بسم الله الرحمن الرحيم.
(( الحلقة السادسة والخمسون ))
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيما لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، ماكثين فيه أبداً.
اللهم اجعلنا من الذين أحسنوا أعمالهم، وصدقوا في أقوالهم ووفقوا إلى الخير ظاهراً وباطناً.
أحمده جل في علاه، أحق من حمد، وأجل من ذكر، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
ولازلنا وإياكم نتفيء ظلال ذلك المثل تفسيرا وبياناً، ذلك المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة يس، لأصحاب القرية الذين جاءهم المرسلون، وعزز الله تعالى الرسل بمعززات عديدة، لكن أقوامهم لم يستجيبوا لهم، وهموا بهم بطشاً وأذى فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، كما قال الله تعالى في ذكر ذلك، ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، فزكَّى الرسل في نيتهم وقصدهم وعملهم وشأنهم، ثم عطف تزكية ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي تزكية الرسالة، والمضمون الذي جاء به هؤلاء، فقال في ذلك: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي شيء يمنعني أن أستجيب لدعوة هؤلاء الرسل الذين جاءوا يدعون إلى عبادة الله وحده، ويأمرون الخلق بأن يفردوا الله تعالى بكل عبادة ظاهرة وباطنة، فلا دعاء إلا لله، ولا ذبح إلا لله، ولا نذر إلا لله، ولا قربى من صلاة أو زكاة، أو صوم، أو حج إلا لله عز وجل .
هذا الذي جاءت به الرسل جميعاً فكانوا يدعون الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ سورة النحل:36..
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ سورة الأنبياء:25..
فلا إله إلا الله، لا معبود حق إلا الله.
يقول الله جل وعلا في خبر هذا الرجل الناصح المشفق الذي جاء ساعياً يحذر قومه أن يكذبوا الرسل، وأن يوقعوا بهم أي نوع من الأذى.
يقول جل وعلا :﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي إليه تردون، فيحاسبكم ويسألكم، ومن أيقن بالرجوع إلى الله أحسن العمل، لأن الرجوع سيكون محلاً للمحاسبة والجزاء والأخذ بالأعمال.
يقول الله بعد ذلك في بيان قول هذا الناصح لقومه ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، هكذا يحتج على قومه بما تقر به عقولهم، وبما توقن به فطرهم من قبح عبادة غير الله عز وجل ، كيف أتخذ من دونه آلهة؟، فالاستفهام هنا استفهام إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق، من أي شيء كانت الآلهة، سواء كانت من الملائكة، أو من الرسل، أو من الأنبياء، أو من الشهداء، أو من الصالحين، من الإنس، أو من الجن ، أو غير ذلك مما يعبده الناس ويتقربون إليه من حيوان أو جماد.
إنه لا يستحق العبادة شيء من ذلك إلا الله الذي بيده ملكوت كل شيء جل في علاه.
ولذلك قال:﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ﴾ أي من دون الله، ﴿آلِهَةً﴾ أتأله لها بالعبادة، وأتأله لها بالمحبة والتعظيم وأتقرب إليها بأعمال القلوب وأعمال الجوارح؟!، هذا لا يكون ولا يقع من أصحاب العقول، إنما هذا هو الضلال المبين.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾، والحال والواقع ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، فهذه الجملة استئناف لذكر العلة التي تمنع من اتخاذ غير الله إلهاً.
كيف تتخذ إلهاً، وتتخذ معبوداً لا ينفعك، ولا ينصرك، ولا يدني لك برا ولا يدفع عنك سوء وشراً.
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾، أي إن يقصدني الله جل وعلا بنوع من الضرر في بدني أو مالي أو أهلي أو سائر شأني، فإنه لا مجير لي مما أراده جل في علاه.
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾، صغير أو كبير، فإنه لا سبيل إلى وقايته من دون الله جل في علاه.
فما للإنسان من الله من واق،﴿ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ سورة الرعد:34..
أي شيء يقيك ما أراده الله تعالى، والحال ما ذكر ربنا جل في علاه ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ سورة يس:82..
