بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الثالثة والسبعون))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمدا يوافي نعمه ويقتضي مزيده.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، وهدى إلى أقوم صراط وأحسن سبيل، أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وهدانا به صلى الله عليه وسلم من العمى، أخرجنا به من الظلمات، وجعل طريقنا في أوضح سبيل، وأبين طريق، فلا طريق أقوم ولا أوضح من سبيله صلى الله عليه وسلم ، فحقه أن يؤمن به، وأن يتبع، وأن يطاع، وأن يصلى عليه .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
نحن في هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى – نتناول مثلاً جديداً وهو ما ذكره الله تعالى من مثل في سورة الزمر، فقد أشاد الله تعالى أولاً بأمثال القرآن، وأخبر أنه ضرب الأمثال وبيَّن حكمة ضربها فقال:﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ سورة الزمر..
فضرب الله الأمثال في محكم كتابه ليتبين للناس الهدى، ويتضح لهم الطريق والسبيل، فإن القرآن نزل تبياناً للناس، كما قال الله جل وعلا:﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ سورة آل عمران:138..
ومن بيانه أن طرق كل الأساليب والسبل التي تتضح بها المعاني وتهتدي بها القلوب، ومن تلك الطرق التي سلكها القرآن في بيان الحق وإيضاحه، ضرب الأمثال.
فقد ضرب الله جل وعلا في كتابه الأمثال، وصرفها إيضاحاً للحق، وبياناً للهدى، وكشفاً للملتبس، فالتمثيل يكشف المعاني ويوضحها، لأنه في الحقيقة بمنزلة التصوير والتشكيل لتلك المعاني.
فضرب الله تعالى الأمثال في كتابه وأخبر جل في علاه عن أن من عواقب تلك الأمثال التذكر.
وذلك أن المثل يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه، ولهذا يقول جل وعلا:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ سورة الحج:73.، يدعو الناس جميعاً عربهم وعجمهم إلى أن يستمعوا إلى مثل من أمثاله التي ذكرها في كتابه لما في ذلك من انتفاع قلوبهم واتضاح الحق لهم، ولعظيم الحاجة إلى الأمثال التي يفهم بها الحق ويتضح بها المقام.
إن الله جل وعلا ضرب مثلاً في هذه السورة – وهي سورة الزمر- فقال:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الزمر:29..
فالله تعالى يقول في هذه الآية أنه قد جعل مثلاً يتضح به بطلان عبادة غير الله عز وجل ، يتضح به عظيم شؤم وخسارة وشقاء من جعل قلبه موزعاً بين المعبودات دون الله عز وجل ، فضرب لذلك مثلاً.
إذاً: مضمون المثل هو بيان شؤم عبادة غير الله عز وجل ، بيان سوء عاقبة من وزع قلبه بين معبودات تعلق بها.
والمعبودات لا يلزم أن تكون أصناماً، ينبغي أن يعلم أن العبادة تكون للهوى، تكون للمال، تكون للجاه، ومنها أن يعبد شمساً أو قمراً أو حجراً.
لكن هذا يشمل العبادة بكل صورها، فإذا تعلق القلب بغير الله عز وجل شقي، وهذا مثل يوضح كيف تكون حال الرجل، الشخص، الإنسان، إذا تعلق قلبه بغير الله عز وجل .
فالمثل عبارة عن رجل فيه شركاء متشاكسون، أي مختلفون ، فالتشاكس هو الاختلاف والتنازع وسوء الخلق.
فهي كلمة تجمع معاني تدور كلها على أن هؤلاء الشركاء متنازعون،ليس بينهم وئام، بل هم مختلفون.
وخلافهم ليس خلاف بأدب، إنما خلاف بسوء، خلاف بفظاظة، بغلظة ومشاكسة، لذلك قال تعالى﴿ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾.
والشركة هنا يحتمل أن تكون شركة في ملك هذا الرجل، وهذا في الرق، والعبودية، وهذا شيء لا وجود له في أكثر حال الناس اليوم.
