الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، وجميع المسلمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:(باب صفة الوضوء، ﻭﻫﻮ ﺃﻥﻳﻨﻮﻱﺭﻓﻊ الحدﺙ، ﺃﻭﺍﻟﻮﺿﻮﺀﻟﻠﺼﻼﺓﻭنحوها، ﻭﺍﻟﻨﻴﺔ:ﺷﺮﻁٌ لجميع ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﻣﻦ ﻃﻬﺎﺭﺓﻭﻏيرﻫﺎ، ﻟﻘﻮﻟﻪصلى الله عليه وسلم: «ﺇنما ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺕ، ﻭﺇنما ﻟﻜﻞ ﺍﻣﺮﺉٍ ﻣﺎ ﻧﻮﻯ)ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ. ﺍﻟﺒﺨﺎﺭﻱ(1)، ﻣﺴﻠﻢ(1907)
ثم ﻳﻘﻮﻝ:" ﺑﺴﻢ ﺍﷲ " ﻭﻳﻐﺴﻞ ﻛﻔﻴه ﺛﻼﺛًﺎ، ثم ﻳﺘﻤﻀﻤﺾ، ﻭﻳﺴﺘﻨﺸﻖ ﺛﻼﺛًﺎ، ﺑﺜﻼﺙﻏَﺮﻓﺎﺕ، ثم ﻳﻐﺴﻞ ﻭﺟﻬﻪ ﺛﻼﺛًﺎ، ﻭﻳﺪﻳﻪ إلى المرفقين ثلاثا، ﻭيمسح ﺭﺃﺳﻪ من مقدم رأسه إلى ﻗﻔﺎﻩﺑﻴﺪﻳﻪ، ثم ﻳﻌﻴﺪهما إلى المحل الذي ﺑﺪﺃﻣﻨﻪ ﻣﺮًﺓﻭﺍﺣﺪﺓ، ثم ﻳﺪﺧﻞ سباحتيه في صماخي ﺃﺫﻧﻴﻪ، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ثم ﻳﻐﺴﻞ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﻣﻊ ﺍﻟكعبين ثلاثًا، ثلاثًا.
ﻫﺬﺍﺃﻛﻤﻞ ﺍﻟﻮﺿﻮﺀﺍﻟﺬﻱﻓﻌﻠﻪ ﺍلنبي صلى الله عليه وسلم، ﻭﺍﻟﻔﺮﺽﻣﻦ ﺫﻟﻚ:ﺃﻥﻳﻐﺴل ﻣﺮﺓﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻭﺃﻥﻳﺮﺗﺒﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻩﺍﷲ تعالى في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} سورة: المائدة الآية (6).
ﻭﺃﻥﻻ ﻳﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ بفاصل طويل ﻋﺮﻓﺎ، بحيث ﻻ ﻳﻨﺒني ﺑﻌﻀﻪ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ، ﻭﻛﺬﺍﻛﻞ ﻣﺎ ﺍﺷﺘﺮﻃﺖ ﻟﻪ ﺍلموالاة).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمًة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،،،
يقول المصنف رحمه الله: (باب صفة الوضوء). الباب هو المدخل، الذي يُدخل منه إلى الشيء، وقوله رحمه الله: (صفة الوضوء). أي كيفية حصول الوضوء المطلوب شرعًا، وهذا أحد نوعي الطهارة، التي يحصل بها رفع الأحداث، فما يحصل به رفع الحدث أمران:
- طهارة صغرى.
- وطهارة كبرى.
(الوضوء). هو الطهارة الصغرى، وبدأ به لأنه الأكثر استعمالًا، وتكرارًا، ثم سيأتي بعد ذلك إلى الطهارة الكبرى وهي الغسل، في بابه إن شاء الله تعالى.
هذا الباب تضمن ذكر صفة الوضوء الكامل، ثم عطف عليه المؤلف، رحمه الله، ذكر فروض الوضوء، أي ما يجب مراعاته، ولا يجوز الإخلال به، وألحق به فصلًا يتعلق بالمسح على الخفيين.
فيما يتعلق بصفة الوضوء، قال رحمه الله: (ﻭﻫﻮ ﺃﻥﻳﻨﻮﻱﺭﻓﻊ الحدﺙ، ﺃﻭﺍﻟﻮﺿﻮﺀﻟﻠﺼﻼﺓﻭنحوها).