وله جنود السموات والأرض سبحانه وبحمده، فكل ما في السموات وما في الأرض بأمره سائر، فما من حركة ولا سكون في الكون إلا بأمر رب الأرباب جل في علاه.
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ﴾، وسائل دفع الضر وجهان:
إما بالنصرة، وإما بالوساطة، وكلاهما منتفي.
ولذلك يقول:﴿لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ﴾، أي لا تنفعني شيئاً وساطتهم وجاههم، فوساطتهم وجاههم لا تحول بيني وبين ما أراده الله تعالى من الضر.
بل ما أراده من الضر واقع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وقدرته نافذة، وأمره ماض، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ سورة الإنسان:30..
﴿لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾، وهنا جاء بصيغة العموم الدالة على استيعاب نفي الشفاعة في دقيق الأمر وفي جليله، في صغيره وكبيره، في شريفه وحقيره، لا تغني عني شفاعتهم شيئاً مطلقاً.
فهذه الوساطة التي يرجوها هؤلاء الذين يتقربون إلى أصحاب القبور أو إلى الملائكة أو إلى الجن، أو إلى الرسل، فيهتفون بأسمائهم، ويدعونهم من دون الله عز وجل كل تلك الدعوات لن تؤتي ثمرة، ولن يحصل مقصوده.
يقول بعض الناس يشاهد أولئك الذين يذهبون إلى القبور ويسجدون لها، ويتقربون إليها بما لا يجوز أن يكون إلا لله، يدركون بعض مطالبهم فتغيثهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله، وهذا من الاستدراج البيِّن الظاهر.
فإن ما يحصل لأولئك من إجابة دعوة أو حصول مطلوب، أو أمن من مرهوب، هو في الأصل نادر، ثم إنه يقع موافقة ومصادفة، ثم إذا وقع فهو من تزيين الشيطان واستدراجه.
ولذلك تجد أن هؤلاء لا يمكن أن يصلون لما يريدون من مطلوبات إلا بعد رهق وعناء ومشقة تعطيهم الشياطين ما أمَّلوا، وتصنع لهم ما أرادوا على وجه يظنون معه أن دعوة هؤلاء هي التي أثمرت ذلك المطلوب.
وحصول النتيجة لا يدل على صحة الطريقة، أرأيت لو أن إنسانا احتاج إلى مال، ثم ذهب فسرقه أو اختلسه، أو نهبه من أحد فقضى حاجته بهذا المال، يدرك مطلوبه أو لا؟
إنه يدرك مطلوبه، لكنه حصَّل المال من طريق حرام، ولا يجوز، وهو إثم عليه، كذلك الذي قال: أنا أذهب إلى القبر الفلاني، وأدعو صاحب القبر، أو استغيث به، وأدرك مطلوبي، يقال له : أدركت مطلوبك، ولكنك أفسدت دنياك وآخرتك بإضاعة حق الله، لأن حق الله أن لا يعبد إلا هو.
فإن لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله.
ولهذا يقول هذا الناصح لقومه لما كذبوا الرسل فيما دعوهم إليه من عبادة الله وحده،﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾، أي معبودات أتقرب إليها، لا تنفعني شيئاً في دقيق الأمر أو جليله، في صغيره أو كبيره، فإنه لا تملك شيئاً، بل الملك كله لله جل في علاه.
﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، أي ولا يحصل منهم نصرة لي، ولا مظاهرة، ولا إعانة أتخلص بها من الضر الذي قسمه الله تعالى وقدره.
فبيَّن هذا الناصح بطلان عبادة هؤلاء بكون شفاعتهم لا تنفع، وبعجزهم عن أن يوصلوا نفعاً إلى من يستنصرهم، ومن يتقرب إليهم بأنواع القربات، ومن يتعبد لهم بالعبادات، فإنهم لا تغني عنهم الشفاعة من دون الله شيئاً، ولا يحصل لهم إنقاذ أو نصر كما قال الله جل وعلا ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الموحدين، وأن تملأ قلوبنا بمحبتك وتعظيمك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، والمعصية وسيء الأخلاق.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.