الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد،
فحياكم الله أيها الإخوة، في هذا المجلس من مجالس العلم، والرَّوضة من رياض الجنة، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس في موازين الحسنات وأن يرزقنا وإياكم بركة هذه المجالس، وأن يعيننا وإياكم على العلم النافع والعمل الصالح، فخيرُ ما يُستعمل فيه العبد في هذه الأزمان المظلمة، طلب العلم، طلب العلم الذي يثمر صلاح العمل.
فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد قال كما في الصحيح من حديث معاوية: « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ » صحيح البخاري: باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ, حديث رقم: 71 فمن علامة ودلالة إرادة الخير للعبد، أن يوفق إلى الفقه في الدين، والفقه في الدين، المقصود به العلم به والعمل، وليس المقصود جمع المسائل ومعرفة الأحكام، وإدراك ما يكون من مُلح العلم، إنما المقصود ما يثمر ذلك من ثمرة، وهو صلاح القلب واستقامة العمل، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
في هذا المجلس نبتدئ إن شاء الله تعالى القراءة في كتاب منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي رحمه الله، وهو من علماء القرن الرابع عشر الهجري، وأحسبه -والله حسيبه- أنه من المجددين في تعليم علوم الدين، لاسيما في جزيرة العرب.
فإن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، جاء في زمان جمد فيه أكثر المتعلمين والمعلمين على التقليد، وعلى العناية بدراسة الفقه ومسائل الدين من خلال المتون الفقهية، دون تحليل وبحث ونظر وتحقيق وتعليل وترجيح، ففتح الله تعالى على هذا الشيخ العالم الجليل رحمه الله، بمطالعة ما كتبه وسطره إمامان جليلان وهما أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع.
فنهل من كتبهما المنهج النقدي والتحليلي، واستفاد مما في كتبهما من تأصيل علمي رصين، يناقش ويبني الأحكام والعقائد والمسائل على الدليل، ولذلك استفاد رحمه الله من هذا استفادة واضحة جلية في مؤلفاته وكتبه، إضافة إلى هذا النمط من التجديد، أنه فتح الله عليه في تيسير علوم الدين وتقريب العلوم لكافة المستويات من المتعلمين، بل حتى من عامة المسلمين.
ففتح الله تعالى عليه في سيلان قلمه وجريان عباراته على وجه عذب لذيذ، تطرب له الأسماع، وتستوعبه الأفهام، وفتح الله عليه بجمع المعاني الواسعة في الألفاظ اليسيرة المختصرة، وهذا من الفتوحات التي إذا وُفق إليها العبد فُتح له في جمع علم كثير غزير في عبارات قليلة، يشهد هذا ويعرفه كلُّ من طالع كتبه رحمه الله، بتمعُّن.
وما تميز به من رصانة العلم وحسن عرضه، والتحدي الذي ينبغي لطالب علم أن يعتني به حتى يكمل نفسه في التعليم هو هذان الأمران.
•الأمر الأول: رصانة العلم ورسوخه، فبقدر الرسوخ، يدرك الإنسان المعارف، ويقوى على مواجهة المستجدات والحوادث.
•الأمر الثاني: وهو لا يقلُّ أهمية عن الأمر الأول، حسن العرض، والقدرة على إيصال المعلومة، فكم من إنسان عنده من العلم والرسوخ الشيء الكثير، لكنه لا يستطيع أن يقرب هذه المعلومة للناس، فيقول ما في قلبه من العلوم محجوبًا عن العالمين، لا يستطيع أن يوصله إليهم، لعجز لسانه، وضعف بيانه عن إيصال هذه المعارف.
فإذا فتح الله على العبد في هذين الأمرين، قوة المعلومة وحسن عرضها، كان هذا من توفيق الله، ويكتب له من القَبول ما لا يكتب لغيره، بل أقول إن العلم القليل مع حسن العرض يؤثِّر بأضعاف مضاعفة إذا قارنَّاه بالعلم الغزير مع ضعف البيان، ولذلك مدح الله القرآن بالبيان بأنه مبين، وأنه بلسان عربي مبين، وأنه بيان للناس، كل هذا لما للبيان والإيضاح من تأثير في إيصال الحق.
الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، فتح الله له في هذا الأمر فتحًا مبينًا، فلا يقرأ أحدٌ من أهل المعرفة، والمحبين للتعلم شيئاً من مؤلفاته إلا ويلاحظ هذه السهولة والسلاسة في عرضه، وتجلى هذان الوصفان، اللذان تميز بهما الشيخ رحمه الله في هذا المؤلف الذي بين أيدينا وهو (منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)، فإن مطالعة هذا الكتاب، تبين لك هاتين الميزتين، فهاتان الميزتان من سمات هذا الكتاب ومما تميز به.
