بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة السابعة والستون ))
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد، أحق من حمد، وأجل من ذكر، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله،وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
قرأنا في حلقات مضت أطول مثل ذكره الله تعالى في كتابه، ذاك المثل الذي ذكره لأصحاب القرية، وهو مثل عظيم تضمن فوائد جليلة، وعبر عظيمة، والله إنما ضرب الأمثال ليعقلها أولوا الألباب، بل قد قال جل في علاه ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ سورة العنكبوت:43..
فشهد الله تعالى بالعلم لأولئك الذين عقلوا، وفهموا ما تضمنته تلك الأمثال من العبر والعظات، نقف في هذه الحلقة –إن شاء الله تعالى- على أبرز ما في هذا المثل من العظات والعبر، من الفوائد والهدايات، فإن ذلك هو المقصود من تلك الأمثال التي ضربها الله تعالى في كتابه، وذكرها في محكم آياته.
يقول الله جل وعلا في مطلع ذلك المثل في سورة يس:﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾.
وفي هذا من الفوائد عظيم رحمة الله تعالى بعباده، حيث نوَّع الأساليب والطرق التي يبين بها الحق، ويجلي بها الطريق، ويقيم بها الحجة، ويوضح بها البرهان، فإن الله تعالى قرر الحق في كتابه، ونوَّع الأساليب التي توضحه وتدل عليه وتقيمه، فبين محاجة بالأدلة والبراهين، وبين لفت للأنظار إلى آيات الله تعالى الخلقية والكونية الدالة على صدق ما جاءت به الرسل.
جاء القرآن بضرب الأمثال، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بضرب المثل، ليتبين الحق ويتضح، ويتعظ المقصود بالخطاب، فالله تعالى أمر رسوله بأن يقرب الحق للمشركين المعاندين، ولكل من تصله هذه الدعوة، بضرب الأمثال التي تحضر بها المعاني سهلة قريبة.
فالمثل هو تصوير، المثل هو تقريب لأمر ذهني بصورة محسوسة.
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوه يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فكذبه قوم وعارضوه.
في دعوة هؤلاء قال الله تعالى لرسوله:﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾، حتى يتبين لهم حال المكذبين، ويتبين لهم عاقبة التكذيب، ويتبين لهم شؤم ما ينتهي إليه مصيرهم كما يتبين عاقبة المتقين، وما يناله المصدقون من عظيم الجزاء والأجر، فهذا المثل دائر على هذا المعنى.
ولذلك كان من رحمة الله أن نوَّع الأساليب التي يتبين بها الحق.
من فوائد هذا المثل الاعتبار، بأخبار الأولين وقصصهم، فإن الله تعالى إنما قصَّ خبر من تقدم ليعتبر السامع ويتعظ فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير،﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ سورة الفتح:23..
وما أجراه الله تعالى في الأقوام السابقين جار على كل قوم حصل منهم ما حصل ممن تقدم فسنة الله جارية،﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة هود:102..
ويقول جل وعلا:﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ سورة طه:99..
ويقول سبحانه وبحمده:﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ سورة الأعراف:101..
إن الله تعالى قصَّ أخبار الرسل وذكر ذلك في محكم كتابه ليتعظ المتعظون، ويعتبر المعتبرون﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ سورة يوسف:111..
إن من فوائد هذه القصة، وهذا المثل الذي ذكره الله تعالى في محكم كتابه أن الرسل جاءوا بدعوة واضحة بيِّنة لا تلتبس، فقد جاءوا إلى قومهم مبشرين، جاءوا إلى قومهم منذرين، لم تكن في دعوتهم غموض ولا خفاء، بل كانوا على غاية الوضوح، حيث قالوا لقومهم في دعواتهم وفي كلامهم ما بينوا به خطأ ما عليه أولئك من عبادة غير الله، ومن التوجه إلى سواه، ومن مخالفة ما فيه صلاح الدنيا وما فيه صلاح الآخرة، ولذلك جاءوا بكلام بيِّن ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾.
مرسلون بماذا؟ مرسلون بالحق والهدى وصلاح الدنيا وصلاح الآخرة.
