إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا له الرحمن الرحيم, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77] ، هكذا يأمر الله تعالى المؤمنين بأجل العبادات وأشرف الطاعات العملية إنها الصلاة، ويذكر منها حالات الخضوع والذل والركوع والسجود ثم يفتح الباب على مصراعيه في أبواب الخير كلها، فيقول: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فلاحٌ يدرك بها الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فلاحٌ يخرجه من المضايق إلى فسحات الطاعة وسعاداتها وأرباحها، فإنه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:32-3] ، من يتق الله يعظم له أجرًا، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ [الطلاق:5].
وتقوى الله هي: القيام بطاعته ولزوم ما أمر به ونهى عنه، ما أمر به فعلاً، وما نهى عنه اجتنابًا وتركًا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
أيها المؤمنون عباد الله, إن ما تستقبلونه من أيامٍ مباركات ومن ليايٍ شريفات هي من خير أيام الزمان، فيها ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر كما قال جل في علاه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)﴾ [القدر:1-3] , خير من ألف شهر فيما يجري من عباداتٍ فيها وطاعات، فيما يجري من فضائل وهِبات، فالمؤمن يغتنم أيام عمره، وإذا جاءت مواسم الخيرات سارع إلى البر والعطاء من رب البريات جل في علاه، فالمؤمن يستثمر عمره في كل ما يقربه إلى الله عز وجل، يصرف لحظات زمانه فيما يُعلي عند الله تعالى مقامه.
فاتقوا الله أيها المؤمنون, وبادروا إلى اغتنام ما بقي من شهركم بالطاعات، لا سيما وأن خير هذا الشهر آخره كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ»البخاري(2015), ومسلم(1165)، أي ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وكان صلى الله عليه وسلم لعظيم اجتهاده في إدراك هذه الليلة يتفرغ من كل شغل ويعتكف في المسجد، يلزم مسجده صلى الله عليه وسلم طلبًا لليلة القدر، وقد اعتكف سنة من السنوات شهرًا كاملاً يطلب ليلة القدر، جاء ذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم« اعْتَكَفَ العَشْر الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ » البخاري(813), واللفظ له, ومسلم(1167)فاعتكف صلى الله عليه وسلم ووافقها ليلة إحدى وعشرين من ذلك العام، لكنه لم يكف عن العبادة والطاعة، بل أتم اعتكافه فاعتكف شهرًا كاملاً لطلب ليلة القدر.
والاعتكاف عبادةٌ أصلها لزوم طاعة الله تعالى، وحقيقتها الشرعية أن ينوي الإنسان لزوم بيتٍ من بيوت الله، أن يلزم الإنسان بيتًا من بيوت الله طاعةً لله تعالى، وقيامًا بما يقرب إليه من كل الطاعات دعاءً وذكرًا وصلاةً وسائر أنواع القربات، فلنجتهد أيها المؤمنون في كل ما يقربنا إلى الله، ما هي إلا ليالٍ عديدة ولحظات وجيزة سرعان ما تنقضي وتذهب لكنها تذهب محملةً بأعمالنا، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، خذ بنواصينا إلى البر والتقوى، أعنا على طاعتك، وفقنا إلى قيام ليلة القدر وارزقنا فيها أوفر عطاءٍ واجعلنا من أسعد عبادك بها فيها يا رب العالمين، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون, والزموا كتابه واعتصموا بحبله؛ فإن الاعتصام بحبل الله نجاة، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:103]، اعتصموا بحبل الله فلا نجاة من الفتن والأهوال والبلايا والشرور إلا بالتقوى ولزوم هذا الكتاب القويم الذي يهدي للتي هي أقوم كما قال جل في علاه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9]، فنسأل الله أن يرزقنا الاعتصام به والاستمساك به والعمل بدلالته والاهتداء بهديه.
