بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الرابعة والسبعون))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها الخلوص من الشرك والنجاة من النار.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة نقف وإياكم مع المثل الذي ضربه الله تعالى في سورة الزمر، وهو قول الله جل وعلا:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
هذه الآية الكريمة التي قررت قضية كبرى، قضية عظمى، ألا وهي خطورة الشرك وفائدة التوحيد.
فإنه مثل ضربه الله تعالى في سورة الزمر التي بينت عظيم خطورة الشرك، وإبطال حجج من احتج عليه، وبيان أن التوحيد هو سعادة البشرية.
فسورة الزمر تضمنت معاني عديدة تتضمن إبطال الشرك، وإبطال شبه المشركين، وبينت عظيم ثواب الموحدين، وجميل عاقبتهم من ذلك هذا المثل الذي بيَّن الله تعالى به خطورة الشرك، وفضل التوحيد.
فإن الله تعالى قد قال:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾، وهذا مثل ضربه الله لمن وقع في الشرك، فإنه متنازع بين أطراف عديدة، فإنه إن كان يعبد الله فذاك يوجب حقاً، وإن كان يعبد غير الله عز وجل فإنه سيتقرب إليه، فقلبه موزع بين حب الله وحب غيره.
ولذلك بيَّن الله تعالى أن من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، فيسوون غير الله بالله، فيقعون في ألواناً من الورطات، وصنوفاً من الشقاءات.
لكن أولئك الذين أخلصوا قلوبهم لله، فلم يكن في قلوبهم محبة إلا لله، وتعظيم إلا لله عز وجل كان حبهم في أعلى الدرجات.
ولذلك يقول الله تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ سورة البقرة:165..
لماذا؟ لأنه قد خلصت قلوبهم من كل حب لغير الله عز وجل ، فالقلب توفر على محبة المحبوب الأعلى الذي القلوب مضطرة إلى محبته، فلا سكون لها، ولا طمأنينة، ولا لذة، ولا بهجة، ولا سرور، ولا سكون، إلا بأن يمتلأ القلب بمحبة الله عز وجل .
إذاً: القلب الموزع بين أشياء كثيرة لا يهدأ ولا يقر ولا يطمئن، بل يشقى ويتعس.
فكل من سعى في رضا غير الله، في محبة غير الله، شقي بذلك.
لذلك قال جل وعلا، سبحانه وبحمده في بيان عاقبة الشرك، وعاقبة التوحيد:﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾، في المثل الذي ذكره، لا يستويان مثلاً.
لا تستوي هاتان الحالان، فشتان بين من أخلص قلبه لله، وحقق التوحيد له جل في علاه، وبين من وزع قلبه بين هموم شتى ومحبوبات عدة، وآلهة متفرقة، فإنه لا يقر ولا يسكن ولا يطمئن ولا يبتهج ولا يفرح.
الشرك أعظم ما عصي الله تعالى به، ولذلك كان شقاء على أهله في الدنيا، كما أنه شقاء على أهله في الآخرة.
ولما كان الشرك بناءه وقوامه على تسوية غير الله بالله.
يعني الشرك حقيقته هو أن تسوي غير الله بالله في شيء لا يكون إلا لله، إما أن يكون في أسمائه وصفاته، أو في ربوبيته، أو في أفعاله، أو فيما يجب له من العبادة، كل ذلك من جعل لله نداً فقد ضلَّ وشقي.
وقد نهى الله تعالى عن اتخاذ الأنداد فقال:﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سورة البقرة:22.، وبين عاقبة من جعل لله ندا، فقال:﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ سورة الزمر:8..
فمن جعل لله ندا من خلقه، أي مثيلاً يساويه في محبة أو في عبادة أو في خوف، أو في رجاء، فإنه موعود بهذه العقوبة العظيمة.
فالشرك أعظم ذنب عصي الله تعالى به.
لذلك جاء في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الذنب أعظم، قال:«أن تجعل لله نداً وهو خلقك» أخرجه البخاري(4477)، ومسلم(86)..
لأنه انتكاسة كبرى حيث أن الإنسان يعطل غاية الوجود ومقصود الخلق،فغاية الوجود ومقصود الخلق أن لا يعبد إلا الله، هذا الكون بسمائه وأرضه ما خلقه الله إلا لنعبده وحده لا شريك له.
فإذا توجهنا إلى غيره وسوينا به مخلوقات كالذين يدعون غير الله، فيدعون الملائكة، أو يدعون الرسل والأنبياء، كمن يدعو عيسى ابن مريم مثلاً.
أو يدعون الصحابة والصالحين، كمن يدعو علياً أو الحسين أو أبا بكر أو يدعو عمر، أو يدعو من يدعو من الصحابة الكرام.
كل هؤلاء قد عصوا الله عز وجل بأعظم ذنب وأكبر جرم وهو أنهم سووا مع الله غيره.
مثله هذه النذور التي تذبح لغير الله عز وجل ، ومثله أيضاً تعظيم القبور فيأتي الإنسان إلى صاحب القبر، ويستشفع به ويطلب منه الوساطة في قضاء الحوائج، ويطلب منه الإغاثة في اللهفات، وتفريج الكربات، كل هذا مخالف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
"لا إله إلا الله"، معناها أنه لا معبود حق إلا الله، فلا يجوز دعاء غير الله، ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾.
كذلك الذبح لغير الله، وكذلك محبة غير الله، الخوف من غير الله، العمل لأجل الناس كل هذه من اللوثات التي تدخل الإنسان في أنواع من الانحرافات ينتظمها وهي في مظلة الشرك الذي يوبق على الإنسان آخرته ويفسد عليه دنياه، فإن مصير المشركين إلى النار.
قال الله جل وعلا:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ سورة النساء: 48..
والله تعالى قد حرم الجنة على المشركين، فكل من أشرك فإن الجنة عليه حرام، وهو من أهل النار ، نعوذ بالله من الضلال وسوء الحال والمنقلب.
إن التوحيد سعادة الدنيا، وفوز الآخرة، ولذلك قال جل وعلا في هذا المثل في بيان الطمأنينة والسكينة والنفع الحاصل لمن وحد، ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾، في مقابل ذلك الرجل الذي ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾.
فالعبد إذا سلَّم قلبه لله سعد، إذا أخلص قصده لله عز وجل ابتهج، لم يكن في قلبه سوء ولا شر.
هذا المثل الذي بيَّن فيه شؤم الشرك ونفع التوحيد، وأن الموحد له الأمن التام، وله الطمأنينة الكاملة، كما قال جل وعلا:﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ سورة الأنعام:82..
بعد أن ذكر هذين حمد نفسه جل وعلا، ثم أخبر عن سبب عدم ظهور هذا الفرق عند من تورط بالشرك وهو الجهل، قال تعالى:﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وهنا نعرف أن كل فساد في الدنيا ناشيء عن الجهل، فإن العلم نور يبدد الظلمات، ويكشف المشتبهات، ويزيل العوائق، ولذلك جاءت الشريعة بهذه الأنوار التي تنير القلوب، وتضيء الأفئدة، وتبين السبل ، وتميز بين الحق والباطل.
لذلك إذا ظهرت أنوار الشريعة تضائل الشرك وانحسر، وإذا خفتت أنوار الشريعة وضعف سلطانها شاع الشرك وانتشر، نعوذ بالله من الشرك دقه وجله، ظاهره وباطنه، نعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم، ونستغفره لما لا نعلم.
نسأله جل في علاه أن يرزقنا والمسلمين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، واختم لنا يا ذا الجلال والإكرام بالسعادة والشهادة، واجعلنا من حزبك وأوليائك .
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.