ومنه نعلم أنه ليس من مسنونات الوضوء، ولا من واجباته، أن يتقدمه استنجاء إذا لم يكن ثمة خارج، فإن الاستنجاء والاستجمار؛ إنما هو لأجل الخارج من السبيلين، فلأجل إزالة أثر الخارج، شُرع الاستجمار والاستنجاء، أما إذا لم يكن ثمة خارج، فإنه لا يجب الاستنجاء والاستجمار.
دليل ذلك ما ذكره المصنف في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} سورة: المائدة الآية (6)، ولم يذكر استنجاءً ولا استجمارًا، فما يتصوره البعض من لزوم أو استحباب الاستنجاء، أو الاستجمار قبل الوضوء لا دليل عليه.
يقول رحمه الله: (ﻭﻫﻮ). أي الوضوء، (ﺃﻥﻳﻨﻮﻱﺭﻓﻊ الحدﺙﺃﻭﺍﻟﻮﺿﻮﺀﻟﻠﺼﻼﺓﻭنحوها). هذا بيان، أول ما يكون من المتوضئ، ولم يفصل المؤلف رحمه الله، في الصفة بين الواجب والشرط والمستحب والمسنون، بل ذكر ذلك على وجهٍ وصفي، كما جاء ذلك في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، في أحاديث الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لم يبينوا مراتب ومنازل تلك الأفعال والأعمال التي في الوضوء.
يقول رحمه الله: (ﻫﻮ ﺃﻥﻳﻨﻮﻱﺭﻓﻊ الحدﺙ). والنية هي القصد والإرادة، ومحلها القلب، فلا يحتاج معها إلى لفظ، ولا إلى أي عمل، وهذا بإجماع المسلمين، لا خلاف بينهم، أن النية محلها القلب، وأنه لا حاجة إلى تلفظٍ بنيةٍ، ولا إلى عمل شيءٍ لتتم النية، وعلى هذا قول أهل العلم.
وقد ذهب بعض المتأخرين من الفقهاء إلى استحباب التلفظ بالنية، لاسيما من فقهاء الشافعية، لكن هذا خلاف السنة، فالصحيح أن التلفظ بالنية بدعة، فالنية عملٌ قلبي، وهى إرادةٌ وقصد، يقصد ماذا؟، بين ما الذي يقصد في الوضوء.
قال: (ينوي رفع الحدث، أو الوضوء للصلاة ونحوها). (ونحوها). أي ينوي الوضوء لما يشرع له الوضوء، كما إذا نوى الوضوء للطواف، أو الوضوء لقراءة القرآن، أو الوضوء لمس المصحف، أو الوضوء للذكر، كل ذلك مما يحصل به النية المطلوبة في الوضوء.
ثم قال:(ﻭﺍﻟﻨﻴﺔﺷﺮﻁٌ لجميع ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﻣﻦ الطﻬﺎﺭﺓﻭﻏيرﻫﺎ). هذا بيان مرتبة النية، وهى التي ميزها دون سائر الأعمال، وإنما ميزها لما اختصت به من أنها شرطٌ لجميع الأعمال من الطهارة وغيرها، فهي شرطٌ في جميع العبادات، في الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، «ﺇنما ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺕ، ﻭﺇنما ﻟﻜﻞ ﺍﻣﺮﺉﻣﺎ ﻧﻮﻯ ) لذلك ذكر دليلها، وذكر مرتبتها لقوله صلى الله عليه وسلم: «ﺇنما ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺕ، ﻭﺇنما ﻟﻜﻞ ﺍﻣﺮﺉﻣﺎ ﻧﻮى)
فالأعمال لا تحصل، ولا يدرك مقصودها إلا بالنية، فجميع الأعمال مدارها على النية، بل لا يتصور عملٌ إلا بالنية، لكن المطلوب نية التعبد لله عز وجل، بالعمل، حتى يدرك الإنسان ما يؤمل، ثم إن النية قد تكون للتمييز بين الواجب والفرض، وبين عين الفرض عن فرض آخر، كما في الصلاة ونحوها.