الشيخ عبد الرحمن السعدي هو من علماء هذه البلدة، وهو ممن تلقى العلم على جمع كثير من العلماء، وجلس للتَّعليم مبكرا، وألف مؤلفاتٍ عديدة، ولعلَّ هذا المؤلف مما ألفه بعد بدايته وجلوسه للتدريس، فإنه قصد بهذا المؤلَّف المبتدئين من طلبة العلم، لتقريب المعلومة وتيسيرها، ولذلك بعد أن ألفه دفعه إلى أحد تلاميذه ليدرسه للطلبة المبتدئين في طلب العلم، وجعله بينه وبين الطالب على وجه المراجعة، فكان إذا احتاج الطالب هذا المعلم، معلم الطلبة إذا احتاج إلى مراجعة رجع للشيخ، فخرج هذا الكتاب محررًا يسيرًا سهلاً كما سيتبين إن شاء الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن السعدي له مؤلفات عديدة من أبرزها تفسيره الشهير الذي اتسع ذكره وانتفع به خلق كثير وهو من أفضل التفاسير التي احتوت سلامة الاعتقاد، قوة المعلومة، سهولة العبارة، العناية بالمعاني الجامعة، فإنه تفسير يعتني ويهتم بجوامع المعاني، لا بتفاصيلها ومفرداتها، ولذلك من طلب معنى كلمة في آية، قد لا يجدها في التفسير، لكنه يجد المعاني الإجمالية العامة، التي تستفاد من الآيات، وتراد لها تلك السياقات في كلام الله عز وجل وفي آيات الكتاب الحكيم.
الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله توفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهو قد تخرج على يديه جملة من الأئمة والعلماء الذين نفع الله بهم، وقد درستُ على جماعة منهم، ومنهم شيخنا إمام هذا الجامع محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، الذي تولى التدريس بعد الشيخ عبد الرحمن السعدي، وامتد قرابة نصف قرن في التعليم، ونفع الخلق على نحو الطريق الذي سلكه الشيخ رحمه الله.
فأسأل الله أن يغفر لهم وأن يجمعنا بهم في جنات عدن، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذا تعريف مختصر بصاحب هذا المتن، وحقه أن يُفرد له بيان وإيضاح، لكن نحن في دورة، ومعلوم أن الدورات مبناها على الاختصار، من ذلك اختصار فيما يتعلق بخصائص المؤلف، وإلا المؤلف حريٌّ بالدراسة، لبيان منهجه وطريقته، فهو من علماء العصر المبرزين المجددين، أسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يرحمه.
أما بخصوص الكتاب الذي بين أيدينا فعنوانه (منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)، هكذا عنونه المؤلف رحمه الله، وهو كتاب في الفقه، وقد جعله المؤلف رحمه الله على نحو من الاختصار والبيان والاستدلال ما تميز به عن سائر المختصرات، المختصرات عادةً تجمع وصفين فيما يتعلق بالفقه، المختصرات الفقهية تجمع وصفين:
• قلة العبارة، وهذا ينعكس على وضوحها في الغالب، لأن اختصار الكلمات يحتاج إلى تفكيك، فقلة العبارة.
• والخلو من الدليل.
وهذان الوصفان قد غابا عن هذا المختصر، فهذا المختصر واضح، ليس فيه تعقيدات ولا صعوبات، بل هو جليُّ المعاني واضح الكلمات.
الأمر الثاني أنه تضمن الاستدلال لكثير من المسائل التي ذكرها، بل أحيانا يذكر المسألة بدليلها، بمعنى أنه يكتفي بذكر الدليل عن ذكر المسألة، فيجعل الدليل الوارد في المسألة، هو نص بيانه، وما ذكره رحمه الله في هذا المختصر، وهذا مما ميز هذا المختصر عن سائر المختصرات.
العلم أيها الإخوة لا يؤخذ جملة، إنما يؤخذ بالتدريج، وهذا سنة سار عليها العلماء المتقدمون والمتأخرون، العلم لا يحصل جملة، بلا لابد فيه من ترقٍّ، ودرجات وخطوات حتى يصل إلى مطلوبه، والعادة في العلوم، جرى عمل العلماء بعد التدوين على التدرج في التأليف لملاحظة ما يحتاجه الطلبة.
