الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد...
فأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجزي خيرًا للقائمين على هذا المسجد، والمتبرعين فهو في الحقيقة تغبطون عليه أسأل الله تعالى لكم القبول، ولأصحابه القائمين الجزاء الوفير، من رب يعطي على القليل الكثير، كما أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ عبد الله السلبني على دعوته، والحقيقة أنا جئت مشاركًا، لست محاضرًا، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المباركين، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يغفر لي ولكم، السر والإعلان، وأن يرزقنا الاستقامة، في الظاهر والباطن، كلمات موجزات أيها الأخوة، هذه الشريعة عنوانها العريض مختصر في كلمات يقول الله تعالى: في محكم كتابه، مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفًا برسالته يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء، الآية:106 هذه الآية الكريمة، التي اختصرت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بها يفهم التشريع، بها يفهم ما الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، إنه جاء بالرحمة فمن أخذ بها؛ فله الرحمة، وهي الجنة، التي يرحم الله تعالى بها، عباده عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى للجنة، (أنتِ رحمتي أرحم بكِ ما أشاء من عبادي) فمن أخذ بالرحمة فالدنيا جزي بالرحمة في الآخرة، كل ما يخرج عن هذا الصراط، فليس من الشريعة، المعيار والمقياس الذي يقاس به الدين، هو مدى ما يحقق من الرحمة، والرحمة التي جعلها الله تعالى عنوانًا للشريعة، ليست في حكم، ولا في مفردة من مفردات التشريع، إنما في كل ما أمر الله تعالى به، وما نهى عنه، أختصر هذا بعبارة موجزة، واضحة ليس هناك شيءٌ أمرك الله به، إلا رحمة بك، ولا شيء نهاك الله تعالى عنه إلا رحمة بك، كل ما أمرك الله تعالى به، حتى لو شق عليك، وكل ما نهاك الله تعالى عنه، حتى لو طمعت نفسك إليه، إنما أمرك به لما فيه من الرحمة بك، وإنما نهاك عنه لما فيه من رحمة بك، وإلا فالله جلَّ في علاه غني عن عباده وعن ما يكون من أعمالهم، {يا عبادي؛ لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه}، إذًا يا أخواني؛ صلاتنا، صومنا، زكاتنا، حجنا، امتناعنا عن المحرمات بشتى صورها، ما كان في حق الله، وما كان في حق الخلق، إنما لأجل أن نستقيم، وأن ننال الرحمة، والرحمة هي ما يجده الإنسان ابتداءًا في قلبه من الطمأنينة والانشراح، فمن يرد الله أن يهديه، يشرح صدره للإسلام، ولذلك حتى لو شق عليك أمر الله، وجدت كلفة، فاعلم أنه الخير بك، ولك في الحال والمآل، ولذلك لا تتردد أبدًا، عندما تدعوك نفسك لترك واجب، أو تدعوك نفسك لمواقعة محرم، أن تتذكر أنك الخاسر الأول، والرابح الأول، الرابح الأول؛ فيما إذا امتثلت، والخاسر الأول؛ فيما إذا أعرضت.
و هذه الرحمة تبدو بها أحكام كثيرة، ومظاهر كثيرة في الشريعة، ومنها يسر هذه الشريعة المباركة، يسر الشريعة ليس شيئًا مصطنعًا، ولا ممارسة فقهية، يمارسها فقيه، فييسر ويعسر، لا هي روح الشريعة، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}سورة الحج، الآية:78، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْالْعُسْرَ}سورة البقرة ، الآية:184، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}سورة البقرة، الآية:286، هذا هو روح التشريع، لكن ليس معنى التيسير في الشريعة، واليسر، أن لا يكلف الناس شيئًا، وإذا كان ما أمرهم بصلاة، لأن هذا يسر، ولا أمرهم بصوم، ولا بحج، ولا بزكاة، ولا أمرهم بالجهاد، ولا أمرهم بصبر على الأقدار المؤلمة، لأن كل هذا شيءٍ صعب على النفس، تحتاج النفس إلى مجاهدة، حتى تأتي به، لكن اليسر الذي جاء في الشريعة، له معنيان: المعنى الأول، أنه لا يكلف الله تعالى الناس ما لا يطيقون، فليس في الشريعة أبدًا شيء يشق على النفوس، بحيث تعجز عنه، أو يلحقها ضيق، أو يلحقها حرج بفعله، هذا المعنى الأول ليس في التشريع حرج، ولا ضيق، بل هو سعة، ولذلك يقول الله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}سورة البقرة، الآية:286، وسعها يعني فيه فسحة، وفيه سعة، ويستطيع الإنسان أكثر من ذلك، لكن رحمة الله قصرت هذا عما هو في منتهى الطاقة، حتى يتمكن الناس من عمله، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: وهو غائب عن كثير من الناس، وبه الإجابة، عن كيف تكون الشريعة يسر، والله كلفنا صيام، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، في اليوم الصائف؟ الجواب على هذا؛ أن الشريعة يسر، مع هذه التكاليف التي فيها مشقة؛ لأن الناس لو تركوا ذلك الأمر؛ للحقهم من المشقة أعظم من مشقة العمل، أعيدها بعبارة أقصر، الشريعة كلفت بتكاليف، هذه التكاليف فيها مشقة، لكن مشقة ترك ما أمر الله تعالى به ما يلحق الناس من الضيق، والحرج وفساد دنياهم، وتعثر أحوالهم، وضيق صدورهم، وشؤم ما يدركهم أعظم من مشقة العمل الصالح، الذي أمروا به، ولهذا تنقلب الأعمال الصالحة، إلى ملذات ومسرات، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (للصائم فرحتان فرحة عند فطرة وفرحة عند لقاء ربه) فالفرحة المعجلة هي التي عند الفطر، بما يجد الإنسان من السرور والابتهاج، بما أباح الله تعالى له وأحله.
لهذا يا أخواني، لنعلم علمًا يقينيًا، أن كل ما خرج عن اليسر، فليس من الشريعة، لكن اليسر ليست أهواء متحكمة، ولا آراء مقترحة، دون نور من الشريعة، اليسر هو ما أمر الله تعالى به ورسوله، حتى لو شق عليك، تذكر قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْالْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}سورة البقرة، الآية:215، فكم من الخير فيما تكره، كما أنه كم من الشر فيما تحب، النبي صلى الله عليه وسلم يقول (حفت الجنة بالمكاره) يعني ما تكره النفوس (وحفت النار بالشهوات) اليسر في هذه الشريعة المباركة روحها، ولذلك عندما ترى أحدًا خارجًا عنه، فاعلم أنه على غير جادة.
الخوارج أصحاب تشديد ومشقة، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، لكن ماذا قال عنهم الرسول النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوتاد، ثم قال لئن أدركتهم لأقتلنهم، قتل عاد وثمود، بيان أن التشديد، الذي يخرج عن روح الشريعة، هو ليس من التشريع، كما أن هناك جانب آخر؛ وهو من يجعل التيسير سبيل للتحلل من أحكام الشريعة، فيقول الدين يسر لا تسأل الدين يسر، ويأتي ما حرم الله، الدين يسر ويترك ما أوجب الله، هذا ليس يسر، هذا عبث، ففرق بين اليسر والعبث، وفرق بين اليسر والتشريع، والنبي صلى الله عليه وسلم، أمر الأمة بأن يسلكوا طريقًا وسطًا، لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، ولقد أثنى الله على الأمة بهذا ، قال كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، ثم يقول جلَّ وعلا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}سورة البقرة، الآية:142.
فيا أخواني لنفهم معنى اليسر، الذي في الشريعة، على النحو الذي تقدم، وبه يتضح ويتسق ما فيها من تكاليف، وما فيها من أوامر، ومع هذا توصف باليسر، لولا المشقة ساد الناس كلهم، لولا أن فيه مشقة، ما كان الناس يعني، كان كل الناس سواسية، لكن الذي يميز بين الناس، هو امتثالهم بما أمر الله تعالى، حتى في دنياهم، هذا شاعر جاهلي يقول:
لولا المشقة ساد الناس كلهم والجود
بدر المال يفقر، والأقدام قتال والأقدام والشجاعة تفضي إلى القتل، فلولا أن الإنسان يتقدم، ويصبر على مأواه ذلك، لكان ذلك مُقعد له عن الفضائل، وعن المراتب العالية، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يسلك بي وبكم سبيل الرشاد، وأن يجعلنا من حسبه وأوليائه، وأن يجعلنا ميسرين لا معسرين، وأن يوفقنا إلى الخير، واعلموا أن ما من أحد يمتثل الشريعة، ويلتزمها في الظاهر والباطن، إلا وينال من الحياة الطيبة السعيدة، ما يشرح بها صدره.
أسأل الله ييسر لنا ذلك وأن يعيننا وإياكم على الصالحات.