بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة الرابعة والخمسون ))
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه؟.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه،بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، داعيا إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، وحياكم الله في حلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
وما زلنا مع خبر ذلك الرجل الذي قصَّ الله خبره في المثل المضروب في سورة يس، مثل القرية التي ضربها الله تعالى لقوم جاءهم رسل، فدعوهم إلى الحق، فكذبوهم وعاندوهم، وتشاءموا بهم، وهددوهم بالرجم والعذاب الأليم فجاءهم رجل من قومهم من أقصى المدينة، جاءهم بصفة ذكرها الله تعالى ﴿يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ثم قال لهم :﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وبعد ذلك عاد على آلهتهم ببيان البطلان لصحة عبادتها، والتوجه إليها، فأبطل ما كان عليه قومه بالحجة والبرهان، ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾.
بعد ذلك البيان الواضح الجلي في إبطال عبادة هؤلاء، وأنهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة تعبد، ولا أن يسووا بالله عز وجل الذي لا مثيل له ولا نظير، ولا كفؤ ولا سمي جل في علاه، الذي لا إله غيره ، لا يستحق العبادة سواه، ولا تصرف العبادة إلا له بكل صورها، سواء كانت دعاء أو كانت صلاة، أو كانت صدقة، أو كانت عبادة ظاهره، أو كانت عبادة قلبية كالمحبة، والخوف والرجاء، وما أشبه ذلك من أنواع العبادات والقربات الظاهرة والباطنة، لا يصلح أن تصرف تلك العبادات لغير الله عز وجل .
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، إذا حصل هذا ووقع هذا الفعل مني أو من غير، ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وهذا في غاية الوضوح والبيان، فإن كل من عبد غير الله عز وجل فقد خسر خسرانا مبيناً، أضاع السبيل، وضل عن الطريق، ولم يهتدي إلى صواب ولا رشد ولا هدى، لذلك قال هذا الرجل ﴿إِنِّي إِذًا﴾، أي وقت وقع مني هذا بأن سويت مع الله غيره، وأشركت به سواه، فصرفت العبادة إلى غير الله، ﴿إِنِّي إِذًا﴾، أي في هذه الحال وفي هذه المنزلة ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، كما قال الله جل وعلا ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ سورة الأحقاف:5..
فهذا هو الضلال، والضلال أصله الضياع، ويطلق على الخسران، فقوله ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ﴾، أي في خسران، أو في ضياع.
وقوله﴿ مُبِينٍ﴾، أي بيَّن واضح جلي ظاهر، لا يلتبس، فإنه من أعظم الضلالات لأنه تضييع لغاية الوجود ومقصود الخلق، هذا أكبر ضلال.
فلو أن إنساناً مثلا خرج من بلده يريد مكة، فسلك طريق المدينة، أليس هذا ضلالا؟!، ألم يضل الطريق؟، بلى قد ضلَّ.
لكن هذا الضلال يمكن تعديله، ويمكن تلافيه، يذهب للمدينة ثم يرجع إلى مكة ، أو يغير مساره.
فهذا نوع من الضلال، وقد يترتب عليه خسران، خسارة وقود، وخسارة وقت، وضياع هدف، يعني يحصل فيه من أنواع الخسار ما هو واضح وبيِّن عندما تقصد هدفاً وتتوجه إلى غيره عند ذلك سيترتب على هذه إضاعة، وهذا الخطأ خسارة من نوع ما.
فكيف إذا كانت الخسارة في مقصود الحياة.
الله جل وعلا خلقنا لعبادته كما قال جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ سورة الذاريات:56.، وكما قال سبحانه وتعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ سورة الملك:2..
فإذا أخطا الإنسان الهدف من الوجود، الغاية من الخلق، فلم يعبد الله عز وجل ، أو عبد معه غيره، وسوى به أصناماً أو ملائكة أو جناً أو رسلاً أو أنبياء، فدعاهم من دون الله، أو استغاث بهم وتوجه إليهم بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء، وصرف إليهم أنواعا من القربات، وألوانا من العبادات الظاهرة والباطنة، أليس هذا ضلالاً؟!.
