بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة السادسة والستون ))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله،شهادة أرجو بها النجاة من النار، والفوز بالجنان.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، ختم الله به الرسالات، وهدى به الإنس والجن، أخرج الله تعالى به الإنس والجن من الظلمات إلى النور، هدى به من العمى، بصَّر به من الضلال، أنار به السبيل، فحقه أن يصلى عليه، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، واهتدى بهداه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
هذه الحلقة هي خاتمة الحلقات التي نتناول فيها ذلك المثل العظيم الذي هو أطول أمثال القرآن، مثل أصحاب القرية، الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس، وقد ختم الله تعالى هذا المثل بالموعظة وبيان موضع الاعتبار، والتنبيه إلى الانتفاع بهذا المثل في الانزجار عن التكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم .
يقول الله جل وعلا:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وهذا ما يفعله كثير من المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم يستهزئون به في أقواله، في أفعاله، في هديه، في سنته، وهو أكمل الخلق هديا، وأحسنهم سمتاً صلى الله عليه وسلم .
لكن لا سلامة من الناس، من رام السلامة من الناس فهو مجنون، كما قال بعض السلف، فإن الناس جبلوا على أنواع من الكنود، كما قال الله تعالى:﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ سورة العاديات..
فالإنسان كنود يجحد الخير، ولا يقر به لأهله، ومن ذلك استهزاء المكذبين بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم ما فعلوا ذلك إلا لردى عقولهم، وتردي نصيبهم، وإلا فهو أكمل الخلق هدياً صلى الله عليه وسلم .
يقول الله تعالى:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، وهذا الخطاب للمكذبين للرسل، ولكل من أراد الاعتبار والاتعاظ بحال الأمم السابقة، فتلك العقوبات تحيي القلوب لأنها شواهد حاضرة، ودلائل قائمة، على مصائر المكذبين للرسل، ومآلات أعمالهم، ومنتهى أفعالهم، وأنه بوار وهلاك، ثم هذا الهلاك لا فرصة بعده في الحياة الدنيا.
ولذلك قال جل وعلا:﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾.
بعد ذلك لئلا يتوهم متوهم أن نهاية الأمر فيما نزل بهم من عقوبات، وأنهم بهذه العقوبة قد نالوا جزائهم، وأدركوا عاقبة أفعالهم، وأنه لا حياة بعد ذلك، قال جل في علاه:﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
هذه الآية فيها الخبر عن قيام الناس لرب العالمين، وأن هذا القيام لا يستثني أحداً، فقوله ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا﴾، إن هنا نافية كما قال جماعة من المفسرين، بمعنى "ما"، وما كل إلا جميع لدينا محضرون.
هذا معنى الآية، أي أن الجميع من الأمم السابقة واللاحقة، من المرسلين، والمكذبين لهم، من المؤمنين والكافرين، من الإنس والجن، من الأولين والآخرين، كل أولئك هم كما قال ربنا﴿مُحْضَرُونَ﴾، أي سيحضرهم الله جل وعلا، ويجمعهم، ولذلك قال:﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
وجاء بـ ﴿جَمِيعٌ﴾، مع أنه قال:﴿كُلٌّ﴾، لتأكيد معنى الاجتماع، وأنه يشمل الجميع فلا يستثني أحداً.
فأخبر الله جل في علاه، بعد ذلك المثل، وذلك الوعظ أن الجميع عائد إلى الله، فالله سيعيد الجميع خلقاً آخر، ويبعثهم بعد موتهم، ويحضرهم بين يديه جل في علاه، وذلك ليحكم بينهم بحكمه، ويقضي بينهم في الدقيق والجليل، والنقير والقطمير، لا يتخلف عن ذلك أحد، ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ سورة النساء:40..
هذا البعث، وذلك الإحضار، أخبر الله تعالى به في مواضع عديدة في كتابه، منها قوله تعالى في حال الناس بعد بعثهم وقيامهم من قبورهم، ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾، أي من الذي أقامنا وردنا من قبورنا، يأتي الجواب:﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ﴾، هذا الذي كذبتموه من البعث والنشور هو وعد الرحمن، ﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾، أي فيما أخبروا به من البعث والنشور فيما حذروكم من القيام بين يدي رب العالمين، للمجازاة على الأعمال﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ سورة يس:35..
أي كلهم لا يستثنى منهم أحد، مجموعون لموقف الحساب.
وقد يقول قائل: سيستغرق ذلك زمناً طويلاً، ومدداً كثيرة، الله تعالى يقول:﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ سورة النحل:77..
إن ذلك الجمع العظيم لا يستثني أحداً، وفيه يجزى الناس على أعمالهم، وفيه ينقسم الناس إلى قسمين، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
هذه حال الناس في ذلك الموقف العظيم، وهذا شأنهم في ذلك الجمع الكبير، وهو بشرى للمؤمنين، أن ما عملوه لن يضيع، ونذارة للمسرفين والكافرين والمكذبين أن ما يفعلونه سيلقونه بين يدي الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ سورة الزلزلة..
فالجميع بين يدي الله تعالى حاضر، كلهم حاضر، لماذا؟ للحساب، للمجازاة على الأعمال، للمسائلة، لا يغيب عن ذلك الموقف أحد.
وهذا فيه تحذير أولئك المشركين من المضي لما هم فيه كما ذكرت، وفيه البشارة للمرسلين ومن آمنوا بهم أنهم إلى الله تعالى راجعون، وأنه لن يخيبهم على ما قاموا به من الأعمال الصالحة، وما عملوه من صالح الأعمال، هذه خاتمة ذلك المثل، الذي ذكره الله تعالى في سورة يس ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
بعد ذلك عاد السياق إلى ذكر الآيات والبراهين الدالة على صدق ما جاء به المرسلون، من آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس.
وبهذا يكون قد تم ما يتعلق بهذا المثل، وفيه من العبر والعظات والوقفات ما هو حري بأن ينتفع منه المؤمن في دينه وإيمانه، وفي سلوكه وعمله، وفي معاملته وخُلقه، فإن الإنسان ينتفع من هذه الأمثال بعد التدبر فيها وعقلها وقد قال الله تعالى:﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ سورة العنكبوت:43..
هذا ما يسر الله به في هذه الخاتمة لهذا المثل العظيم وهو أطول مثل ذكره الله في كتابه جل في علاه، ولعل الله أن ييسر وقوفاً على أبرز ما في هذا المثل من العبر والعظات.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.