بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الستون ))
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها دخول الجنان.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله إلى الإنس والجان، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
وفي هذا البرنامج نتناول أمثال القرآن نبين معانيها، ونقف عند مدلولاتها، ونتناول شيئاً من فوائد تلك الأمثال ومقاصدها، لعلنا أن ندخل فيمن أثنى الله عليهم بقوله جل وعلا:﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ سورة العنكبوت:43..
اللهم اجعلنا من العالمين بك، العالمين بكلامك، العالمين بشرعك، القائمين بحدودك، وعلى حدودك يا ذا الجلال والإكرام.
أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة نستكمل تلك الأمنية التي تمناها ذلك الرجل الصالح، ذلك الرجل الصادق الذي انتصر للمرسلين، ووقف بين يدي قومه محذرا أن يكذبوا الرسل، وداعياً إلى اتباعه، ومبينا صدق ما جاءت به الرسل من الدعوة إلى عبادة الله وحده، وأن صرف العبادة إلى غير الله إنما هو ضلال، وإنما هو زيغ وطيش، وسبيل حرمان.
فلذلك أوقع به قومه ما أوقعوا من العقوبة فقتلوه، لكنه رحمه الله ورضي عنه لم يجد في نفسه بعد موته أن يتمنى لقومه الخير، فقال بعد أن بُشِّر بالجنة:﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾.
تمنى هذه الأمنية، أن يطلع الله تعالى قومه على عظيم بر الله عز وجل ، وكبير إحسانه، تمنى أن يطلع قومه على عظيم المغفرة التي حازها، على عظيم العفو الذي ناله، إنه قال ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾، أي بغفران ربي بتجاوزه سبحانه، بستره، بعفوه، ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾، أي وجعلني من أهل الكرامة الذين منَّ عليهم بعظيم الفضل، وكبير الإحسان فجعله من أهل الجنة، أهل الكرامة والبر، أهل العطاء والإحسان.
إنها أمنية تضمنت ذكر أعظم الجزاء الذي يناله الناس يوم القيامة من عباد الله المتقين وأوليائه المفلحين، إنه حط الخطايا والذنوب والسيئات، وذلك بمغفرتها، والصفح عنها، والتجاوز والستر، ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾.
ثم بعد ذلك يأتي العطاء، يأتي الإحسان، يأتي الهبات والإكرام، إنه عطاء رب كريم يعطي على القليل الكثير، فلا إله إلا الله، ما أعظم جوده، وما أكبر إحسانه، إنه جود لا تحده الألسن وصفاً، ولا تبلغه العقول حداً، فله جزيل الإحسان سبحانه وبحمده، هو أكرم الأكرمين، هو أعظم المحسنين، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء سبحانه وبحمده.
يقول هذا الرجل الناصح لمن حضر أو أنها أمنية ترددت في قلبه وصدره، ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾، أي بغفرانه، وعفوه وصفحه، ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾.
إنها بركة التوحيد، إنها بركة الإيمان بالله وحده لا شريك له، إنها بركة لا إله إلا الله من صدقها، ووقرت قلبه كان من الفائزين بحط الذنوب والخطايا كما جاء في "صحيح الإمام مسلم" من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يقول الله عز وجل :...وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً»"صحيح مسلم"(2687)..
إنه العطاء العظيم، والجزاء الكبير على التوحيد بالله تعالى، والإيمان به، والإيمان برسله، والإيمان بما أوجب أن يؤمن به الناس.
﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾، وإكرام الله تعالى عظيم كبير، فقد أعد لعباده المتقين، وأوليائه الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فأي كرامة أعظم من هذا الإكرام الذي يناله عباد الله في ذلك اليوم العظيم.
إنها كرامة تبتدأ أولاً بخروج الروح، فخروج روح المتقي المؤمن فيها من الإكرام، ولها من الحفاوة ما ذكره رب العالمين، ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ سورة الواقعة:89..
هذا إن كان من المقربين ومن أصحاب اليمين، وأما غيرهم فهم أهل الإهانة.
هذا أول الإكرام، ثم إكرام في الحياة البرزخية، ثم إكرام في البعث والنشور بما يجعله الله تعالى في قلوبهم من الأمن من الفزع الأكبر، ذلك الفزع الذي لا أمن فيه ولا سلامة إلا لمن أتى الله بقلب سليم، فمن جاء بقلب سليم أمن من فزع ذلك اليوم العظيم.