المقصود أن النية شرطٌ لجميع الأعمال، من الطهارة وغيرها، والدليل قد ذكره المصنف في قوله، صل الله عليه وسلم، «ﺇنما ﺍﻷﻋﻤﺎﻝﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺕ، ﻭﺇنما ﻟﻜﻞ ﺍﻣﺮﺉﻣﺎ ﻧﻮى)
ثم يقول: (بسم الله). وهذا أول منازل المشروعات القولية والعملية، أن يقول في وضوئه (بسم الله). أي أستعين بالله تعالى في وضوئي، فـ (بسم الله). هنا متعلقة باسم أو فعل تقديره أتوضأ، (بسم الله). أتوضأ.
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله، في حكم البسملة، فمنهم من قال إنها واجب، وهذا هو المذهب، ومنهم من قال إنها سنة مستحبه، وهذا هو الأقرب إلى الصواب، أما من قال بالوجوب، فقد استدل بما رواه أصحاب السنن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، «لا صلاة لمن لا وضوء له . ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» سنن ابن ماجه 339، وهذا الحديث في إسناده مقال، ولا يصح شيءٌ من الأحاديث في طلب التسمية بين يدي الوضوء، ولذلك الراجح من قولي العلماء أن التسمية سنة وليست واجبة.
لقائل أن يقول حتى السنة لا بد فيها من دليل، فما الدليل ؟، الدليل على سنية البسملة بين يدي الوضوء، مجموع ما ورد من الأحاديث في مشروعية البسملة بين يدي الوضوء، وهذا يختلف عن أن تستدل بحديثٍ معين، إنما مجموع ما ورد من الأحاديث يدل على أن للتسمية أصلًا بين يدي الوضوء، ولذلك قال من قال من أهل العلم بأن التسمية سنة.
قال ويكفي بالبسملة أن يقول بسم الله، ولا يطلب منه أن يكمل البسملة بأن يقول، بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويغسل كفيه ثلاثا). أي ويُسن أن يغسل كفيه ثلاثًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغسل كفيه ثلاثًا بين يدي الوضوء، كما جاء في حديث عثمان بن عفان، أنه دعا بوَضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاثًا.
ثم قال: (ثم ﻳﺘﻤﻀﻤﺾ، ﻭﻳﺴﺘﻨﺸﻖ ﺛﻼﺛﺎ). يتمضمض أي يدير الماء في فمه، فالمضمضة هي إدارة الماء في الفم، والاستنشاق هو جذب الماء بالأنف، وقوله: (ثلاثًا). أي أن يقول ذلك ثلاث مرات، في المضمضة، وثلاث مرات في الاستتنشاق، وقوله: (بثلاث غرفات). أي أن تكون المضمضة والاستنشاق بثلاث غرفات، فكل غرفةٍ يتمضمض منها ويستنشق، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في صفة وضوئه.
(ثم يغسل وجهه ثلاثًا). أي ثلاث مرات، وحد الوجه هو ما تحصل به المواجهة، وقد حده الفقهاء طولًا وعرضًا، فقالوا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، واللحيان هما العظمة التي عليها أسنان الفك السفلى، وما استرسل من اللحية، إذا كان له لحية مسترسلة، هذا ما تحصل به المواجهة، فهذا هو الذي يجب غسله في الوضوء، كما قال المصنف: (ثم يغسل وجهه ثلاثًا).
قال: (ويديه إلى المرفقين ثلاثًا). أي ويطلب منه في وضوئه أن يغسل يديه من رؤوس أصابعه إلى مرفقيه، والمرفق هو المفصل ما بين العضد والساعد، يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثًا، والمرفق داخلٌ في الغسل.
فقد جاء في حديثٍ في إسناده مقال أن النبي صلى الله عليه وسلم «أدار الماء على مرفقيه» سنن الدارقطني: 15، وقد جاء فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد جاء فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي، صل الله عليه وسلم «غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ» صحيح مسلم: 602، وإذا أشرع في العضد فقد دخل المرفق، كما إذا أشرع في الساق فقد دخل الكعب.
