بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الخامسة والستون ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، له الحمد على نعمه القديمة والحديثة، الصغيرة والكبيرة، فما بكم من نعمة فمن الله فاحمدوه، فبحمده تنال رضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،أنار الله به السبيل، وهدى به من الضلالة، وبصَّر به من العمى، أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، باتباع هديه تنال السعادة، وبالتزام سنته يحصل السبق، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته،واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
في هذا البرنامج الذي نتناول فيه أمثال القرآن بياناً وتوضيحاً، اعتباراً واتعاظاً، تدبراً وتفكراً، نسأل الله أن يثمر ذلك عملاً صالحاً تثقل به الحسنات وترتفع به الدرجات.
قال الله جل وعلا في محكم كتابه في خاتمة ما ذكره سبحانه من الآيات والعبر في مثل أصحاب القرية الذي ذكره في سورة يس، ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، هذا الخطاب موجه إلى المكذبين لخاتم الرسل، سيد ولد آدم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى نافح عن رسوله، وبيَّن صدقه بأنواع الدلائل ومختلف البينات، وما من آية من آيات الرسل تدل على صدقهم، إلا أيَّد الله بها خاتم المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، ذلك أن رسالته خاتمة الرسل، وهو الرسول العام لكل الناس، لكافة الخلق، من الإنس والجن، فالكل مأمور باتباع رسالته، لذلك جاءت الآيات والبينات والدلائل والبراهين متنوعة تنوعاً يقطع الحجة، ويبين المحجة، ويوضح الصدق، ويجلي كل غبش يمكن أن يعلق في صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم .
الله تعالى يقول في هذه الآية بعد أن قصَّ خبر أصحاب القرية الذين كذبوا الرسل والناصحين، قال جل وعلا مخاطباً أهل مكة ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾، ألم يخبروا، ألم يعلموا، ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾، إنهم رأوا ذلك، وهذا الاستفهام استفهام إنكار عليهم، كيف تكذبون محمداً، وقد قامت الدلائل على صدقه؟!، كيف تكذبون محمداً، وقد أيده الله بما أيده به من البراهين والحجج الظاهرة والبيِّنة، وأعظمها هذا القرآن العظيم الدال على صدقه الذي تقرون أنه ليس من قول البشر.
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُون﴾، فما الذي يؤمنهم أن يلحق بهم ما نال تلك القرون من العقوبات.
إن الله أقام الشواهد على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالاعتبار بمصائر الغابرين، ومآل السابقين، في آيات كثيرة، وخاطب أهل مكة المكذبين، وهو خطاب لكل البشرية، بل لكل الإنس والجن على مر العصور، وتعاقب الدهور، كل من كذب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له:﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ سورة طه:128..
اليوم سهل التنقل، ورأى الناس من الاكتشافات التي عرفوا بها أحوال الأمم السابقة ما هو أكثر من أولئك الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، عندما كانت أمورهم على بساطة، ووسائل النقل كانت إبلاً أو حميراً أو خيولاً، قريبة المدى، لا ينطلقون في جهات الأرض كما هو حال الناس اليوم، ينطلقون براً وبحراً وجواً، ويبصرون من الآيات والعبر ما لم يقف عليه الأوائل.
بل حتى من لا يتحرك وهو في مكانه يرى من آيات الله عز وجل التي تخبر وتشهد على عقوبات الأمم وهو في مكانه بسبب وسائل الاتصال والتصوير والنقل الذي ينقل أحوال الدنيا من أقصاها إلى أقصاها.
فلذلك ينبغي أن يتعظ ويعتبر بحال الأمم السابقة، وحال الأمم المكذبة، فإن الله كرر هذه العبارة، وهذا التذكير، وهو الاعتبار بمصائر وأحوال المتقدمين.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾.
قال:﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ سورة السجدة:26..
وقال جل وعلا:﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾.
ويقول جل وعلا:﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ سورة مريم:98..
أي هل تسمع لهم صوتاً، أو ترى لهم أشخاصاً يخبرون عنهم.
ويقول جل وعلا:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ سورة الأنعام:6..
