بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة التاسعة والخمسون ))
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده حق حمده، هو أجل من ذكر، وأعظم من حمد، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها النجاة من النار.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه،بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة، وتركها على محجة بيضاء، طريق واضح لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
إننا في هذه الحلقة نقف مع قول الله جل وعلا في قصة أصحاب القرية الذين ضربهم الله عز وجل مثلاً للمكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول الله جل وعلا بعد خبر ذاك الرجل الناصح الذي جاء قومه يسعى، جاء يأمرهم بطاعة الرسل، وينهاهم عن تكذيبهم، ويبين حق الله تعالى في العبودية والإلهية، وأنه لا يسوغ أن تصرف العبادة لسواه، ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾.
هكذا يقول لقومه، بعد كل ذلك الإيضاح والبيان والمحاجة والمدافعة عن أولئك المرسلين الذين صدقوا في توضيح الرسالة، وإبانة طريق الهداية، ودلالة الناس على الله عز وجل وتعريفهم بالطريق الموصل إليه جل في علاه، سبحانه وبحمده.
قال لقومه بعد أن أقام ذلك البيان وأقام الحجة والبرهان، قال لهم:﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، وهذا إعلان منه بإقباله على الله، وقبوله لرسالة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فما كان من قومه إلا أن أوقعوا به أشد البلاء، وأعظم العقوبة، وذلك استكبارا منهم وعتوا عن الاستجابة للحجج والبراهين التي أقامها فلما أقام ما أقام من البينات والبراهين على صدق الرسل ووجوب اتباعهم ما وجدوا شيئاً يثبتون به ذلك، ويبطلون به في زعمهم تلك الأنوار، وتلك الحجج، إلا أن أوقعوا العقوبة بذلك الناصح..الله أكبر.
عندما يعجز البيان، ويتضح البطلان، تتهاوى كل تلك الزخارف، ويتضح الغُشم والجهل والظلم الذي يتلبس به أولئك المكذبون للرسل، وإن تزينوا بما تزينوا من زخارف الأقوال، وأظهروا العقل والحجة والبرهان، فما هو إلا كذب وبهتان، ما هو إلا تزوير وزخارف من الأقوال، ولذلك أوقعوا العقوبة بهذا الناصح.
إنهم قتلوه لأنه دعاهم إلى الحق، قتلوه لأنه حذرهم من تكذيب الرسل، قتلوه لأنهم لم يستطيعوا أن يواجهوا ما جاء به من الحجة والبرهان، قتلوه لأنه كان في مدافعة وبيان لصدق هؤلاء الذين في اتباعهم نعيم الدنيا وفوز الآخرة.
إن أولئك القوم أوقعوا به العقوبة، ولم يذكرها الله جل وعلا لأن العقوبة منغمرة فيما انتهى إليه أمره، وفيما صارت إليه حاله، ولذلك لم يذكر الله تعالى هنا بعد ذلك التصريح والبيان الذي أعلن به إيمانه بالرسل، وتصديقه لهم،﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، لم يقل الله عز وجل فقتلوه، أو فعذبوه، لم يذكر الطريقة التي قتلوه فيها، فكل ذلك منغمر فيما أقبل عليه من عظيم إحسان الله تعالى وبره، وكبير عطائه وجزيل إحسانه سبحانه وبحمده.
ولذلك قال جل وعلا في بيان المثوبة والأجر، شحذاً للنفوس وتشجيعاً لها أن تقبل على طاعة الله، وأن تصبر على أعداء الله، ولو أفضى ذلك إلى فوات الروح، وذهاب النفس فإن ما يلقاه بين يديه من رضوان الله عز وجل ، وعظيم بره، وكبير إحسانه، شيء ينغمر فيه كل ما يكون من ألم، أو أذى يصيب الإنسان قبل ذلك.
لهذا قص الله حال هذا بعد موته كما قال جماعة من المفسرين.
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ الله أكبر، إنها أعظم بشارة، إنها إشارة بالفوز الكبير، والنجاة العظيمة التي من تبوأها، ونالها، وحازها، كان قد فاز فوزاً كبيرا كما قال الله جل في علاه ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ سورة آل عمران:185..
إن الله تعالى أخبر في هذه الآية عن مآل هذا الرجل الناصح، قيل له ادخل الجنة، قيل له متى؟ لا نعلم.
هل قيل له في سياق الموت وتحت أدوات التعذيب والقتل، أم قيل له بعد أن فارقت روحه بدنه، أو قيل له في وقت غير هذا.. الله أعلم.
إلا أن المهم هو أنه زفت له هذه البشرى، ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾، هذا هو الجواب الذي تلقاه الرجل المؤمن ردا على إقراره بالإيمان بالله تعالى، والإيمان برسله، والتصديق بتلك البينات التي جاءت بها الرسل، هذا هو الجزاء الذي تلقاه على نصحه، ونهيه لقومه عما كانوا عليه من كفر وتكذيب للرسالات.
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾، هكذا تمنى الرجل تلك الأمنية التي قصها الله جل وعلا، ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾، إنه تمنى أن يعلموا حاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، وما انتهى إليه مصيره إرغاماً لهم، ومعاندة لهم، وبياناً لما صدق به وعاقبة ما آمن به.
فكان ذلك منه أمنية أن يطلعهم الله تعالى على ما انتهى إليه مصيره، وما انتهى إليه أمره، وما صارت إليه حاله.
هذا أحد القولين في معنى هذه الأمنية، أنها أمنية منه أن يطلع الله تعالى أولئك القوم على ما انتهى إليه مصيره ليعلموا صدق ما كان عليه، ويرغمهم بذلك جزاء تكذيبهم، وجزاء معاندتهم، ومحادتهم وقصورهم.
وأما القول الثاني فهو أنه تمنى أن يعلموا ما صارت إليه حاله، وما هي عاقبة إيمانه، وليصيروا إلى ما صار إليه، ويؤمنوا بما آمن به، ويصدقوا بما صدق به، فيكون ذلك من شفقته على قومه، ومن حرصه عليهم حتى بعد موته، وبعد ما أبصر ما أبصر، ورأى ما رأى من نعيم الله عز وجل ، وعظيم إحسانه بالمؤمنين المصدقين.
تمنى ناصحاً، تمنى مشفقاً، تمنى حانياً على قومه أن يروا ما صار إليه ليصدقوا بما صدق به.
وهذا القول وذاك كلاهما تحتمله الآية.
لكن السياق فيما يظهر والله أعلم أنه تمنى أن يطلعوا على حاله، وما انتهى إليه مآله ليؤمنوا، ويصدقوا ما جاءت به الرسل، وليس إرغاماً أو مجازاة على تكذيبهم فإنه أبدى من الشفقة عليهم، والنصح لهم ما امتد حتى بعد موته، فكان ناصحاً لهم، متمنياً أن ينالوا من الإيمان ما نال، ليصيروا إلى ما صار.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم حسن الخاتمة والمآل.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، ربنا أدخلنا مدخل صدق، وأخرجنا مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.