لقد كانوا واضحين في بيان مهمتهم، وأن مهمتهم هي البلاغ المبين، وهذا من وضوح الرسل في دعواتهم كما قال الله تعالى عن هؤلاء الثلاثة الذين جاءوا إلى أقوامهم داعين إلى عبادة الله وحده قالوا:﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
والله تعالى قد بيَّن مهمة الرسل في آيات عديدة، فقال جل وعلا:﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ سورة النحل:35..
فوضوح الرسالة داع، ووضوح الرسالة موجب لقبولها، لأن المتلقي السامع يفهم ماذا تريد، ويدرك ما هو غرضك وهدفك مما تدعو إليه، فيكون ذلك موجبا لقبوله، وموجبا للقناعة به.
ولهذا كان الرسل في غاية الوضوح أنهم لا يرجون من أقوامهم شيئاً من متاع الدنيا أو من منافعها، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى- في فوائد هذه القصة.
من فوائد هذه القصة أن الرسالات، وأن الحق يتأكد ويظهر بكثرة أدلته، فإن الله تعالى أرسل إلى هؤلاء في أول الأمر رسولين، قال تعالى:﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾، فاحتاج الحق إلى تعزيز لا لضعفه، لكن لتقويته وإظهاره وتجليته،﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾، فكثرة الأدلة على الحق تعززه، وتظهره، ولهذا ينبغي لمن يدعو إلى الله عز وجل ، ومن يبين حقيقته، أو يدعو إلى بصيرة في أمر من الأمور أن يستكثر من الأدلة التي يستبين بها الحق إذا دعا إلى ذلك داعٍ.
أما إذا تبين الحق بأقرب دليل فإنه لا حاجة إلى تكثير الأدلة، لأن في ذلك ما قد يشوش ذهن السامع، أو ما قد يطيل عليه الوصول إلى مراده ومقصوده.
والمقصود هو إبانة الحق، فإذا بان الحق بدليل كان ذلك كافياً عن أن يضيف إليه أدلة أخرى.
أما إذا اقتضت مصلحة، أو دعت حاجة إلى أن ينوع الأدلة أو أن يكثرها، فإن الحكمة تقتضي أن يأتي بالأدلة التي تعزز الحق.
الله تعالى بعث إلى هؤلاء أول الأمر اثنين فكذبوهما، فلما حصل التكذيب عزز الله تعالى بثالث، وكان واضحا في موافقته لمن تقدمه من الرسل حيث قالوا:﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾.
إن من فوائد هذه القصة، وهذا المثل الذي ذكره الله تعالى، تواطئ أهل الضلال، وأهل الانحراف فيما يعارضون به الحق.
اتفاق أهل الضلال واتفاق أهل الباطل فيما يردونه على من يدعوهم إلى الحق والهدى، فإن هؤلاء لما جاءتهم الرسل إلى الله داعين، وبه معرفين، لم يجدوا حجة لإبطال دعوتهم ورد ما جاءوا به إلا أن قالوا لهم كما قال الله تعالى:﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾، يعني نحن لا نصدقكم لأنكم بشر، فجعلوا بشرية هؤلاء دليل بطلان ما دعوا إليه، دليل كذبهم وعدم صدقهم، مسوغ لعدم الانقياد لهم.
وهذا ما كان ممن كان قبلهم، فإن الأقوام كانت تأتيهم الرسل فيردون رسالاتهم بهذه الحجة، قال تعالى:﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ سورة التغابن:6..
وكما قال تعالى﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ سورة الإسراء:94..
هذا تواطئ من أولئك على تكذيب الرسل بهذه الحجة الباطلة الداحضة، والله تعالى قد ذكر تواطئ المكذبين، وأصحاب الباطل، بتكرار شبههم واعتراضاتهم التي بينتها النصوص وفندتها الأدلة النقلية والأدلة العقلية التي لا يقوم معها مثل ذلك التشويه.
هذا بعض ما يسر الله تعالى من الفوائد المتعلقة بمثل أصحاب القرية الذي ذكره الله تعالى في سورة يس.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى- نستكمل فيها هذه الفوائد أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.