تلك الآيات والعبر التي أبقاها الله تعالى للناس حتى يعتبروا.
بل لما ذكر العقوبات يقول على عاد على سبيل المثال بعد إهلاكهم:﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ما الحكمة؟﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ سورة الأحقاف:25. .
هذا الجزاء الذي تشاهدونه بأنه لم يبق من أولئك إلا مساكنهم هو جزاء المجرمين، على مر العصور، فليس خاصاً بعاد، ولا بغيرها من الأمم التي نالت العقوبات، ونزلت بها المثلات، والله تعالى يقول:﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ سورة الملك:18..
ويقول:﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾، ثم يقول في وجوب الاعتبار من تلك الحوادث والنوازل حتى تتعظ القلوب وترجع، وتنتفع من الأمثال والمثلات، يقول:﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ سورة الحج:45- 46. .
هؤلاء يا محمد الذين استهزءوا بك، واستهزءوا برسل من قبلك لم يتخلف عنهم موعود الله عندما تستكمل السُّنة شروطها، وتستكمل موجبات وقوعها، يقول الله:﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ سورة الأنعام:10..
والآيات في هذا كثيرة، متنوعة، كلها دالة على حقيقة ماثلة، وهي حلول النقم بأعداء الله تعالى، وانتصاره جل وعلا لأوليائه، وأنه سبحانه وبحمده يدين أهل الحق، ينصر أهل الهدى على من خالفهم، ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ سورة المجادلة:21..
تلك القصص التي جاءت في القرآن لم تأت لمجرد الإخبار بل كانت عبرة وعظة، يقول جل في علاه:﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾، أي بالدلائل الدالة على صدق المرسلين، ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ سورة الأعراف:101..
الله جل في علاه من رحمته أن أخبرنا بأحوال الأمم السابقة ليتعظ الناس ويعتبروا، ويرجعوا إلى ربهم فيصدقوا الرسل وينقادوا لخاتمهم.
إن الله جل في علاه خاطب أهل مكة، وهو خطاب لكل من كذَّب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يعتبر وأن يتعظ بأخبار الأمم السابقة:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ يقول جل وعلا:﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾.
أي الحال أن أولئك لا يرجعون بعد إهلاكهم، لا يرجعون إلى الدنيا فيمنحوا فرصة للأوبة، لا يرجعون إلى الدنيا فيمهلوا ليتوبوا ويستعتبوا.
بل إذا حل العقاب، ونزل العذاب انقطع الرجوع، بل إن الله تعالى بيَّن السبب الذي منع بحكمته، ورحمته رجوع أولئك، حيث قال:﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ سورة الأنعام:28..
فلا رجوع، ولا فرصة بعد تلك الفرصة، فهو حفز لهم أن يهتموا بزمانهم، وأن يغتنموا هذه الفرصة الممنوحة لهم، فيصدقوا الرسول قبل أن تحل بهم العقوبة، ثم لا سبيل إلى الرجوع، لا سبيل إلى الرد، لا سبيل إلى فرصة أخرى، فإنه إذا بلغت الروح الحلقوم انقطع الرجاء، وأغلقت أبواب التوبة، وحيل بين الإنسان وبين ما يشتهي من صلاح وهدى.
هذه الآية فيها من العظة والعبرة ما تجل لها قلوب الناس، وهي ليست خاصة بالمكذبين تكذيباً كلياً، بل هي لكل أحد أن يتعظ وأن يعلم أن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فليبادر قبل الأخذ، فإنه إذا أخذ قد لا يتمكن من العودة، بل لا يتمكن من العودة إذا كان الأخذ بسبب الكفر والتكذيب، كما قال جل وعلا:﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، أي لا يردون إلى الدنيا، ولا يبعثون ثانية قبل يوم القيامة ليصلحوا أعمالهم، وينقذوا أنفسهم مما هم فيه من الهلاك.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعنا على طاعتك، واصرف عنا معصيتك، واجعلنا من أهل العبرة والعظة، وأيقظ قلوبنا من الغفلة، واحشرنا في زمرة أوليائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.