بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة السابعة والسبعون))
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حمد عباده المقرين بفضله، المؤمنين بعظمته، المقرين له بالأسماء الحسنى والصفات العلى، أحمده لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، بعثه الله على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، وعماية من الطرق، فأخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
ولازلنا نتحدث عن المثل الذي ذكره الله تعالى في سورة الفتح مثَّل فيه حال الأمة ووصفها أفرادا وجماعات في الأمم السابقة.
يقول الله جل وعلا:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، أي المتقدم من الوصف مثلهم في التوراة، ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾، وهذا هو المثل الثاني، ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
هذه الآية المباركة تضمنت مثلين عظيمين، مثَّل الله تعالى فيهما أمة الإسلام، أمة الرسالة الخاتمة، وذلك في التوراة وفي الإنجيل.
تقدم الحديث عن قوله جل وعلا:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾، وأوجه معاني هذه الآية.
وكنا قد وقفنا على قوله تعالى:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾، وما تميزت به هذه الرسالة المباركة وأنها رسالة عامة شاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر، قال:«أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي»، يقول صلى الله عليه وسلم في أحد ما أعطيه وخصَّ به دون المرسلين من قبله، «وبعثت للناس عامة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة» أخرجه البخاري(355)، ومسلم(521)..
فكل رسول أرسله الله قبل خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، جميعهم مبعوثون إلى أمم خاصة، إلى أقوام معينين، أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة للناس كلهم في زمانه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي مكانه إلى كل مكان يصله صوت الحق.
فلا يدع الله بيت وبر ولا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل،﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ سورة التوبة:33..
وفي الآية الأخرى:﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ سورة الفتح:28..
هذا ما تميزت به هذه الرسالة من عمومها، وأيضاً أنها رسالة خاتمة، فلا رسول بعده صلى الله عليه وسلم ، كما قال جل وعلا:﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ سورة الأحزاب:40..
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، قوله جل وعلا:﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾،المقصود بهم أصحابه رضي الله عنهم ، فهم الذين صاحبوه، وكانوا معه في أحواله، وكلمة "مع" في اللغة العربية تدل على مطلق المصاحبة والمقارنة، ولا يلزم من هذه المصاحبة أن تكون مصاحبة مكانية، أو زمانية.
ولهذا قال بعض أهل العلم:"إن قوله جل وعلا﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، يشمل ابتداء أصحابه من المهاجرين والأنصار، ويشمل أيضاً كل من آمن به واتبعه، وسار على سبيله وطريقه، فهؤلاء معه عملاً، معه وصفاً، معه حالاً، معه ديناً، وإن كانوا ليسوا معه زماناً ومكاناً.
وهذا القول له حظ من النظر كبير.
لكن معلوم أن المعية تثبت بقدر ما يتحقق من المصاحبة، بمعنى أن المصاحبة كلما تحققت زماناً، ومكاناً، ووصفاً كان صاحبها أولى بالدخول في معنى الآية.
ولهذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أحق الناس بهذا الوصف، ولهذا تواطأت كلمات العلماء من أهل التفسير وغيرهم، في تفسير قوله تعالى:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، أنهم أصحابه رضي الله عنهم .
وقد قال محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية ما يفهم منه العموم في الآية، لشمولها الصحابة وغيرهم، يقول:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وأتباعه أصحابه الذين هم معه على دينه".
فيكون المعنى في هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من تحقق فيه هذا الوصف، لكن الصحابة لهم من هذا الوصف أعلاه، ولهم من هذه المعية أكملها، ولهم من هذه المقارنة أعلاها رضي الله عنهم وأرضاهم.
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾،وقد جاء بيان لحوق بقية الأمة بالصحابة، وإن كانت الآية خاصة بالصحابة كما قال بعض أهل العلم في آيات عديدة، كما قال تعالى في سورة الجمعة:﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، قال:﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾، زماناً، ومكاناً، يقول:﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾، أي مما يدخلون في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما ذكره الله عز وجل في سائر الأميين ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ سورة الجمعة الآيات:2- 4..
وقد قال الله جل وعلا أيضاً في سورة التوبة:﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾، ثم قال:﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ سورة التوبة:100..
فألحقهم في الفضيلة والأجر لما كانوا متبعين لأولئك بإحسان.
ويقول جل وعلا في الفيء، ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾، ثم يقول﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾، أي هذا بيان مصرف الفيء، ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾، ثم قال:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، فالأوائل هم المهاجرون، ثم ذكر الأنصار، ثم ذكر بقية من يلحق بهؤلاء، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ سورة الشر:7 – 10..
فهذه الآيات تدل على معنى المعية التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية المباركة﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾، والذين معه يشمل ابتداء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار، فهم أحق الخلق بهذه المعية، لأنهم قارنوه زماناً، قارنوه مكاناً، قارنوه حالاً وعملاً فخير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ثم بعد ذلك تدخل بقية الأمة في هذه المعية على حسب ما يقوم فيها من أوصاف الموافقة للنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وعمله وسنته ودينه.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.