بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الرابعة والستون ))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
وفي هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- نستكمل ما بدأناه من الكلام على قول الله جل وعلا:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
هذه الآية الكريمة هي مما ختم الله تعالى به ما ذكره من مثل أصحاب القرية الذين ذكرهم جل في علاه في سورة يس،﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾، ذلك المثل الذي هو أطول مثل في القرآن، ختمه الله تعالى بذكر عبرة وعظة تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبين له حال الناس مع رسلهم، وأن ما يلقاه من تكذيب، وما قوبل به من صدود، وما عوند به من جحود هو ما كان من الأمم السابقة مع رسلهم.
ولذلك قال جل وعلا :﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، لماذا؟، ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
والعباد هنا يشمل كل العباد الذين كذبوا الرسل وعاندوهم، ووقع منهم ما ذكره الله تعالى في قوله ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
وقوله جل في علاه﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾، أي ما يأتيهم من رسول مهما كان هذا الرسول في صدقه، وفي آياته التي عضد بها، والتي أؤيد بها، إلا أنه يقابل بما قوبل به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب.
بل من التكذيب والاستهزاء،﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾، فجميع الأمم كذبوا رسلهم، ما من رسول أرسل إلى قوم إلا وقابله قومه بالتكذيب.
يقول الله جل وعلا:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ سورة سبأ:34..
فأخبر الله تعالى عن حال الرسل عن حال الرسل والمرسلين مع أقوامهم، أنهم يقابلون ويعاندون من المترفين الذين يكذبونهم،﴿إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
وكذلك قال جل وعلا في آية أخرى:﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾، أي على طريقة وهدي، ودين، ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون﴾، أي لن نتبعكم على ما جئتم به، لن نتبعكم في دعوتكم، ولن نقبل ما جئتم به، بل سنبقى على ما وجدنا عليه آبائنا،﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون﴾ سورة الزخرف:23.، كذلك قال جل وعلا في تحقيق وتأكيد هذه القضية، وهي تكذيب الرسل لأقوامهم.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ سورة الأعراف:94..
والآيات في هذا كثيرة، التي يخبر فيها جل وعلا عن تكذيب الرسل، وأن الأقوام على مر العصور كلما جاء أمة رسولها كذبوه، كما قال تعالى في سورة المؤمنون:﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾، أي تتابع، وهذا من رحمته وعظيم لطفه بعباده، لكن كيف قابل أولئك رسلهم، يقول الله تعالى:﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ سورة المؤمنون:44..،هكذا كان الرسل قبلك يا محمد مع أقوامهم، ولم يستثن الله أمة إلا قوم يونس لما آمنوا، يقول الله تعالى:﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ سورة يونس:98..
فآمنوا جميعاً لكن هذا الإيمان أيضاً لم يكن ابتدائياً، بل كان إيمانا لا حقا لكفر وصدود، فالقاعدة في أكثر الأمم ما ذكره الله جل وعلا في قوله في هذه الآية:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
والله تعالى في هذه الآية أخبر بوصف، وعمل يقابل به المكذبون الرسل، إنهم لا يقتصرون فقط على تكذيب الرسل، وعلى رد دعوتهم، وعلى الجحود لهم، وعدم القبول بما جاءوا به، إنما يقابلون ذلك بالاستهزاء، ولذلك قال:﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
والاستهزاء استخفاف وتهميش وأذية بالغة لمن يدعو إلى الله جل وعلا، ومن يبين الطريق، فإضافة إلى عناء التكذيب الذي هو من أشد ما قوبلت به الرسل أضافوا إلى ذلك بلاء آخر، وعناء آخر وهو الاستهزاء، حيث استخفوا برسلهم، واتخذوهم هزواً، محلاً للعب والضحك والعبث والتنكيت، وما إلى ذلك من الأساليب التي يصدون بها عن دين الله عز وجل ، ويكذبون بها رسل الله جل في علاه، والله تعالى ذكر الحسرة في مقام الاستهزاء، وذلك أن المستهزئ بالرسل هو أعظم الناس ندامة.
المستهزئ بالرسل المستخف بما جاءت به الأنبياء خسارته عظيمة، وبلاءه كبير، ولذلك قال بعض أهل العلم:"الاستهزاء بالرسل أعظم موجبات حضور الحسرة".
لأنها دعيت، والذي دعاها رب العالمين في أحد الأقوال في تفسير الآية﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾.
يا كآبة، ويا ندامة، ويا خسارة عظيمة تنزل بهؤلاء، لماذا؟ لأنهم قابلوا رسلهم بالتكذيب، وقابلوا رسلهم بالاستهزاء والاستخفاف.
الله جل وعلا بعد أن ذكر عملهم الذي أوجب لهم الحسرة والندامة وهو مقابلتهم الرسل بالاستهزاء والاستخفاف أمر بالنظر الاعتباري، كيف وقع منهم هذا؟، يعني من أسباب عدم الوقوع في تكذيب الرسل الاعتبار بأحوال من مضى.
لذلك قال جل وعلا:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، هذه الآية العظيمة كالتذكرة التي توقظ الغافل، وهي خطاب لأهل مكة لأن أولئك قد فنوا، وحاق بهم العذاب، ولم ينتفعوا بالنذارة، ولم ينتفعوا بوعظ الرسل وتذكيرهم.
أما هؤلاء الذين بعثت فيهم يا محمد، وهم المعاندون الذين عاندوا هذه الرسالة على مر العصور في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يومنا هذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن من أسباب الانزجار والانكفاف عن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتبر الإنسان بما أجراه الله تعالى على المكذبين للرسل، الذين ذكر الله خبرهم، وأبقى من أثرهم ما هو عبرة وعظة لكل معتبر، ولكل ذي نظر وبصر.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ سورة يوسف:109..
وقال تعالى:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ سورة الروم:42..
كل ذلك لتنزعج القلوب، ولتتنبه ولتننزجر عن تكذيب الرسل، يقول الله تعالى:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾.
كم هنا تكثيرية، ألم يعلموا، ألم يخبروا، بتلك القرون التي أهلكت ونزلت بها العقوبات وحاق بها سوء العذاب بسبب تكذيبهم وردهم لما جاءت به المرسلون.
إن ذلك لا يكون إلا ممن انطمست بصائرهم وعميت قلوبهم، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾، فيكون لهم في ذلك عبرة، وقد قال الله تعالى في آية أخرى:﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾، أي هؤلاء المكذبون لك يا محمد يمشون في مساكن أولئك الذين عذبوا، ونزلت بهم المثلات، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ سورة طه:128..
لأولي العقول والبصائر، لأصحاب الفكر والنظر.
لكن كما قال الله جل وعلا:﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ سورة الحج:46..
أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه، وأن ينفعنا بهذا القرآن العظيم، وأن يجعلنا من أهله الذين هم أهله وخاصته.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.