بلى هو ضلال مبين واضح وظاهر وكبير، لأنه لا يرجى بعده فلاح، فإذا ضل الإنسان عن عبادة الله وحده لا شريك له، كيف ينجو، وكيف يُفلح، وكيف يصيب راحة وطمأنينة، إنه خسر خسراناً مبيناً، إنه أضاع الغاية من الوجود والهدف من الخلق، فكان في غاية الضلال.
ولهذا صدق هذا الناصح في توصيفه حيث قال:﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، واضح وجلي وما أكثر الضالين، إن أكثر الخلق في ضلال مبين، كما قال تعالى﴿وإنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سورة الأنعام:116.،وقال جل وعلا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ سورة الشعراء:8..
ولهذا كانت دواعي الدلالة إلى الحق في هذا الأمر، وهو غاية الوجود هي عبادة الله وحده لا شريك له، الأدلة منتشرة وكثيرة وظاهرة وجلية لا تخفى إلا على من حميت بصيرته، وانطمس نور قلبه فلم يبصر، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ سورة فصلت:53..
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، جل وعلا.
واحد في إلهيته، واحد في ربوبيته، واحد في أسمائه وصفاته، ليس له مثيل ولا نظير.
ولذلك كل من صرف العبادة لغير الله دعاء أو صلاة، أو سجوداً، أو طوافاً، أو ذبحاً، أو نذراً، أو حكماً، أو محبة، أو خوفاً، أو تعظيماً، أو غير ذلك من أنواع وألوان العبادات فإنه في ضلال بيِّن مبين.
يقول الله تعالى:﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾، يعني ما أحد أضل، ﴿مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ والدعاء هنا، يشمل كل صور الدعاء، سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
دعاء عبادة: كالصلاة مثلاً، أو السجود، أو الذبح لغير الله عز وجل .
أو كان ذلك بالسؤال والطلب: سواء كان ذلك في استغاثة، أو كان ذلك في استعانة بمخلوق لا يستعان إلا بالله عز وجل فيما استعان فيه، أو كان ذلك في استعاذة بأي نوع من أنواع الدعاء الذي لا يليق إلا بالله عز وجل .
فإذا صرفه للمخلوق كان في ضلال، لا أضل من هذا، فهو في ضلال مبين، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾.
بعد أن بيَّن هذا الرجل بهذا الأسلوب البديع، الرؤوف الرحيم، الذي لم يوجه فيه الخطاب والتوصيف إلى قومه، إنما تكلم عن نفسه بعد أن دعاهم إلى عبادة الله عز وجل ، بعد أن دعاهم إلى اتباع الرسل انصرف الحديث عن نفسه، ليبين ما هو عليه، ويقيم الحجة على قومه بلسانه، وأنه أنا إذا كنت على غير هذا فأنا في ضلال مبين، وعلى هذا وأنتم في ضلال مبين.
فقال لقومه ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، ثم عاد في الخطاب في دعوة قومه منزلا الأمر على نفسه حيث قال:﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ثم قال بعد ذلك:﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا﴾، إذا وقع مني هذا ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وهذا في غاية اللطافة، وحسن التأتي، ولطيف الكلام مع قومه، ليأخذ بقلوبهم إلى الهداية وإلى سبيل الرشاد.
بعد ذلك أعلن لقومه، بعد تلك المقدمات، وتلك الحجج، وبعد إبطال ما يتمسك به أولئك من عبادة غير الله، جاء التصريح باليقين، التصريح بالنتيجة، التصريح بالنهاية التي ينبغي أن يتوصل إليها كل من سلك طريق الاستدلال الصحيح ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، هذه النتيجة أنه آمن بالله عز وجل ، فقال ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾.
سنقف مع هذه الآية في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى – ففيها من الدلالات ما يستحق الوقوف.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح قلوبنا لفهم كتابه، وأن يبصرنا بما ينفعنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.
اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى اللهم على النبي الكريم، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجميع.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.