لكن هناك شركة في المنافع يتضح بها المقام أيضاً حتى على وضع الناس اليوم، لأنه قد لا يتصور موضوع الرق وموضوع العبودية لأنه غير مفعَّل ولا موجود في حياة الناس اليوم، فإنه قد لا يتصورونه.
لكن حتى الشركة في المنافع، مثاله: عندك موظف يكون هذا الموظف يعمل لك ويعمل لغيرك، كالأجير المشترك مثلاً، فإذا كان يعمل لك ويعمل لغيرك، فأنت تطلب منه عملاً، والآخر يطلب منه عملاً، وليس بينكم اتفاق ولا وئام في توزيع الوقت وحصص المنافع من هذا العامل بالتأكيد أن حال الرجل ستكون بئيسة فلا ينجز ولا ينتج، ولا يستقر ولا يرتاح.
فهو لا يحقق ثمرة ولا نتاجاً كما أنه لا يهنأ ولا يطيب عيشه.
هكذا هو حال القلب إذا تعلق بغير الله عز وجل .
كرجل ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾، أي رجل فيه ملاك لعينه أو لمنفعته كالموظف مثلاً أو العمال، كل من الشركاء في منفعة هذا العامل، أو في خدمة هذا العامل يجذبه إليه، فلا يستقيم للعامل عمل ولا يقر له قرار، ولا يصلح له نتاج.
هل هذا كحال رجل ذكره الله تعالى في قوله :﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾، رجل خالص لرجل، خالص ملكاً كالرق، أو خالص منفعة، كالعامل الذي لا يعمل إلا لك.
مثاله: السائق الذي يستقدمه الإنسان ليعمل له في مكتبه أو في بيته ولا يعمل لغيره، كل منفعته خالصة لهذا الرجل فلا يشعر بالمزاحمة.
كما أن العامل لا يشعر بالإرهاق والتعب بإرضاء سادة مختلفين، أو رؤساء مختلفين أو ما أشبه ذلك.
الفرق بين حال هذين الرجلين فرق شاسع.
ومثل هذا الذي قال فيه تعالى:﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾، هو رجل سلَّم قلبه لله فليس في قلبه سوى محبة ربه ومولاه.
لا يتوجه إلى غيره، ولا يقصد سواه، ولا يعمل لغير مرضاة ربه جل في علاه.
هل هذا كالذي سبق في الحال والمآل.
هل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كالرجل الذي هو سلم لرجل، يقول الله تعالى:﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾.
الاستفهام هنا ليس للاستخبار والاستعلام، إنما هو للتحدي أن يكون هذين الرجلين على حال واحدة.
فهو استفهام يتضمن التقرير، بأنه لا يستوي هذا وذاك، ويستحيل أن يستويان في الإنتاج، وفي الثمرة، وفي الراحة، وفي الطمأنينة، فإن من فيه شركاء، وخلطاء متشاكسون، ليس كمن لا يملك منفعته إلا واحد.
فضرب الله تعالى في هذا الكتاب مثلاً لعظيم هناء الموحدين، وعظيم شقاء المشركين.
وهنا يتبين ما يدركه أهل التوحيد من السعادة والطمأنينة، كما قال جل وعلا في محكم كتابه:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ سورة الأنعام:82..
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾، يقول الله جل وعلا:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
حمد نفسه جل وعلا على بيانه وإيضاحه، وعظيم ما يتصف به من صفات جل في علاه، ومن ذلك أن جعل العباد يعبدونه وحده، وطلب منهم إفراده جل وعلا بالعبادة، فهو المستحق بالعبادة دون ما سواه.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، هذا خبر عن حال أكثر الناس، وأنهم لا يعلمون مصلحتهم، ولا يدركون منفعتهم، ولا تعي عقولهم ما تستقيم به حياتهم وتسعد به دنياهم، ولذلك تجدهم يوزعون قلوبهم في هموم شتَّى لكنهم لا يدركون سعادة ولا طمأنينة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا وإياكم من المخلصين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.