ثم قال رحمه الله: (ويمسح رأسه من مقدم رأسه). أي ومن أعمال الوضوء ومشروعاته، أن يمسح رأسه، من مقدم رأسه، ولم يذكر هنا عددًا، بل ذاك مرةٌ واحدة كما سيأتي، إنما ابتدأ ببيان من أين يبدأ في المسح، إلى أي شيء ينتهي، (ويمسح رأسه من مقدم رأسه). أي من بداية منابت الشعر، أو من أوائل موضع منابت الشعر عادًة (إلى قفاه). إلى آخر منابت الشعر في رأسه، وهو القفا.
(ثم يعيدهما إلى المحل الذي بدأ منه مرًة واحدة). أي ثم يعيد يديه مسحًا إلى المكان الذي بدأ منه، والمسح هو إمرار اليد على الشيء، أو إمرار شيء بشيء عمومًا، وفي المسح هنا، أي في مسح الرأس، هو إمرار اليد على الرأس من مقدم الرأس إلى القفا.
وقوله رحمه الله: (مرًة واحدة). أي إنَّ ذلك يشرع مرًة واحدة، فلا تكرار في المسح، وهذه قاعدة في كل الممسوحات، كل ما شرع مسحه فلا تكرار فيه.
وأما من حيث السنة فقد جاء في حديث علي رضي الله عنه، في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أنه يمسح رأسه مرَّة واحدة، والرد هذا، رد اليدين إلى مقدم الرأس من القفا، لا يعد مرة ثانية، إنما هو متمم للمرة الأولى، لأن الشعر هو إقبال وإدبار، له ما يواجه به، وله ما يكون خلف المواجهة، فيكون المسح لأجل أن يمسح ما أقبل من الشعر وما أدبر.
قوله رحمه الله: (ثم يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه). (سباحتيه). أي الأصبع السباحة التي يسبح بها، وتسمى السبابة، وعَدَل المؤلف عن السبابة إلى السباحة؛ لأنها أولى في الوصف، فسميت سبابة؛ لأنها تستعمل في السب عادة، وأما وجه تسمية سباحة؛ لأنه يسبح بها، ويذكر بها الله عز وجل، في عد التسبيح.
وقوله: (في صماخي أذنيه). الصماخ هو الثقب، ثقب الأذن، فهو الخرق المفضي من الأذن إلى الرأس، فيدخل إصبعه في صماخيه، (ويمسح بإبهاميه). وهى الإصبع الكُبرى (ظاهرهما). أي ظاهر أذنيه.
ولا يجب كما أفاد كلام المؤلف لا يجب مسح ما استتر بالغضاريف، إنما يكفي مسح ظاهر أذنيه، ولا يستحب أخذ ماء جديد للأذنين، بل ماء الأذنين بقية ماء مسح الرأس، إلا أن لا يبقى في يديه شيءٌ، لا يبقى في إصبعيه بللٌ، فعند ذلك يأخذ ماءً جديدًا لأذنيه.
وقوله رحمه الله تعالى: (ويدخل سباحتيه في صماخي أذنيه). هذا الترتيب على وجه الاستحباب، فلو بدأ بالأذنين قبل مسح الرأس كان ذلك مجزئًا، لكن في الترتيب الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يبدأ بمسح رأسه ثم يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه.
(ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاثًا). هذا آخر ما يتعلق بأعمال الوضوء، وهو غسل رجليه (مع الكعبين). أي ويدخل فيهما الكعبان (ثلاثًا ثلاثًا). أي ثلاثًا لليمنى، وثلاثًا لليسرى.
بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله، من ذكر هذه الصفة، قال: (هذا أكمل الوضوء الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم). وقد جاء وصف هذا الوضوء في حديث عثمان رضي الله عنه، وهو من أوسع الأحاديث وصفًا لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في أحاديث كثيرة، أو في أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في كيفية وضوئه، وكيفية طهارته.
حديث عثمان رضي الله عنه، هو أكمل الأحاديث، وكان قد دعا بوضوءٍ رضي الله عنه، فغسل كفيه ثلاثًا، ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل رجله اليسرى مثل ذلك، ثم قال رضي الله عنه: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال-أي النبي صلى الله عليه وسلم-: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه» صحيح البخاري162, صحيح مسلم: 226. وهذا يبين عظيم فضل الوضوء؛ وصلاة ركعتين بخشوع وحضور.