فتجد على سبيل المثال فيما نحن فيه، في الفقه، في كل المؤلفات الفقهية، يتدرج العلماء في المختصرات على طبقات، وفي المؤلفات على درجات، وهي ثلاثة في الجملة، درجة المبتدئين، ودرجة المتوسطين، ودرجة المتمكنين، هذه الدرجات الثلاث في الغالب تقسم عليها مؤلفات أهل العلم.
فالمختصرات الفقهية التي تعنى ببيان المسائل للمبتدئين "سمتُها" علامتها، الاختصار، الاقتصار على أصول مسائل كل باب من الأبواب، الثالث الاكتفاء بقول واحد، هذه ثلاث سمات مشتركة في غالب المختصرات الفقهية.
• أنها مختصرة.
• أنها تقتصر على أصول مسائل كل باب من الأبواب.
• الثالث أنها مبنية على قول واحد في المذهب الذي ألفت فيه.
وهذه السمات الثلاث موجودة في هذا المؤلف، فإنه مما اختصر فيما يتعلق بهذا المؤلف، فهو مختصر في الفقه، الثاني اقتصر في كل باب على مهمات مسائله، الثالث أنه ذكر فيه قولا واحدا، وهو ما ترجح لديه، وما مال إليه من أقوال أهل العلم، فهذه ثلاث سمات في المختصرات التي هي للمبتدئين وهي موجودة في كل المؤلفات التي تُعنى بالتعليم الابتدائي.
فابن قدامة المقدسي رحمه الله، جرى على هذا النحو في كتبه فألف عمدة الفقه للمبتدئين على هذا النحو، ثم المقنع وزاد فيه -وهو للمتوسِّطين- جعله على قولين، ثم الكافي وهو أعلى هذه الكتب الثلاثة في فقه أحمد، في فقه مذهب أحمد حيث جعله على روايات وأقوال ومناقشات وأدلة، لكنها في إطار ما جاء في فقه أصحاب الإمام أحمد رحمه الله.
المغني خارج عن هذه الحسبة، لأنه داخل في الفقه العالي، وهو الفقه المتعلق بخلاف المذهب، مذهب أحمد، مع سائر المذاهب الفقهية.
إذ نظرنا إلى الغزالي رحمه الله عند الشافعية، كذلك عنده نفس التصنيف في التأليف، عنده الوجيز وهو للمبتدئين، ثم الوسيط وهو للمتوسطين، ثم البسيط وهو لمن تمكنوا في العلوم.
وينبغي أن يُعرف وأن يُعلم وهذه حقيقة تغيب عن كثير من طلبة العلم في بدايات التعليم، وقراءة المتون العلمية عموما، أن هذه المتون هي متون تهيئةٍ وليست متون نهاية، المتون العلمية تهيئ للتعلم، تعطي قواعد وتأصيل ومفاتيح، وليست نهايات ينتهي إليها الطالب، لا في الفقه ولا في الاعتقاد ولا في اللغة ولا في سائر أبواب العلم.
من ظن انه بقراءة كتاب مختصر في الفقه، أو متوسط، أنه سيصل إلى الغاية في العلم، يخطئ، إذا كان يظن أنه سيصل إلى الغاية والمنتهى في العلم من أول قراءة، فإنه يخطئ، هذه المتون ليست نهايات، هذه بدايات، هذه تهيئات، تمكنك من معرفة إجمالية للعلم، ثم بعد ذلك بتكرار التعلم، وإعادته، ورده، ومراجعته والترقي في العلم، يصل إلى مبتغاه من المسائل.
ولذلك ينبغي أن تكون هذه القضية مستحضرة عند طلبة العلم، لأنه أحيانًا يخطئ طالب العلم في ظنه أنه إذا انتهى من هذا المقرر، انتهى من هذا المؤلف، انتهى تحصيله، إما أن يكون ما حصل شيء، وإما أن يغترّ ويقول بلغت الغاية، ووصلت إلى النهاية، فينبغي أن يُعلم أن هذه تهيئة، وهذه خطوات في تحصيل التعلم، والمتن قد تقرؤه مره ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً وعشرين وفي كل قراءة تجد من العلم ما لا تجده من القراءة السابقة.
ولذلك ينبغي أن يكون عندنا هذا الهم في تكرار المتون ومطالعتها والترقي في التحصيل حتى نصل إلى الغاية، ومن وفقه الله فتح الله له هذه الأبواب، ووصل إلى ما يؤمل من الخير.
