة من كون الرسل لا يأخذون على ذلك أجراً، ومن كونهم أول من يعمل بما دعا إليه، فهم مهتدون، كما قال﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
عاد إلى أصل الرسالة ومضمونها وموضوعها، فالرسل جاءوا قومهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده، وهذا من معززات قبول ما جاءوا به، قال:﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
وهذه مناقشة عائدة إلى مضمون الرسالة وروحها وجوهرها، فما كان من قبل كان متعلقاً بالمرسل، وهم الرسل، وصفاتهم الموجبة لقبولهم.
وهذا من الأمور التي ينظر إليها، فالرسالة ينظر إليها من حيث مضمونها، ومن حيث ناقلها، فإذا كان ناقلها قد اتصف بصفات توجب القبول، جاء النظر إلى مضمون الرسالة لينظر في هذا المضمون، هل هو من الأمور التي توفرت فيها دواعي القبول أو لا.
فنظر أولاً، وناقش قومه أولاً في صفة الرسل، وما كانوا عليه من موجبات القبول، ثم انتقل إلى مضمون رسالتهم وروحها، وهو ما جاء به الرسل من دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فقال:﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، هذا الاستفهام للإنكار الذي تبين وجه الغرابة فيه، وعظيم النكارة في الصد عنه، وهو عبادة الله عز وجل .
﴿وَمَا لِيَ﴾، أي شيء يمنعني أن أعبد الذي فطرني، ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ﴾، يعني ومالي لا أفرد العبادة للذي فطرني.
فالرسل جاءوا جميعاً بدعوة أقوامهم إلى هذا الأصل الأصيل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ سورة النحل:36..
وكما قال سبحانه وبحمده ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ سورة الأنبياء:25..
فالرسل جميعاً جاءوا داعين إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولهذا قال هذا الرجل لقومه، ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي شيء يمنعني من عبادة الله وحده، من عبادة ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾، أي الذي خلقني، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
ليس هناك مانع، ولا حاجز يحجز الإنسان عن تحقيق هذه العبودية للملك الديان جل وعلا.
بل قد فطر الله تعالى القلوب على عبادته وحده لا شريك له،﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ سورة الروم:30..
وقد جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ...» "صحيح البخاري"(1385)، ومسلم(2658)..
والفطرة هي عبادة الله وحده لا شريك له.
وقد جاء في "صحيح الإمام مسلم" من حديث عياض بن حمار، هذا الحديث حديث إلهي، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى:«خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ»"صحيح مسلم"(2865)..
حنفاء أي أنهم قائمون على التوحيد، متجافون، متجنبون للشرك.
﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وقد ذكر في مسوغات إفراد الله بالعبادة أمرين:
الأمر الأول: أن الله تعالى هو الذي فطره، وهو فاطر السماوات والأرض جل وعلا، ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، أي الذي خلقني، ورزقني، الذي أوجدني من العدم، الذي أبرزني بعد أن لم أكن شيئاً، وهذا من أكبر الأدلة في القرآن الكريم على أن الله يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن عبادة ما سواه باطلة، فكل معبود دون الله باطل لأنه لا يخلق، فالله سبحانه وبحمده هو الخالق وحده جل في علاه، ولذلك كان مستحقاً لأن يعبد وحده لا شريك له سبحانه وبحمده.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ سورة فاطر:1..
فالله قد استحق العبادة وحده لا شريك له لأنه الخالق سبحانه وبحمده.
وقد أنكر الله تعالى على من عبد غيره، بأنه عبد من لا يخلق، كما قال جل وعلا ﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾، بعد ذلك قال ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ سورة الرعد:16..
وخالق كل هو مستحق للعبادة، الذي لا يعبد سواه جل في علاه، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ سورة البقرة:21..
وقد قال جل وعلا :﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ سورة الفرقان:52..
وقال ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ سورة النحل:20..
وقال جل وعلا ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ سورة الأعراف:191..
وقال في إقامة الحجة على الكافرين، ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ سورة لقمان:11..
وقال جل وعلا في من سواه بغيره، فجعل عبادة غيره من الأصنام والأوثان، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والصالحين، والحي والجماد، قال جل وعلا﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ سورة النحل:17..
وقال جل وعلا ﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ سورة الرعد:16.، جل في علاه.
وقال سبحانه وبحمده في بيان انفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)﴾ سورة الفرقان..
ثم بعد أن ذكر ذلك قال في من اتخذ غيره آلهة، قال:﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ سورة الفرقان:3..
كل هذه الآيات وغيرها في القرآن الكريم تبين أن الذي يخلق هو الذي يستحق العبادة، وأن المخلوق مهما أوتي من القدرات، ومهما أعطي من الإمكانات، ومهما كان في عظمة الخلق أو عظمة القدرة، أو عظمة الجاه، فإنه مخلوق لا يصلح أن يكون إله، لأن المخلوق مهما عظمت قدرته، ومهما جل وكبر جاهه فهو محتاج إلى ربه، فهو عبد مربوب لا يجوز أن تصرف إليه العبادة من دون الله عز وجل إليهم بحال من الأحوال.
إنما المعبود هو الله الخالق الفاطر جل في علاه، ولذلك قال إبراهيم لما تبرأ من عبادة أبيه وقومه، قال: إنني براء مما تعبدون، كما قال الله تعالى عنه قوله ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ سورة الزخرف:26..
هذا الرجل قال لقومه، ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، يعني أي شي يمنعني من عبادة الذي فطرني.
وذكر الفطر هو الخلق وابتداء الإيجاد من العدم هو دليل أنه المستحق للعبادة وحده، لأنه المنفرد بالإيحاد والخلق سبحانه وبحمده، ولأن غيره لا يستطيع أن يخلق كخلقه.
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ سورة لقمان:11.. فكان كل هذا موجبا لأن يكون جل وعلا المعبود لا شريك له.
وبهذا استدل هذا الرجل المؤمن الناصح استدل على قومه بصحة ما جاءت به الرسل بأنه الفاطر جل في علاه، ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.