بسم الله الرحمن الرحيم
(( الحلقة الثانية والسبعون ))
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله،إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، وأدَّى ما أمره الله تعالى به من نذارة العالمين، فترك الناس على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، وعمل بهديه، بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
نحن وإياكم لازلنا نتفيء ظلال تلك الآيات المباركات في المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة يس، عن أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين، وما كان من شأنهم مع الرجل الذي جاء ناصحاً لهم، وما كان من شأنه بعد أن قتلوه، وبعد أن أصابوا منه، وكيف نزلت بهم عقوبة الله عز وجل ، وما حل بهم من النقم.
يقول الله عز وجل :﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
هذه الآية في هذا المثل تدل على أن جميع المرسلين قوبلوا بالاستهزاء من أقوامهم، فما من رسول بعثه الله تعالى إلا وقابله قومه بنوع من الاستخفاف، بنوع من الاستهزاء.
لكن ذلك الاستهزاء، وذاك الاستخفاف لم يثني الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، عن القيام بما وجب عليهم من بلاغ رسالة الله عز وجل ، وهداية الخلق وبذل الوسع في دلالتهم على صحة ما جاءوا به، وصدق رسالاتهم، فمن اهتدى فمن الله، ومن ضل فإنما يضل على نفسه.
إن الله تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة عظيم الحسرة التي تحضر أولئك العباد المستهزئين.
حيث قال تعالى:﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، وقد تقدم في تفسير الآية الخلاف في إضافة هذه الحسرة، هل هي مضافة إلى الله عز وجل ، أم إلى العباد – أي الخلق-، وهل هم الرسل أو الكفار، أم الملائكة، أم غير ذلك.
تقدم تفسير هذا وبيانه فيما سبق.
والمقصود على كل هذه الأوجه أن الحسرة عظيمة كبيرة، فإن قول القائل يا حسرة على العباد، أي هذا أوان الحسرة فتحضر.
ولذلك جاء بالتنبيه، أو بالنداء على قول بعض المفسرين، ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾، والأقرب أنها للتنبيه، فإنه الحسرة لا تنادى، وإنما ينبه إلى عظيم الحسرة، وهي شدة الندم الذي لا نهاية له.
يرفض القلب، ويغشى الفؤاد، فيجعله حسيرا لا يتحرك، لا يبتهج، لا يفرح، لا يسر.
تلك الحسرة ما سببها؟ سببها ما واجه به أولئك المكذبون الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه ما أتاهم من رسول، كما قال جل وعلا، ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
أي يستخفون ويأخذون قوله ودعوته على وجه الهزأ واللعب وعدم الجد.
من فوائد هذه الآيات الكريمة عظيم رحمة الله تعالى بعباده، وعظيم تحذيره لهم، حيث ذكر كبير الحسرة التي تصيب أولئك، وهذا ذكر لتوصيف ما سيؤول إليه الأمر.
لكن هذا لا يبصره كل أحد، فعيون القلوب تعمى فلا تبصر تلك العواقب، والنهايات، فتظن أن القدرة مع البغي، والقوة مع الاستكبار، والتنعيم مع الإعراض عن الله عز وجل سيكون مستمراً.
وكل ذلك يزول، فلا قوة تبقى، ولا قدرة تستمر، ولا سعادة تقر، مع تكذيب ما جاءت به الرسل، بل كل ذلك يضمحل ويزول كما قال جل وعلا:﴿إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾.
إن أولئك المكذبين للرسل يعمدون إلى أساليب كثيرة في تكذيبهم لرسلهم، من أشد ما يكون على الرسل الاستهزاء، لماذا؟
لأن الرسل يأتون بقضية كبيرة، يأتون مشفقين على أقوامهم، يأتون يخبرونهم بأن طاعة الله تعالى تجلب لهم سعادة الدنيا وفوز الآخرة.
هذه قضية الكون، قضية الخلق، قضية الوجود، وهي تحقيق العبودية لله عز وجل ، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ سورة الذاريات:56..
يتكلم بها المرسلون مع أقوامهم، فيجاوبون بالاستخفاف، فيجاوبون بالاستهزاء، فيشق ذلك على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وذلك بسبب أن هؤلاء قابلوا هذه القضية الكبرى التي فيها الفلاح والفوز بهذا الأسلوب الساخر المستخف الذي يجعل تلك القضية من همل القضايا، ومن سفاسف الأمور، وهم في هذا مخطئون.