هذا ما يتعلق بإلماحة مختصرة أيضًا حول هذا الكتاب "منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين" وقد شرحه جماعة من المتأخرين، إلا أنه شروحه الكتابية قليلة، من أبرزها شرح الشيخ عبد الله الجبير رحمه الله، وكان أصل هذا الشرح الذي طبع دورة قدم فيها الشيخ رحمه الله شرحا موجزا مختصرا لهذا الكتاب القيم، وهو " منهج السالكين " للشيخ عبد الرحمن السعدي.
نحن إن شاء الله تعالى ننوي بإذن الله، إن بارك الله في الوقت أن نأتي على جميع أبواب العبادات، إن بارك الله في الوقت، إن تمكنا أن نأتي على كل قسم العبادات، فإن عجزنا فندرك إن شاء الله البقية في دورة قادمة.
وسنسلك مسلك الاختصار قدر الإمكان، وأسأل الله لي ولكم التوفيق وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا وأعمالنا، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا لا حجة علينا.
سمِّ الله يا أخي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين وجميع المسلمين.
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: (الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد،،،
ابتدأ المصنف رحمه الله هذا المتن والكتاب الجليل منهج السالكين، بالبسملة ثم بعد ذلك بخطبة الحاجة، والبسملة سنة جرى عمل العلماء رحمهم الله على افتتاح الكتب بها، تأسيا بكتاب الله تعالى، واقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكتاب الله افتتحه الله بالبسملة في أول كل سورة، عدا سورة براءة، وكُتب النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفتتحة أيضًا بالبسملة، فالبسملة سنة مستفادة من القرآن ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والبسملة جملة مفيدة، إما اسمية أو فعلية، كما يقول العلماء، وقد تكلم عنها وعمَّا فيها من الأسماء والمعاني جماعات من أهل العلم في مؤلفاتهم، وخلاصة القول أنها جمله اسمية أو فعلية، الجار والمجرور فيها متعلق بفعل أو اسم، مقدر مؤخر غالبًا، مناسب لحال الذاكر، هذه ثلاثة أمور تراعى وتلاحظ فيما يتعلق بالبسملة.
أنها متعلقة بفعل أو اسم، على اختلاف العلماء هل هي اسمية أو فعلية، هذا الاسم أو الفعل مؤخر غالبًا، وهو مقدر ومناسب لحال الذَّاكر، ففي القراءة "بسم الله قراءتي"، أو "بسم الله أقرأ"، وفي دخول المسجد: "بسم الله دخولي"، على أنه جملة اسمية، أو "بسم الله أدخل" إذا كانت جملة فعلية، وهلمَّ جرّاً في كل الموارد التي يقول فيها القائل بسم الله، فإنه يقدر فعلًا أو اسمًا مناسبًا لحالة، قراءًة وكتابًة وذبحًا وقيامًا وقعودًا، في كل أحوالِ ذِكرِها.
هذه البسملة لماذا يؤتى بها؟، يؤتى بها تبرُّكًا بذكر اسم الله عز وجل، واستعانًة به جلَّ في علاه، فالبسملة تفيد فائدتين، التبرك بذكر اسم الله جلَّ في علاه، والاستعانة به سبحانه وبحمده على المطلوب.
أما التبرك فأسماء الله تعالى كلها مباركة، قال الله جل وعلا: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} سورة : الرحمن الآية (78).. {تَبَارَكَ}. أي كثرت بركته، وأسمائه مباركة عظيمة البركة لمن تدبر معانيها وفهم مضامينها، وتعبد لله عز وجل بها، فعندما تقول بسم الله أنت تتبرك بأسمائه، تطلب بركة هذه الأسماء في فعلك أو في قولك أو في قراءتك، أو في شأنك كله، وتضمنت هذه الجملة ثلاثة أسماء من أسماء الله، هي أصول أسماء الله كما قال بعض أهل العلم.
فأصول الأسماء ترجع إلى: الله الرحمن الرحيم، وهذه الأسماء الثلاثة هي التي افتتح الله تعالى بها سورة الفاتحة أم الكتاب، قال الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة : الفاتحة الآية (3،1).. فهي أسماء لها مدلول عظيم إلى هذا الحد الذي قال فيه بعض أهل العلم: "إن جميع أسماء الله تعالى الحسنى ترجع إلى هذه الأسماء الثلاثة".