ثم بعد ذلك تأتي الكرامة الكبرى بدخول الجنة، -نسأل الله تعالى أن نكون من أهلها-، فإذا دخلوا الجنة وكانوا في منازلها جاءت الكرامة التي لا كرامة فوقها من رضوان الله عز وجل الذي يحله عليهم ونظرهم إلى وجهه الكريم جل في علاه، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ سورة القيامة:22..
فنسأل الله أن يمن علينا بهذه الكرامة، وأن يجعلنا من أوفر الناس حظاً ونصيباً فيه.
هكذا تمنى هذا الرجل وأخبر عن إنعام الله عز وجل عليه، وتمنى أن يكون قومه على علم بهذه العاقبة، على إدراك بهذه النتيجة التي حصلها من سعيه وإيمانه بالله عز وجل .
بعد ذلك طوى الله تعالى صفحة أولئك القوم ذكرا، وذلك الرجل الذي نصح ، وجاهد في الله حق الجهاد، بالنصح والبيان، والذب عن أولياء الرحمن.
يقول جل في علاه:﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾.
قال الله تعالى في عقوبة قومه الذين استمروا في تكذيبهم لرسل الله عز وجل والذين أوقعوا بهذا الرجل ما أوقعوا من العقوبة.
يقول جل في علاه، ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ﴾، أي قوم هذا الرجل الناصح الذي تمنى تلك الأمنية، وبلغ ذلك البلاغ، وانتهى إلى هذا المصير،﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ﴾، أي من بعد موته، ومن بعد أن قتلوه ﴿مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، لم ننزل جندا من السماء من الملائكة لإيقاع العقوبة بهم، ولم نحتاج إلى ذلك.
ولذلك قال:﴿وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾، أي وما صح في حكمتنا أن ننزل لهلاك هؤلاء جنداً من السماء فقد أنزل الله تعالى بهم من العقوبة ما أهلكم دون أن ينزل جندا من السماء،﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ سورة يس:82..
ولذلك يقول:﴿وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾، هذا بيان لسنته التي جرت في عقوبة الأمم، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فقد جرت سنته في المثلات قبل هؤلاء في الأقوام الذين عاقبهم الله تعالى أن ينزل بهم من العقوبات ما يهلكهم دون أن ينزل جندا من السماء، ملائكة من السماء لإهلاكهم، فشأنهم وحالهم أحقر من ذلك، فهم في قبضته جل في علاه، لا يعجزونه، فهو عليهم قادر، وهو بهم محيط، يأخذهم جل في علاه بما يقدره من ألوان العقوبات، ولذلك أهلك الله تعالى الأمم الذين قبل هؤلاء بأنواع من الهلاك، من الحاصب، ومن الصيحة، ومن الخسف، ومن الإغراق، وما أشبه ذلك من أنواع العقوبات، كما قال جل في علاه:﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ سورة العنكبوت:40..
وفي كل ذلك كان ما جرى من العقوبة على سنن العدل، وما ربك بظلام للعبيد، كما قال جل وعلا بعد هذا التنويع في العقوبة ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾..الله أكبر، ما أجل عدل الله عز وجل سبحانه وبحمده، فهو الغني عنا وعن عباداتنا، وعن عقوبتنا، فعبادة العابدين لا تزيد في ملكه، كما أن معصية العاصين لا تنقصه جل في علاه.
هكذا نوَّع الله تعالى العقوبات على الأقوام المتقدمين.
وهؤلاء الذين كذبوا، وهؤلاء أصحاب القرية الذين ذكرهم الله عز وجل تسلية لرسوله، وبياناً لحال الأمم السابقة، وموعظة لهؤلاء المكذبين الذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين كانت عقوبتهم من أسهل ما يكون، فلم يكن الأمر محتاجاً أن ينزل الله تعالى ملائكة من السماء، ولا جرت سنة الله عز وجل في عقوبة الأمم السابقة أن ينزل جندا من السماء.
ولذلك قال:﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾، فكيف كانت عقوبتهم؟.
هذا ما سنتناوله – إن شاء الله تعالى – في الحلقة القادمة.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.