قال رحمه الله: (ﻭﺍﻟﻔﺮﺽﻣﻦ ﺫﻟﻚ). بعد أن ذكر المصنف رحمه الله صفة الوضوء إجمالًا، عاد إلى بيان المفروضات.
فقال:(والفرض من ذلك، أن يغسل مرَّةً واحدة). يعني يغسل ما تقدم من الأعضاء مرَّة واحدة، وذلك لما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس « أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ مرة مرة» مسند أحمد بن حنبل: مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه و سلم, حديث رقم: 3073, تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم، وكذلك يدل على ذلك الآية الكريمة التي أمر الله تعالى فيها بالوضوء؛ فإنه لم يذكر عددًا، بل قال {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} سورة: المائدة الآية (6).
ثم ذكر رحمه الله الثاني بقوله: (وأن يرتبها على ما ذكره الله تعالى). أي أن يرتب غسل تلك الأعضاء، على نحو ما أمر الله تعالى في آية الطهارة، في سورة المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} سورة: المائدة الآية (6)، فالله تعالى ذكرها مرتبة.
ودليل أن هذا الترتيب مقصودٌ، وأن مراعاته واجبة، أن الله أدخل بين هذه المغسولات ممسوحًا، فالوضوء مركب أو مكون من غسلٍ ومسح، فلو لم يكن الترتيب مطلوبًا، لما أدخل المسح بين الغسل، هكذا استدل جمهور العلماء، رحمهم الله على وجوب الترتيب، وأن الترتيب فرض بين أعضاء الطهارة.
ويدل لذلك أيضًا، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» صحيح مسلم: 3009، فإنه وإن كان واردًا في الحج، فإنه يعم كل شيءٍ قدمه الله تعالى.
والأمر الثالث أن جميع الواصفين لوضوئه، صلى الله عليه وسلم، ذكروه مرتبًا، فهذه الأدلة الثلاثة كلها دالة على ما ذكره المصنف رحمه الله، من وجوب مراعاة الترتيب في أعضاء الطهارة.
الثالث مما ذكره المؤلف مما يجب مراعاته قوله: (وأن لا يفصل بينها بفاصلٍ طويل). (أن لا يفصل بينها). أي بين أعضاء الطهارة بفاصل طويل عرفًا، وهذا يشير إلى اشتراط الموالاة، وأنه يجب الموالاة بين هذه الأعضاء، وضابط الموالاة أن لا يكون الفاصل طويلاً.
ووجه ذلك، ما دليل وجوب الموالاة؟، (وأن لا يفصل بينها بفاصل طويل). وجه ذلك أن الله تعالى، ذكر الوضوء مقترنًا بعض أعضائه ببعض، بالواو الدالة على اجتماع هذه الأعمال في وقت واحد، فإذا فرقها في وقتين لم تكن عبادة واحدة، كما لو فرق الصلاة، هذا دليل من قال بوجوب الموالاة.
إذًا من قال بوجوب الموالاة استدل بالآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} سورة: المائدة الآية (6)، وجه الدلالة قالوا إن الله تعالى، ذكر الوضوء مقترنًا أعضاؤه بعضها ببعض، وقرن بينها بالواو، وهى مطلوبة في وقت واحد، فمن فرقها لم يأت بما أمر الله تعالى بها.
واستدل أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يوالي بين أعضاء وضوئه، وهذا في الحقيقة أظهر في الاستدلال من الدليل الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، بيَّن بفعله الذي استمر عليه وداوم عليه، أنه لم يفصل ويفرق بين هذه الأعضاء، فلا يجوز التفريق بينها، بحيث ينفصل بعضها عن بعض، بل لا بد أن يربط بينها، بحيث تكون مقترنًة مرتبطة، ويبنى بعضها على بعض.
قال رحمه الله بعد هذا: (وكذا كل ما اشترطت له الموالاة). أي لا يجوز الفصل بين كل ما كان الموالاة شرطًا له، ومطلوبًة فيه، وهذا ذكر لقاعدةٍ عامة بعد حكمٍ خاص.
ثم بعد هذا قال المصنف رحمه الله: فصل.
إذًا هذه المقدمة في باب صفة الوضوء تضمنت:
ذكر صفة الوضوء التام الكامل.
والثاني فروض الوضوء.