أما ما جاء به بعد ذلك من الخطبة، فهي الخطبة الشهيرة بخطبة الحاجة، وخطبة الحاجة قد وردت عن جملة من الصحابة قريب من ستة رضي الله عنهم، كلهم ذكروا هذه الخطبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فيما ذكره صلى الله عليه لضماد، لضماد لما جاءه وسمع منه قرأ عليه خطبة الحاجة، وجاءت أيضًا في صحيح الإمام مسلم من حديث جابر فيما كان يخطب فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة، في وصف جابر لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الخطبة خطبة شهيرة معروفة، وجاءت في حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه: ((عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خُطْبَةَ الْحَاجَةِ « إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ( اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سنن أبي داود: باب فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ, حديث رقم: 2120 إلى آخره، والعادة في الكتب أن يقتصر فيها على البسملة، لكن جرى عمل بعض أهل العلم على ضم الحمد للبسملة، وهذا لا بأس به، وإن كان الغالب في المؤلفات الاقتصار على البسملة، لكن ذكر الحمد هو زيادة بركة وخير، وهو تأسٍّ بكتاب الله عز وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذكر الحمد في أوائل الكتب: هل هو سنة أو لا؟، على قولين: منهم من قال أنه لا يسن عملًا بكتابات النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يفتتح كتبه بالحمد، إنما كان يفتتحها بالبسملة، ولذلك قال هؤلاء البسملة في الكتب والحمدلة في الخطب.
وعلى كل حال الأمر قريب، فمن جرى على هذا من أهل العلم فله مستند في كتاب الله تعالى، حيث بدأ كتابه بالحمد جل في علاه، وإذا اقتصر على البسملة، فذاك هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل غالب المؤلفين من العلماء المتقدمين، غالب المؤلفين من العلماء المتقدمين يقتصرون في بدايات مؤلفاتهم وكتبهم على البسملة.
وهذه الخطبة خطبة عظيمة جليلة، فيها من المعاني التي إذا تدبرها الإنسان لم يمل من قراءتها، أو من سماعها، لكن لما كان أكثر الناس يقولون على وجهٍ اعتيادي، لفظي، لا يقفون عند معانيها، كان ذلك مغيِّبا لمضمونها، وحتى تعرف عظيم ما في هذه المقدمة من البركة والخير في الخطب، أو حتى في الكتب، استمع إلى ما جرى عند من فهمها.
ضماد كان من أزد شنوءة، وقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرقي من الرِّيح التي تصيب الناس، فتصيبهم ببعض الخبل والجنون، فسمع خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه بي". يعني من؟، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، لما أشاعه قومُه عنه من أنه ممسوس وأنه مجنون.
فلقي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هذا ضماد يحدث سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، يقول: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، يعني التي تسبب الاختلال في العقل، وإن شاء الله يشفي على يدي من شاء فهل لك -يعني هل تأذن لي- أن أرقيك، أو ترغب في أن أرقيك، لعل ما بك من جنون يذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)
فقال ضماد: أعد عليَّ مقالتك، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات التي سمعتموها، ثم قال له ثالثة: أعد عليَّ مقالتك، فأعاد عليه ثالثة، فقال ضماد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، سمعتُ كلام العرب والعجم والشُّعَّار والكهان ولم أسمع مثل هذه المقالة.
هذه المقالات التي تمر على أسماعنا الذي يفقد روحها، ويذهب بركتها، وما فيها من تأثير هو عدمُ تدبُّرنا لمضامينها، وهذا أعظم حجاب يحول بينك وبين الفهم، هو عدم التدبر والفهم، عدم التدبر والتفكر والتفهم لما يُقرأ ولما يقال، سواءً في قراءة القرآن أو سماعة، أو في الأذكار وذكرها، أو في سائر أنواع ما يقوله الناس، الحاجب الأكبر الذي يمنع من الانتفاع بالكلام الذي نسمعه من القرآن والسنة هو ماذا؟، هو عدم تدبرها لذلك يقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} سورة : محمد الآية (24)..
فالتدبر مفتاح العقل، هذا رجل مشرك جاء ليرقي النبي صلى الله عليه وسلم، سمع هذه المقالة، وهذه الكلمات التي تمر علينا في الخطب، ونقرؤها في الكتب لكن ما نقف عند معانيها، السبب أننا اعتدنا على سماعها، أصبحت كلمات تقال دون توقف عند المعاني وتدبر للمضامين، فلم تكن مؤثرة.
ضماد ليس له قلب أطيب من قلوبنا لما سمع هذه المقالة، كان مشركًا، لكنه كان ذا قلب يفهم ويتدبر ويعي ويتفكر، فتوصل إلى ما يفتقده كثير منا وهو فهم ما تضمنته هذه الكلمات من عظيم المعاني.