بسم الله الرحمن الرحيم
((الحلقة الثامنة والسبعون))
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حمد عباده المقرين بفضله، المؤمنين بعظمته، المقرين له بالأسماء الحسنى والصفات العلى، أحمده لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم"أمثال قرآنية".
قد تناولنا في حلقات سبقت المثل الذي ذكره الله عز وجل في سورة الفتح ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، إلى آخر ما ذكر الله عز وجل في بقية هذه الآية.
تكلمنا في حلقة مضت عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه أعظم أوصافه، وأن رسالته عامة، وأن رسالته خاتمة، فلا رسول بعده صلى الله عليه وسلم .
وتكلمنا عن قوله جل وعلا:﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، وأن المقصود بالذين معه أصحابه رضي الله عنهم ، فالذين معه هم أصحابه من المؤمنين، المهاجرين والأنصار الذين رأوه ولقوه صلى الله عليه وسلم ، وتبوأوا هذه المنزلة العظمى، والمكانة الكبرى، والشرف الأسمى أنهم رأوا نبينا صلى الله عليه وسلم ، لقوه صلى الله عليه وسلم ، تلقوا عنه بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكرت أيضاً أنه يندر في قوله﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، كل من آمن به واتبعه، فإن المعية هي المصاحبة والمقارنة، لكن هذه المعية لا تقتضي الموافقة زماناً ومكاناً، فتشمل الذين معه ممن آمنوا به ولم يدركوه صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله جل وعلا:﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ سورة التوبة:100.، فشملهم الله عز وجل في السابقين الأولين في الفضل، حيث قال:﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
يقول الله جل وعلا في وصف هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية:﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.
بين يدي حديثنا على ما تضمنته هذه الآية من مثلين.
الآية فيها مثلان، وفيها بيان ثواب واجر من حققوا هذه الأوصاف.
افتتحها الله بجملة اسمية،﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، إما أن تكون جملتان، وإما أن تكون جملة على التنوع الذي ذكرناه في قوله جل وعلا:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.
فقوله جل وعلا:﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾، هذا شروع في بيان مثل محمد رسول والذين معه.
هؤلاء ما مثلهم؟ يقول جل وعلا:﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾.
هذا هو المثل الأول، وأما المثل الثاني:﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾.
هؤلاء وأولئك الذين مثَّل الله تعالى لهم هذين المثلين، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
إذاً: اتضح لنا أن الآية تضمنت مثلين وأجر أصحاب هؤلاء الأمثال، أجر من حقق أوصاف تلك الأمثال.
ما الفرق بين المثلين؟ سيتبين هذا عندما نتناول كل مثل على حدة.
المثل الأول الذي ذكره الله في التوراة تضمن ذكر خمسة نعوت، خمسة أوصاف.
الوصف الأول:﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.
الوصف الأول:﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾.
﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، هذا الوصف الثاني.
﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾، هذا الوصف الثالث.
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾، هذا الوصف الرابع.
﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾، هذا الوصف الخامس.
يقول الله تعالى:﴿ ذَلِكَ﴾، أي هذه الأوصاف التي ذكرها الله تعالى وهي خمسة، ﴿ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، يعني هذا ما ذكره الله تعالى من وصف هؤلاء في التوراة.
من هم هؤلاء؟ محمد رسول الله والذين معه.
فقوله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ﴾، أي مثل محمد رسول الله، والذين معه في التوراة، وهو ما ذكره الله من هذه الأوصاف الخمسة، ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.
ثم قال:﴿ ذَلِكَ﴾، مع أن المشار إليه ليس ببعيد لبيان شريف وعلو تلك الصفات، وأنها وإن كانت قريبة ذكراً لكنها عالية مقاماً ومنزلة ومكانة.
وقوله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، التوراة الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه.
والتوراة أعظم كتاب أنزله الله تعالى على رسله بعد القرآن، فالقرآن أعظم كتاب أنزله الله تعالى على رسله جميعاً.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيح"«ما من رسول إلا وآتاه الله تعالى ما على مثله آمن البشر».
يعني من الآيات والحجج والبراهين سواء المتلوة أو المشاهدة والمبصرة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم :«وكان الذي أوتيته من الآيات التي لم يسبق لرسول أن نالها وفاز بها وحازها، «وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ» أخرجه البخاري(4981)..
طيب هذا الوحي مشترك بين المرسلين، فما الذي خصَّ الله به صفوتهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم ، أن جعل كتابه خاتم الكتب، وأكمل الكتب، وحاكماً على جميع الكتب، وأن الله حفظه.
خصائص القرآن التي تميز بها عن سائر كتب المرسلين كثيرة جداً، لكن هذا من أبرزها..
فجميع الرسل أوحى الله إليهم كتباً:﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ﴾ سورة النساء:163..
فالله عز وجل أوحى إلى جميع الرسل، لكن الذي خصَّ الله به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل كتابه أعظم الكتب، وأكمل الكتب، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ سورة الأنعام:38.، ﴿ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ سورة النحل:89.،
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ سورة الإسراء:9..
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ سورة الزمر:23.، فهذا القرآن أعظم ما أنزل الله على الرسل.
التوراة أعظم الكتب بعد القرآن، ولذلك يذكره الله كثيراً في القرآن العظيم، ويذكره مقترناً بالقرآن، ولذلك قدمه في الذكر قبل الإنجيل، مع أن الإنجيل أقرب من حيث الزمان، ومن حيث الرسول، فهو آخر الكتب قبل القرآن، وعيسى عليه السلام ليس بينه وبين نبينا صلى الله عليه وسلم رسول، ومع ذلك قدَّم ذكر التوراة لشريف مكانها، وعظيم منزلتها وأيضاً لكون التوراة سابقة زماناً.
التوراة أنزلت على عيسى، وكانت قبل موسى عليه السلام وقبل الإنجيل.
هذا ما يتعلق بالمثل الأول.
نحن نحتاج أن نقف مع هذه الصفات الذي ذكرها الله عز وجل ، لكن قبل أن ندخل في ذلك، وسنتناول إن شاء الله تعالى ذلك في الحلقات القادمة نريد أن أشير إلى الجامع في أوصاف هذا المثل.
ما هو الجامع الذي ينتظم ما ذكره الله تعالى في هذا المثل؟ هو بيان لصفات عملية يمتاز بها أفراد هذه الأمة، ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾، فالجامع في هذه الأوصاف أنها أوصاف عملية سلوكية أخلاقية تتعلق بمعاملة هؤلاء لله عز وجل ، ومعاملة هؤلاء للخلق.
هذا ما سنقف عليه بيانا وتفصيلا وإيضاحاً في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة – إن شاء الله تعالى- من برنامجكم "أمثال قرآنية"، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.