بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الثانية والستون ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
إننا في هذه الحلقة سنتناول خاتمة تلك القصة التي ذكر الله تعالى فيها حال أصحاب القرية، قال جل وعلا:﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾، يعني لو كنا كاذبين لما تركنا الله تعالى نتكلم بهذه الكلمات، ونبين ذلك الكلام وينصره ويمدنا بأنواع البراهين ونحن نكذب عليه، ﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾، قالت أقوامهم ما حالنا إلا أننا تشائمنا بكم، وما جئتم به، ﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قالت الرسل في ثبات ويقين ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾، فتدخل رجل من القوم كان قد آمن بالرسل، وانصاع لما جاءوا به من الهدى والبيان والحق، وجاء قومه، كما قال الله تعالى ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ثم بعد ذلك قال لهم في بيان صدق ما جاءت به الرسل، وبيان الحجة والبرهان والدليل على صحة ما أمروا به وما نهوا عنه، ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾، يعني أعبد ما سواه وأتوجه إلى غيره بأنواع العبادات من الدعاء، والاستغاثة والنذر، والمحبة، والتعظيم.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، فصرَّح بإيمانه، مدوياً بما من الله عليه به، ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، فجاءته البشرى، ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾، فتمنى أن يطلع الله تعالى قومه على ما انتهى إليه مصيره، وما صار إليه مآله، ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾، ثم قال جل في علاه، بعد أن ذكر نصره لأوليائه، ومن نصر عباده ورسله، كيف تكون نهايته، وكيف يكون إكرام الله لهم، قال في عقوبة المعاندين المكذبين:﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾، يعني ما عاقبناهم بملائكة أنزلناهم من السماء، إنما عاقبناهم بالصيحة، لذلك قال:﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً﴾، يعني عقوبتهم ما كانت إلا صيحة، وهذه صيحة واحدة، وهي الصاعقة الصوت العظيم الذي يخلع القلوب ويجتثها من الأفئدة، فيقع فيها الهلاك والموت.
﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾، أي هالكون، ليس بهم حراك، ولا لهم حياة، ولا فيهم ما يرجى وما يؤمل وما ينظر إليه.
قال الله جل وعلا بعد ذلك، وهذا هو الموضع الذي وقفنا عليه في الحلقات السابقة، قال جل في علاه:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾..الله أكبر.
إن الله جل وعلا يذكر هذا التحسر، والحسرة هي الندامة، وهي شدة الألم الذي لا نهاية له، حتى يبقى القلب حسيرا حبيساً لألم مصابه، وألم ما أحاط به من بلية.
﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾، من المتحسر؟ أو من الذي تضاف إليه الحسرة هنا؟ من الذي تحسر على العباد؟، ومن هم العباد؟.
في هذا الموقف كلام لأهل التفسير.
من أهل العلم من قال: إن الذين تحسروا هم الملائكة، فقول﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، المتحسر هم الملائكة، والمتحسر عليهم هم الكفار الذين لم يؤمنوا بالرسل، حيث فوتوا على أنفسهم ذلك الفضل العظيم، وذلك العطاء الجزيل من الله سبحانه وبحمده.
وقيل: إن الحسرة هنا هي مضافة إلى الله جل وعلا، هكذا قال جماعة من أهل التفسير، فتكون الحسرة من جهته تعالى.
وقالوا ذلك على جهة تعظيم ما وقعوا فيه من كفر وعناد واستكبار.
وقيل: إن التحسر هو من أولئك الذين وقعت بهم العقوبة، أي التحسر من المشركين الذين كذبوا الرسل، تحسروا على الرسل الذين كذبوهم وأوقعوا بهم من ألوان الأذى وأنواع ما أوقعوه.
وقيل: إن التحسر وقع من المشركين على أنفسهم، حيث تحسروا على عدم إيمانهم بالله عز وجل ، وعدم إنجائهم لأنفسهم، وعدم قيامهم بما أمرهم الله تعالى به، من اتباع الرسل، والأخذ بما جاءوا به من الهدى.
هكذا قال أهل العلم في بيان هذه الآية، وبيان هذه الحسرة التي ذكرها الله جل وعلا في هذا الموضع انظر "النكت والعيون"(5/15)، و"زاد المسير"(5/191)..
وعلى كل الأقوال لا تخلوا هذه الأقوال من وجه صحيح سليم يمكن أن تفسر به الآية.
إلا أن أقربها والله تعالى أعلم أنها حسرة أولئك المشركين على ما وقع منهم تجاه رسل الله عز وجل .
فيكون المعنى:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، أي يا حسرة على الرسل الذين أوقعنا بهم ما أوقعنا من العقوبة، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من الأذى، وقتلناهم وقتلنا من آمن بهم.
هذا أقرب ما يكون في السياق لأن مجيء الحسرة كان بعد ذكر العقوبة، والعقوبة بها يتبين الحسرات، بها تظهر خيبة الأمل، بها يظهر خطأ الفعل، فكانت دالة على أن الحسرة إنما تكون ممن فعل ما يوجب التحسر، وأن إضافتها لله عز وجل ، وإضافتها للملائكة فقد تحتمل معنى صحيحاً لكن الأقرب -والله أعلم- أنها حسرة المشركين على ما كان منهم من كفر وبعد عن الله عز وجل ، وتكذيب للرسل.
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وهذا بيان حال أولئك المكذبين، وأنهم كانوا في عتو واستكبار، وأنه لم يأتيهم رسول من الرسل إلا قابلوه بهذا العمل، وهو الاستهزاء.
والاستهزاء هو الاستخفاف، هو طيش، هو تهوين وتحقير للعظيم.
فالرسل لهم من المقامات العليا والمنازل الكبرى، والجاه عند الله عز وجل ما يستوجب توقيرهم، وتعزيرهم، وتعظيمهم، ويستوجب الإيمان بهم، لكن هؤلاء عكسوا ما يجب للرسل، فكان نصيب الرسل منهم الاستهزاء وهو الاستخفاف.
وهذا لشقوتهم وتكذيبهم وجحودهم، فكانت هذه حالهم مع رسلهم، ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وهذا ذكره الله تعالى في ختم هذه القصة التي جعلها الله تعالى للعبرة والعظة، ثم نبه الله تعالى إلى وجوب الاعتبار والاتعاظ، بأخبار تلك الأمم، فقال عز وجل :﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، وهذا لفت لأنظار من يسمع القرآن، وما جاء فيه من القصص أن ذلك ليس على وجه التسلية، إنما هو للعبرة والعظة، وهذا ما سنقف معه – إن شاء الله تعالى – في حلقة قادمة من هذا البرنامج.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.