إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا له الرحمن الرحيم وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله،صفيه وخليله خِيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فتقوى الله تجلب السعادة وتكشف كل شقاءٍ وندامة، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين.
أيها المؤمنون عباد الله, إن الحياة نعمةٌ منَّ الله تعالى بها على من شاء من خلقه؛ ابتلاءً واختبارًا، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك:2]، فكل لحظات الزمان وكل أحوال الإنسان هي من مواطن الابتلاء والاختبار،﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء:35]، فيبتلي الله تعالى الغني بغناه والفقير بفقره والصحيح بصحته والمريض بمرضه، كلٌ في اختبارٍ وامتحان.
هذا الاختبار مدته: حياتك، ما دام لك عين تلحظ، عرق ينبض فأنت في اختبارٍ وامتحان، لا تقفل هذه الفترة ولا ينتهي هذا الامتحان إلا بخروج الروح من البدن، « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ »مسلم ح(1631)، هذه هي ما يبقى بعد الإنسان، وهي ثمرة عمله وكده في حياته، ولذلك من المهم لكل واحدٍ منا أن يفطن لحقيقة هذه الدنيا وأنها في كل تقلباتها وأحوالها اختبارٌ وامتحان الناس فيه على أقسام وأحوال.
ذاك الانقسام في أحوال الناس اليوم يبدو جليًا عندما يخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً غرلاً، ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا (3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا (6)﴾ [الزلزلة:1-6]، أشتاتًا متفرقين في أحوالهم ومراتبهم، وذلك الاختلاف الذي كان في ذلك اليوم إنما هو ثمرة ما في هذه الدنيا من عمل، يصدر الناس أشتاتًا ذاك التشتت والافتراق هو ثمرة العمل، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)﴾ [الزلزلة:7-8] فاستعمل عمرك واعمر أيامك واغتنم لحظاتك في كل ما يقربك إلى الله تعالى؛ فإنما خلقت لعبادته، وإنما أنعم عليك بهذه النعم من الصحة والفراغ وغير ذلك من ألوان نعم الله تعالى، كل ذلك لتحقق به ما خُلقت من أجله، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2].
العبودية لا تعرف إجازةً ولا توقفًا ولا اختلافًا في مكانٍ أو زمان، بل أنت عبدٌ لله ليلاً ونهارًا, حِلاًّ وسفرًا، في كل حال وفي كل مكان أنت عبدٌ لله عز وجل والله تعالى يراك ويعلم ما يكون منك في الظاهر والباطن، فاتق الله حيثما كنت، اتق الله حيثما كنت، اتق الله حيثما كنت، وإذا عثرت أو أخطأت أو وقع منك ما يمكن أن يقع من هفوات فعليك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: «..وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا»أخرجه الترمذي(1987), وقال: حسن صحيح.، ثم أعظم ما يكون مما ترتقي به الأحوال وتصلح به الأعمال وتستقيم به الدنيا والآخرة حسن الخلق «..وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»أخرجه الترمذي(1987), وقال: حسن صحيح..
اللهم ألهمنا رشدنا، قنا شر أنفسنا، خذ بنواصينا إلى البر والتقوى، أعنا على طاعتك واصرف عنا معصيتك، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى وارقبوه في السر والعلن، اجتهدوا فيما يقربكم إليه ويحببكم له، واعلموا أن التجارة الرابحة هي مع الله عز وجل، فاغتنم كل لحظاتك واشتغل بكل ما يقربك إلى الله تعالى، واعلم أن طريق الوصول إلى الله ـ جل في علاه ـ ملخصٌ في أمرين:
الأمر الأول: أن تتقرب إليه بما افترض عليك، تفقد نفسك في الصلاة، تفقد نفسك في الزكاة والصوم والحج، تفقد نفسك في حقوق الخلق ابتداءً من حق النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة والاتباع والإيمان ثم بحق الوالدين بالبر والإحسان ثم بحق ذوي الرحم وحق الجار وحق كل ذي حق فبادر إلى أداء الحقوق،﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58]، فقم بما أمرك الله تعالى واجتهد في تكميل ذلك حسب طاقتك، ثم بعد ذلك ميدان السباق قد فتح, وأبوابه قد أشرعت، والمنادي يقول: بادر، بادر قبل فوات الأوان، « وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»البخاري ح(6502)من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. فاتق الله يا عبد الله وبادر بالصالحات، بادر بالصالحات قبل فوات الأوان، كل لحظة من عمرك هي منحة من الله تعالى، إن عمرتها بطاعته فأنت فائز وإن اشتغلت عنه ـ جل وعلا ـ بما يغضبه فإنك خاسر.
والعصر هو الزمان الذي يملأه الناس بأعمالهم، ﴿وَالْعَصْرِ (1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾ [العصر:1-2] كل إنسان يمضي زمانه في خسر إلا من استثناهم الله تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:3]، هذه خصالٌ أربع بها يتحقق للعبد النجاة من الخسار، فبادر بالأعمال الصالحة، واعلم أن الصحة والفراغ نعمة إذا لم تشكرها سلبها الله تعالى إياك، ثم حاسبك عليها، فاعمر وقتك بطاعة الله تعالى، واستغل نشاطك فيما يقربك إليه في حِلك وترحالك، في سفرك وإقامتك.
بعض الناس إذا سافر أو جاءت الإجازة ظن أنه قد أخذ إجازةً عن تحقيق العبودية لله، تجده مضيعًا للصلوات، مفرطًا في حق الله عز وجل، يضيف إلى هذا إسرافًا بألوان المعاصي والسيئات سواء كانت السيئات قولية بغيبةٍ أو نميمةٍ أو ما إلى ذلك من الكلام الذي تملأ به المجالس أو كان ذلك بمشاهداتٍ محرمة أو سماعٍ محرم، يظن أن الإجازة هي أن تلهو بما يُغضب الله عليك.
إن الإجازة الحقيقة هي من استغل فراغه بطاعة الله عز وجل، اغتنم شبابه، اغتنم صحته، اغتنم غناه، اغتنم حياته، اغتنم وقت فراغه فيما يقربه إلى الله عز وجل، فاجهد في طاعة الله عز وجل، لا يعني هذا ألا يكون هناك فسحة أو أن لا يكون هناك نزهة أو أن لا يكون هناك راحة، فهذا من مقتضيات النفس وطبيعتها، لكن اتق الله أن تكون إجازتك أو أن يكون فراغك هادما لما بنيته من الصالحات، بل لتكن خطوة في الاستعانة بطاعة الله عز وجل والتزود من الخير، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197].
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، خذ بنواصينا إلى البر والتقوى، اصرف عنا السوء والفحشاء يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم انصر الإسلام وأهله وأذل الكفر وملله، اللهم إنا نسألك من أراد بالمسلمين شرًا أو سوءًا أو فسادًا أن تصرف عن المسلمين شره، اللهم إنا ندرأ بك في نحر كل عدوٍ للإسلام والمسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، ونسألك يا ذا الجلال والإكرام بقوتك أن تحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، من أراد بنا سوءًا أو بأهل الإسلام شرًا وفسادًا رد كيده في نحره، اللهم إنا نستنصر بك فانصرنا ونستعيذ بك من شرورهم فأعذنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، ربنا أعنا ولا تعن علينا، ربنا انصرنا على من بغى علينا، ربنا آثرنا ولا تؤثر علينا، ربنا اهدنا ويسر الهدى لنا، ربنا اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، راغبين راهبين، أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا وثبت حجتنا واغفر ذلتنا وأقل عثرتنا يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.