بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الثامنة والخمسون ))
الحمد لله فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع.
أحمده جل في علاه، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها النجاة من النار، أشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، رب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه،بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجا منيراً، بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
نتناول فيها تتمة ما ذكره الله تعالى من المثل في سورة يس، حيث قال الله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾، وهذا المثل أمر الله رسوله أن يضربه، وفصَّل في القصة تفصيلاً يوجب العناية به لما فيه من عظيم الدلالات، وكبير المعاني والإشارات التي ينتفع منها الناس إذا تأملوا وتدبروا معاني هذا المثل.
جاء هذا الرجل إلى قومه، لما بلغه أن قومه كذبوا الرسل، وأرادوا بهم سوءا وشرا، فجاء إليهم ساعياً مشفقاً، زكى الرسل فقال:﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ثم زكى الرسالة فقال:﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾، أي كيف يمكن أن يكون ما كذبتموه صحيحاً، كيف يمكن أن يكون ما أنتم عليه صواباً، وهذه حاله، أنه ميل بالعبادة إلى غير الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه وبحمده.
فبعد أن زكى ما جاءت به الرسل عاد إلى إبطال ما عليه قومه، وأنهم على غير الجادة سائرون، وعلى غير هدى ماضون، فقال:﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾، وبعد هذه المقدمات الثلاث التي تضمنت الثناء على الرسل وتزكيتهم، ثم الثناء على الرسالة وتزكيتها، ثم بيان كذب ما عليه هؤلاء وبطلان عبادة قومه، جاءت النتيجة على أكمل وجه،وأقوى بيان، وأثبت جنان، فقال:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، ولم يقتصر على هذا الإعلام، ولم يكتف بهذا التصريح، ولم يقف عند هذا الإعلام، بل قال لقومه وللرسل ﴿فَاسْمَعُونِ﴾، أي اسمعوا هذه الشهادة، أدركوا بآذانكم، وليبلغ ذلك مسامعكم أني على هذه الحال:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾.
إنها شهادة الحق التي أفصح عنها هذا الناصح بعد الإعذار إلى قومه بأبلغ بيان وأوجز لسان وأفصح كلام بيَّنه لقومه في خطبة بليغة عليها مدار الفلاح، ومن أخذ بها نجا، ومن أعرض عنها هلك.
﴿إِنِّي آمَنْتُ﴾، والإيمان هو الإقرار الجازم المستلزم للإذعان والقبول.
هذا هو الإيمان الذي صرَّح به، فهو تصديق خاص، تصديق يزيد بتمام الإقرار الذي يقترن بإذعان وقبول.
قبول لما جاءت به الرسل، وإذعان لما جاءوا به من الأحكام.
﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، أي بالله عز وجل، والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده سبحانه وبحمده، فيبطل بذلك قول الملحدين:"لا إله والحياة مادة"، يتضمن الإيمان بربوبيته سبحانه وبحمده، وأنه المالك الخالق الرازق المدبر جل في علاه.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فهو الرب سبحانه وبحمده، وما سواه مربوب له، مخلوق مدبر مملوك هو رازقه جل في علاه، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ سورة هود:6..
فالجميع كلهم مربوبون مخلوقون أذلاء يمضي فيهم قدر الله ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ سورة مريم:93..
الإيمان بالله جل في علاه يستلزم الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى،﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ سورة الأعراف:180..
﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ سورة النحل:60، جل في علاه فله كمال الأسماء وعالي الصفات جل في علاه سبحانه وبحمده، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
قال:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، والإيمان بالله يستلزم أن لا يعبد أحد غير الله جل وعلا.
فمن الإيمان بالله الإيمان بألوهيته، وانه لا إله إلا الله، وهو ثمرة كل ما تقدم من أنواع الإيمان.
فالإيمان بأنه لا إله إلا الله، ثمرة الإيمان بوجوده، والإيمان بكمال ربوبيته، والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
فإن الإيمان بتلك الأمور يستلزم أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يتوجه إلى غيره جل في علاه.
ولا يصرف العبادة إلى سواه سبحانه وبحمده.
ولذلك قال جل في علاه في كلمة هذا الرجل ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، وجاء بالربوبية لأنها تستلزم الإلهية، فإن الله تعالى رب كل شيء، ومقتضى أنه رب كل شيء أن لا يعبد سواه، فإنه المالك، الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت، ومقتضى الإيمان بذلك كله أن يكون هو الإله الحق جل في علاه لا يعبد غيره.
﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، فإذا كانت هذه الآية خطاب من هذا الناصح للرسل فيكون معنى الآية، إني آمنت بالرب الذي تدعون إليه، وتأمروننا بعبادته وحده لا شريك له، وتصفونه بالكمالات سبحانه وبحمده.
ويكون قوله﴿ فَاسْمَعُونِ﴾، أي فاشهدوا على هذا الكلام، اشهدوا على هذه الشهادة، وهذا البيان.
فاستشهد الرسل على إيمانه بالله عز وجل على وفق ما جاءت به الرسل، وهذا إيمان مجمل بالله عز وجل .
﴿آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، على الوجه الذي جئتم به في بيان ما له من الكمالات، وما له من الحقوق جل في علاه.
والقول الثاني عند أهل التفسير أن الضمير في قوله﴿ بِرَبِّكُمْ﴾، راجع إلى قومه ، فيكون هذا من تمام التحدي لقومه، وبيان بطلان ما هم عليه ، فهو يقول لهم : إني آمنت بربكم الذي أشركتم به، بربكم الذي انتقصتم حقه، بربكم الذي عاندتم رسله، بربكم الذي هممت السوء بمن بعثه إليكم ليدلكم على حقه جل في علاه.
فألزمهم بأنه لا رب لهم سواه، وأن هذا الرب هو الذي يجب أن يؤمن به.
ثم بعد ذلك قال: ﴿فَاسْمَعُونِ﴾، أي اسمعوا هذه الشهادة، واسمعوا هذا البيان، فإنني لا أبالي ما يكون منكم بعد ذلك، ولا يهمني ما يجري على أيديكم بعد ذلك.
لأني قد أعذرت لكم بالحجة والبرهان، وأنذرتكم بصريح القول وكامل التبيان، فإن لم تستجيبوا فهذا من نقصكم، ومن خذلانكم، وليس قصورا أو نقصاً في الحجة والبرهان.
﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ سورة الكهف:17..
قال لقومه:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، على النحو الذي ذكرنا في كلام الله جل وعلا، وما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية.
وهذه شهادة عظيمة ختم بها النصيحة.
كأنه يقول: وأنا أول الممتثلين لما أقول، وقد نصحت لكم، ومن تمام نصحي أني ملتزم بهذا الذي جاءت به الرسل، وشاهد به وشاهد عليه، واستشهدكم عليه.
فكان ذلك من تمام نصحه، وكمال هدايته لقومه.
اللهم ألهمنا رشدنا، واكفنا شر أنفسنا، اللهم ثبتنا على الحق، وأرنا ما ينفعنا مما ندرك به رضاك يا رب العالمين.
اللهم اسلك بنا سبيل الرشاد، خذ بنواصينا إلى البر والتقوى، واصرف عنا السوء والفحشاء، واجعلنا من عبادك المتقين، ومن حزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين.
اللهم أخلصنا بخالصة ذكرى الدار، واجعلنا من المتقين الأخيار، أعنا ولا تعن علينا.
ربنا يسر الهدى لنا، اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، راغبين راهبين إليك أواهين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، واغفر زلتنا، وأقل عثرتنا، وطهر قلوبنا من الشرك والنفاق والمعاصي، واعمرها بمحبتك وتعظيمك.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.