بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة السابعة والخمسون ))
[4.49] الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله،أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، إله الإنس والجن.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه صلاة دائمة مستمرة، صلى الله عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم من المباركين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما يا عليم.
في هذه الحلقة أيها الإخوة والأخوات نتناول ما ذكره الله تعالى في خبر المثل الذي ضربه الله تعالى في سورة يس لأصحاب القرية.
ضربه جل في علاه للنبي الكريم ليستبين حال المكذبين للرسل، وما ينتهي إليه مآلهم، وما يصير إليه في عواقب أمورهم.
يقول الله جل وعلا في قصة الناصح المشفق الساعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء إلى قومه كما وصف الله تعالى:﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
يقول هذا الناصح لقومه ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، فأبطل عبادة غير الله عز وجل، وجاء ذلك بصيغة السؤال والاستفهام الاستنكاري الذي يبين فحش هذا القول، وفحش هذا الاعتقاد، وسوء هذا العمل، وأنه قول وعمل واعتقاد من أفسد ما يكون، ومن أبعده عن الهدى والحق والرشد في الدنيا والآخرة.
يقول الله جل وعلا:﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾، أي معبوداً، ومتقرباً إليه بأي نوع من القربات.
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ﴾، أي لا تنفعني وساطتهم .
﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، أي ولا يتمكنون من إنقاذي وفكي من الهلكة.
وهذا الدليل على إبطال عبادة غير الله عز وجل ، استدل به الله جل وعلا في مواطن عديدة، هو حجة بينة وبرهان ساطع، وسيف قاطع، لكل متعلق بالشرك، ولكل مبرراته ومسوغاته، فإن الله عز وجل استدل على بطلان عبادة غيره، أن غيره لا يملك نفعاً، ولا يملك إيصال ضر إلا بإذن الله عز وجل .
فالنفع المطلق والضر لا يكون إلا من الله جل علا، ولهذا يقول في محكم كتابه،﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ سورة الأعراف:197.، فلماذا تتوجهون إليهم بالعبادة، والأمر أبعد من ذلك، ﴿وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾، فهم عاجزون عن نصرتكم، بل هم عاجزون عن نصرة أنفسهم، ثم قال:﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ سورة الأعراف:198..
فليس عندهم نفع ولا وعي ولا إدراك، ولا علم بحوائجكم، ولو كانوا على علم وإدراك فهم لا يستطيعون أن يوصلوا إليكم شيئاً من النفع أو شيئاً من البر أو شيئاً من الخير، بل ذلك إلى الله جل في علاه.
﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فتتوجهون إليهم بالعبادة، وتتوجهون إليهم بالطلب، وتسألونهم قضاء الحوائج، وإغاثة اللهفات، فتهتفون بأسمائهم، "يا ولي الله فلان، ويا حبيب الله فلان، ويا الصالح فلان، ويا الملك فلان"، وما إلى ذلك من أنواع الاستغاثات والهتافات والنداءات لهؤلاء ، يقول الله لهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، فهم فقراء إلى الله، كما أنتم إليه فقراء، وهم إلى الله محتاجون كما أنتم إليه محتاجون، هم مشغولون بأعمالهم فإن كانوا أحياء فهم فقراء إلى الله يحتاجون إلى العمل ليفكوا أنفسهم، فيتقربون إليه جل وعلا بأنواع القربات، وألوان الطاعات ليبلغوا رضوانه.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾، كما قال في سورة الإسراء سورة الإسراء:57..
وإن كانوا أمواتاً فهم رهائن أعمالهم، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ سورة المدثر :38. ، كما قال جل وعلا، أي محبوسة على عملها ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾، فهؤلاء يفكهم عملهم، يفكهم من عقاب الله، يفكهم من عذاب القبر، يفكهم من أهوال يوم القيامة، لكنه لا يبلغهم أن يكونوا آلهة مع الله تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
إن الله تعالى يقول في محكم كتابه لمن عبد غير الله في بيان ضلال سعيه ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ سورة الأعراف:194.، جربوا وادعوهم إذا كنتم غير مصدقين في أنهم لا يملكون لكم نفعا ولا ضراً، ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾، وإنهم لن يستجيبوا لأنهم لا يملكون، وما يجري من إجابة المستغيثين عند القبور بالموتى أو الهاتفين بأسماء الأولياء عند الكربات والنوازل، ما يأتيهم من الغوث هو من الشياطين الذين يزينون للناس الكفر، ويزينون لهم عبادة غير الله.