الله تعالى عاد إلى تذكير العباد بعد ذلك المثل إلى حال الأمم مع رسلهم، وأنهم يقابلون الرسل بالاستهزاء، كما قابل مشركوا مكة رسول الله بالاستهزاء، وكما يفعل ذلك إلى يومنا هذا أقوام يستخفون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع توافر الأدلة والبراهين على صدقه، وعلى صحة ما جاء به، لكنهم لا يقرون بذلك بل تعمى قلوبهم عن إدراك الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم.
الله تعالى يقول:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾.
في هذا من الفوائد أن القرون الذين كذبوا الرسل كثر، كما قال تعالى:﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سورة الأنعام:116..
فكثيرون هم المكذبون للرسل، وفي إهلاكهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، لذلك ينبه الله تعالى إلى تلك النهايات حتى يعتبر المعتبرون، ويتعظ من هم في وقت الإمكان من أن يؤول بهم المآل إلى أولئك القوم، وأن يصير حالهم كحال أولئك.
ومن دلائل عظيم قدرة الله عز وجل ما أخبر به من إهلاك القرون السابقة مع عظيم مكنتهم وقدرتهم، وفي ذلك الإهلاك عبرة وآية وعظة، لذلك كرر الله عز وجل هذا الأمر في آيات كثيرة تنبيهاً إلى عظيم العبرة الحاصلة بالنظر في أخبار الأمم السابقة.
وما بقي من شواهدهم التي لا زالت ترى وتبصر، كما قال جل وعلا:﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ سورة إبراهيم:44- 45.، كل هذه زواجر.
يعني هي أخبار وقصص تتناقل، وشواهد قائمة تبصر، كل هذه تدل على عظيم ما أنزله الله تعالى بأولئك من العقوبات، أفليس في ذلك زاجر؟، أفليس في ذلك رادع عن الاستمرار في التكذيب، والمضي في الاستهزاء ورد ما جاءت به الرسل؟! بلى والله، لكن الأمر كما قال جل وعلا:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ سورة الحج:46..
فكل أولئك الرسل الذين استهزأ بهم، واستخف بهم، فازوا ونجوا وأما المستهزئون فقد حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون كما قال جل وعلا مواسياً رسوله، ومسلياً، ومصبراً نبيه والمؤمنين الذين يسيرون على طريقه في دعوة الله عز وجل ، وتبليغ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم :﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ سورة الأنعام:10..
إنها عقوبات جاءت الأخبار بإثباتها، تدل على عظيم نهاية أولياء الله تعالى، وشؤم من كذب الرسل.
في هذه الآيات عظيم قدرة الله عز وجل على جمع الأولين والآخرين، فإن الله تعالى يجمع تلك الأمم على محل واحد، ووقت واحد، وصعيد واحد، يقول الله تعالى:﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
وهذا فيه إثبات المعاد، وأنه معاد لكل الأمم، ولكل الخلق، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ سورة مريم:93..
والإيمان بالمحشر، وجمع الخلائق بين يدي رب العالمين، من أصول الإيمان التي لا يصح إيمان أحد ولا يتم إلا بها، وهو جمع حقيقي كما قال تعالى:﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سورة المطففين :6..
ويقول جل وعلا:﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ سورة الأنعام:94..
فيجتمع الناس جميعاً بين يدي رب العالمين، ولقد أكَّد الله جل وعلا ذلك بمؤكدين في هذه الآية،فقال ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ﴾أي في وقت واحد، في مكان واحد، وفي حال واحدة، ﴿لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، بين يديه جل في علاه، يقضي فيهم ما يشاء، ويحكم فيهم ما يريد، وله سبحانه وبحمده الحكمة والقدرة وسائر الكمالات، ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ سورة غافر:16..
هذا ما يسر الله تعالى من فوائد هذا المثل العظيم، وقد أطلنا فيه بعض الشيء لما تضمنه من تفاصيل وأحداث فيها من العبرة والعظة ما ينتفع به أهل الإيمان.
فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم من المباركين، وأن يرزقنا وإياكم فهم الكتاب الحكيم، والعمل بالتنزيل، وأن يجعلنا دعاة هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.