بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الخامسة والسبعون))
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حمد عباده المقرين بفضله، المؤمنين بعظمته، المقرين له بالأسماء الحسنى والصفات العلى، أحمده لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، بعثه الله على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، وعماية من الطرق، فأخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
في هذه الحلقة نتناول مثلاً عظيماً ذكره الله تعالى في سورة الفتح،﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.
ابتدأت هذه السورة الكريمة ببشارة عظمى للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ، بأن الله فتح له فتحًا مبينًا عظيماً، وهذا الفتح هو انتصاره وظهور دينه، وتحقق مقصوده من دعوته الخلق وهدايتهم.
هذه السورة العظيمة ختمها الله تعالى بذكر محمد صلى الله عليه وسلم باسمه، وقد ذكره الله تعالى في آيات معدودات من كتابه، ومنها ما جاء في ذلك الخطاب الإلهي الذي بيَّن فيه مثل هذه الأمة، ووضح فيه ما سبق وذكره في الكتب السابقة من صفات هذه الأمة أفرادًا وجماعة.
يقول الله جل وعلا:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ﴾أي المتقدم من الوصف، ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾، وهذا هو المثل الثاني، الذي مثَّل الله تعالى به حال الأمة، وذكر وصفها في كتب المتقدمين من الأمم، ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾، بعد ذلك كله من البيان والتمثيل والتوضيح، لوصف هذه الأمة أفرادا وجماعة، يقول الله جل وعلا:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾سورة الفتح:29..
الله أكبر.. ما أعظمها من آية تضمنت الخبر عن هذه الأمة في أوصافها وأحوالها، ثم الجزاء الذي تستوجبه تلك الأمة على تلك الصفات التي ذكرها الله جل وعلا في بيان شأن هذه الأمة والبشارة بها في الأمم السابقة.
فقد بشَّر الله بأوصاف هذه الأمة قبل مجيئها أفرادا وجماعة.
هذه الآية الكريمة متصلة بما قبلها، ولذلك في الوقوف على معناها نحتاج إلى أن ننظر إلى ما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من الآيات.
ذكر الله جل وعلا في الآيتين قبل هذه الآية، خبر تصديق الله عز وجل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من دخوله مكة البلد الحرام، البلد العتيق، البلد الذي عظَّمه واصطفاه، ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾سورة الفتح:27..
هذه الآية بشَّر الله تعالى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بفتح قريب، وانتصار يدخلون على وجه يدخلون فيه معظمين لتلك البقعة، حيث قال:﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾، على أي صفة، يكون ذلك الدخول ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾، هذا ظاهرهم، وهذا منظرهم، وهذا ما يراه الناس منهم، فكيف بقلوبهم﴿ لَا تَخَافُونَ﴾، أي آمنين من كل خوف، وهذا تحقيق لقوله جل وعلا:﴿آمِنِينَ﴾، فأثبت لهم الأمن ونفى عنهم الخوف تأكيداً لهذا المعنى، ﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾، وهو ما يسره الله جل وعلا من الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين في الحديبية، فإنه الفتح الذي منه جاءت الخيرات وحصل للنبي صلى الله عليه وسلم من التمكن في دعوته والظهور لرسالته ما لم يتحقق قل ذلك، ولذلك بشَّر الله تعالى بهذا الفتح رسوله صلى الله عليه وسلم ،﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾.
ثم يقول الله جل وعلا بعد هذا الخبر عن تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن دخوله وأصحابه مكة على تلك الصفة، قال:﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ﴾، هو أي الله جل في علاه، الذي صدق رسوله الرؤيا، فالضمير متصل بما تقدم في قوله:﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾، فالضمير في قوله:﴿هُوَ الَّذِي﴾، هو الله جل في علاه، الذي صدق رسوله الرؤيا بالحق، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.
فأرسله بأعظم ما تصلح به حياة الناس وتسعد قلوبهم، وتستقيم أحوالهم، كما أنه أرسله جل في علاه بما يحصل به فوز المعاد، فجاءت هذه الأنوار العظيمة، وهذه الرسالة المباركة محققة لكل صلاح وفلاح ونجاح وسعادة للبشرية ليس في الآخرة فحسب، بل في الدنيا قبل الآخرة.
فارتباط الدين بالدنيا وثيق، والشريعة جاءت لإصلاح المعاش وإصلاح المعاد، ليس لإصلاح واحد منهما فحسب.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾، وهو العمل الصالح، ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾، العلم النافع، وقيل غير ذلك.
قيل: الهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وكل هذا الاختلاف وغيره مما لم أذكره هو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أن المعنى واحد وإن اختلفت العبارة، وإن اختلف التوصيف، وإن اختلف الكلام في ظاهره، لكنه يتفق في المعنى العام.
فالله عز وجل أرسل رسوله بالهدى، العلم الذي تقر به القلوب، وتطمئن، والعمل الصالح الذي هو دين الحق، الذي هو سعادة الإنسان.
فكل عمل يعمله الإنسان مما أمر الله به ورسوله تسعد به نفسه، وتصلح به أحواله.
﴿لِيُظْهِرَهُ﴾، وهذه البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة بكافة طبقاها، وعلى مر العصور والدهور، وعلى اختلاف الأماكن وعلى اختلاف الأحوال، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، هذا مراد الله، فاللام هنا لام العاقبة والصيرورة، وقيل لام التعليل، وفي كل الأحوال هي بشارة من الله عز وجل لنبيه ولهذه الأمة أن دينها ظاهر ليس على دين معين فحسب، ولا في زمان معين دون غيره، ولا في مكان محدد، بل ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، بكل أنواعه، وكل صوره، وشتَّى صنوفه، في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل حال، دين الإسلام ظاهر على غيره.
﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، وهذا الظهور تولاه رب العالمين، ولذلك قال جل وعلا: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، الله أكبر.
فإذا كان الله هو الشاهد على هذا الوعد، هو المطلع على سير الأمور، هو المدبر لهذا الكون فكيف يمكن أن يتخيل أحد أو يتوهم أن الوعد سيخلف، وأن ما أخبر الله تعالى به سيتخلف، بل لابد أن يكون، والله لا يخلف الميعاد.
ومنذ أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته المباركة، بدين الإسلام الذي أشرقت به الدنيا بعد ظلماتها، منذ أن جاء صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا يزال دينه ظاهر، ودعوته قائمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم :«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» أخرجه البخاري(3641)، ومسلم(156). .
بعد هذا جاء بيان من هذا الرسول الذي صدقه الله الرؤيا، من هذا الرسول الذي أرسله الله عز وجل بالهدى ودين الحق، فقال جل وعلا:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾، وهذا أحد الأقوال في معنى هذه الآية، أن قوله﴿ مُحَمَّدٌ﴾، خبر مبتدأ محذوف للإجابة عن سؤال: من هو هذا الرسول الذي صدقه الله الرؤيا؟، من هو هذا الرسول الذي بعثه الله وأرسله بدين الحق، وتكفل الله بإظهار دينه؟، إنه محمد، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.