فيتوهم، ويظن هذا الداعي الذي هتف باسم الولي الفلاني، أو باسم الملك الفلاني، أو باسم النبي الفلاني، أن الملك أو الولي، أو النبي، هو الذي أغاثة، هو الذي أجاب دعاءه، هو من تزيين الشياطين، حيث إنهم يسعون غاية جهدهم لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات.
فلا يتوهم أحد أن تلك الإجابات التي تحصل لأولئك الذين يدعون غير الله أنها من المقبورين، أو من الفقراء الذين يدعون من دون الله، فهؤلاء كما قال الله تعالى في محكم كتابه﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
إنما هذا من تزيين الشياطين، ولابد أن يتنبه إلى هذا، ويذكر ليزول ما يجري من تلبيس، فقال: إن فلانا ذهب إلى قبر الولي الفلاني، أو هتف باسمه، أو سأله قضاء الحاجة، أو إغاثة اللهفة، أو إدراك المطلوب، وحصَّل مطلوبه فهو مجرب.
التجربة هنا مكذب بكلام رب العالمين بقوله ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، تحدي من الله عز وجل لكل من أشرك به غيره، وصرف العبادة إلى سواه أنه لن يدرك شيئاً، وأن السعادة الكاملة، والطمأنينة المتناهية هي في أن يتوجه العبد إلى رب الأرض والسموات بأن يفرده بالسؤال والطلب، والعبادة والقصد.
﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ سورة الرعد:16..
وهذا من أكبر الحجج القرآنية على إبطال عبادة غير الله، وهو ما احتج به هذا الرجل على قومه لإبطال عبادتهم وصدهم عما كانوا عليه من تكذيب الرسل.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، وفي هذه الآية الكريمة نكتة بليغة : إن الله تعالى ذكر في هذه الآية قول ذلك الناصح لقومه.
وانظر إلى الاسم الذي انتقاه من بين أسماء الله تعالى تطميعاً لقومه في الاستجابة فقال﴿ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾.
الرحمن اسم مشتق من الرحمة فهو دال على كمال رحمة الله، فهو صفة مبالغة، أو اسم جاء على صيغة المبالغة للدلالة على كمال الرحمة، وأنه جل وعلا ممتلأ الرحمة سبحانه وبحمده في كل ما يكون منه جل في علاه.
«سبقت رحمتي غضبي» أخرجه البخاري(7553)، ومسلم (2751).، كما قال جل في علاه، سبحانه وبحمده.
وهذا فيه الترغيب لهم أن يقصدوا الله وحده فيما سواه، يقصدوا الرحمن في دفع الضر، وفي الانتصار منه إذا وقع عليهم.
وأن ما يكون من ضر ينزل بالإنسان فهو لا يخلو من رحمة الرحيم الرحمن جل في علاه.
﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي﴾، أي لا تنفعني ﴿شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾.
بعد ذلك البيان والإيضاح الذي امتلأ بالنصح لقومه والحجة والبرهان، والكلام البيِّن ذي السلطان جاء التصريح بثقته بصحة اعتقاده، وتمام ما انتهى إليه اجتهاده في تحقيق العبودية لله، قال:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾.
اللهم ألهمني وإخواني وأخواتي رشدنا، وقنا شر أنفسنا، اللهم ارزقنا صدق عبادتك، وفهم كتابك، والعمل به ظاهراً وباطناً.
اللهم إنا نسألك من فضلك يقينا صادقاً، وإيماناً راسخاً، وعملا صالحاً، ونصرا وتأييدا في ظاهر أمرنا ، وباطنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.