أيها المؤمنون, إن من أشرف الطاعات وأجل القربات التي تملأ بها هذه الليالي المباركات الدعاء؛ فالدعاء بابٌ عظيم يُستمطر به فضل الله, ويُستجلب به العطاء, ويستدفع به كل بلية وشر، عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالت: «قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إنْ علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدْر؛ ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللَّهُمَّ إنَّك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ، فاعفُ عنِّي»الترمذي(3513), وقال: حسن صحيح ، كلمات موجزات لا سجع ولا تطويل ولا إشقاق، كلمة بها سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن كل بليةٍ في الدنيا سببها القصور والتقصير، سببها الذنوب والخطايا، فإذا عفا الله عنك محا عنك الذنوب وشؤمها وأزال عنك ضرها وشرها، فكان ذلك نجاةً لك وسعادة فالزم اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني؛ من عفا الله عنه سعد، من عفا الله عنه حط الله خطاياه، من عفا الله عنه أدخله الجنة، من عفا الله عنه أسعده في الدنيا، فإنه ما من ضائقة ولا بلية تصيب الإنسان في دنياه إلا بسبب ذنبه، يقول جل في علاه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، يعفو عن كثير من قصورنا، يعفو عن كثير من تقصيرنا، يعفو عن كثير من إخلالنا وإعراضنا، فلنتعرض لعفوه في هذه الليالي، ليس فقط بالأماني التي لا يشفعها عملٌ وقول، بل صدق الرغبة يبلغك ما تتمنى، إذا صدقت في رغبتك وبذلت جهدك والله لا ترجع من الله خائبًا؛ فإن الله حييٌ كريم يستحي أن يرفع العبد إليه يديه ثم يردهما صفرًا خائبتين.
فأقبلوا على الله تعالى بصدق وأملوا من عطائه؛ فإنه جوادٌ كريم جل في علاه، لا سيما وأنتم تنظرون إلى ما أنعم الله تعالى به عليكم من النعم التي لا يمكن أن تبقى وتحفظ إلا بالطاعة والإحسان والشكر، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7]، فاشكروه بقلوبكم وأقوالكم وأعمالكم؛ تُدركوا منه مزيد عطاءٍ جل في علاه، وإياكم والإعراض عنه؛ فإنه من أعرض عنه أذاقه من الضنك والضيق في دنياه، في حاله ونفسه وأهله وماله ما هو مقدمة عذاب الآخرة، نعوذ بالله من الخسران، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ في الدنيا، ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124] ذاك تمام العذاب وكمالة المؤاخذة على عدم القيام بحق الله تعالى.
أقبلوا على الله أيها المؤمنون، واسألوا الله لأنفسكم ولأولادكم وأهليكم وأزواجكم ووالديكم وبلادكم خيرًا؛ فإن الدعاء أعظم سلاحٍ يقابل به الإنسان مصائب الدنيا وغوائقها وضغوطها، ادعو الله تعالى؛ فإنه بيده خزائن السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الفرج جل في علاه، ما يجري لإخوانكم في غزة ليس خفيًا عنكم فهو بلاءٌ عظيم من كل وجه، لا نلوم أعدائنا على ما يفعلونه بنا، لكننا نلوم أنفسنا على تقصيرنا في حق إخواننا من النصرة، ما بأيدينا شيءٌ كثير ولا في ألسنتنا قولٌ طويل، إنما نشكو ضعفنا وذلنا وهواننا إلى الله، إلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشدٍ يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيها أهل المعصية، يُعلى فيه كتابك وينصر فيه دينك ويعلى فيه الحق والعدل يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أبرم لإخواننا في غزة أمرًا رشيدًا، اللهم أنجهم يا ذا الجلال والإكرام من كل ما أصابهم، اللهم اربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وسدد رميهم واقذف الرعب في قلوب أعدائهم، اللهم عليك بالصهاينة المعتدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أفسد سلاحهم، اللهم اجعل دائرة السوء عليهم، اللهم ادفعهم عن إخواننا بما شئت إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم من أرادنا والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد هذه البلاد بسوءٍ فاجعل كيده تدميره وتدبيره عائدًا إلى نحره، نعوذ بك من شرورهم يا ذا الجلال والإكرام.
نسألك أن تؤلف بين قلوبنا وأن تصلح ذات بيننا وأن تجمعنا على الحق والهدى يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وارزقنا القيام بما يرضيك عنا، أعن رجال الأمن على ما هم عليه من ثغور، سددهم واحفظهم واجزهم عنا خيرًا يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.