الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلم على البشير النذير، السِّراج المنير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد،
يقول المصنَّف رحمه الله في باب التيمم:( ومن عليه حدثٌ أصغر: لم يحل له أن يصلي، ولا أن يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف).
هذه هي جملة من الممنوعات التي يُمنع منها مَن حدثه أصغر، والحدث الأصغر المقصود به من كان فيه مانعٌ يزول بالوضوء، فالحدث الأصغر يوجب الوضوء، فقوله: (من عليه حدث أصغر)، أي من كان يطلب منه الوضوء، هذا شروع فيه بيان، ما يمنعه الحدث الأصغر والأكبر والحيض والنفاس، جعلها جملة، من المسائل في آخر باب التيمم.
يقول رحمه الله: (لم يحل له أن يصلي). أي لا يجوز له أن يصلي، يحرم عليه أن يصلي دون وضوء، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} سورة : المائدة (6)، ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) صحيح البخاري: (6954)، وحديث ابن عمر: ((لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ)) صحيح مسلم: (557) ، وهذا محل اتفاق لا خلاف فيه بين أهل العلم.
قال: (ولا أن يطوف بالبيت). أي: ولا يحل لمن كان حدثه أصغر أن يطوف بالبيت، والمقصود بالطواف هنا كما في الصلاة نفلًا وفرضًا، لا تحل الصلاة نفلًا ولا فرضًا، ولا يحل الطواف نفلًا ولا فرضًا ويستدل لذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما حاضت: ((افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي)) صحيح مسلم: (2977).
وأيضا استدلوا بما جاء عن ابن عباس وروي مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أحل لكم فيه الكلام)) سنن النسائي: (2935)، وهذا الأثر لا يصح مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل غايته أن يكون من قول ابن عباس رضي الله عنه.
ولذلك رجح البيهقي والمنذري وابن الصلاح والنووي، وجماعة من المحدثين الوقف، وأنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وعلى القول بصحته، لا يدل على وجوب الطهارة؛ لأن المشابهة وقعت في كونه يوافق الصلاة في مضمونها وموضوعها، وهو الدعاء.
أما الأحكام فمعلوم أنه يفارق الصلاة في أشياء كثيرة، ليس فقط الكلام:
●يفارق الصلاة في عدم استقبال القبلة.
●ويفارق الصلاة في جواز الحركة.
●ويفارق الصلاة في أنه لا يجب له من الستارة ما يجب للصلاة.
●ويفارق الصلاة في أنه لا ركوع فيه ولا سجود.
فالمفارقة بينه وبين الصلاة في أشياء كثيرة، وليست في الكلام فقط، وبالتالي لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على أنه يمنع مَن حدثه أصغر على الطواف بالبيت، وإنما عمدتهم حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث عائشة رضي الله عنها ليس ظاهرًا في منع مَن حدثه أصغر من الطواف بالبيت، ذلك أن الطواف بالبيت منعت منه الحائض بنص النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن عداها يحتاج إلى دليل.
ومعلوم أن الحدث الأصغر أمرٌ يحدث من الناس ويتكرر، فلو كان ممنوعا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك القول الثاني في المسألة أن من حدثه أصغر لا يمنع من الطواف، لكن يستحب لمن أراد الطواف أن يتطهر، سواءً كان الطواف واجبًا أو مستحبًا.
قال رحمه الله: (ولا يمس المصحف) أي ولا يحل له أن يمس المصحف، والمصحف هو القرآن العظيم، الأوراق التي كتب فيها القرآن العظيم، لا يحل أن يمسه إلا طاهر، لما جاء في قول الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} سورة : الواقعة (79).
والاستدلال بالآية على الحكم محل مناقشة، لأن الآية في قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، المقصود بها الملائكة، لأن الضمير في قوله:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، يعود إلى الكتاب المكنون، وليس إلى القرآن، قال الله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، فالضمير في قول :{لَا يَمَسُّهُ}، يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور ما هو؟ الكتاب المكنون، ولذلك جمهور المفسرين على أن الضمير يعود إلى الكتاب المكنون، وأن المراد هم الملائكة.
ولكن أشار جماعة من أهل التفسير إلى أن الآية تدل بإشارتها إلى أن القرآن العظيم لا يمسه إلا المطهرون، كما أن الكتاب المكنون لا يمسه إلا المطهرون، فكذلك القرآن العظيم لا يمسه إلا المطهرون، فيكون الآية فيها دلالة إشارية، أو فيها تنبيه إلى هذا الأمر.
وقد قال الشيخ رحمه الله: "الآية خبر بمعنى النهي" ، أي لا يمس القرآن إلا طاهر، وقد جاء هذا في كتاب عمرو بن حزم، الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن حزم، حيث جاء فيه، ((لا يمس القرآن إلا طاهر)) موطأ مالك:(278)، وعلى هذا جمهور العلماء.
قال رحمه الله: (ويزيد من عليه حدثٌ أكبر). إذا من عليه حدث أصغر يمنع من ثلاثة أمور:
●من الصلاة، فرضها ونفلها.
●ومن الطواف، فرضه ونفله.
●ومن مس المصحف.
قال: (ويزيد من عليه حدثٌ أكبر). وهو الذي يوجب الغسل، والذي قال فيه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} سورة : المائدة (6)، أنه لا يقرأ شيئًا من القرآن، لا يقرأ شيئًا من القرآن، قليلًا كان أو كثيرًا، وقوله شيئًا، ولو بعض آية، لحديث عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ القرآن على كل حال ليس الجنابة)) سنن النسائي(268) ، وفي رواية لهذا الحديث قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة)) أبو داود(229)، والترمذي (146)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في [المجتبى] (1 / 144)، وابن ماجه(596).
وقد جاء في حديث ابن عمر، أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن)) سنن الترمذي:(131)، لكن هذا الحديث لا يستقيم إسنادًا فهو ضعيف، فيكفي في إثبات الحكم الحديث الأول.
قال رحمه الله: (ولا يلبث في المسجد). اللبُّث هو المكث، ويصدق على أدنى ما يكون من المكث في المسجد، قال: (لا يلبث في المسجد)، والمسجد المقصود به البناء الذي خصص للصلاة، وليس المقصود كل موضع صلاة، إنما المقصود البناء المعهود، الذي خصص للصلاة، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ في الْجَنَّةِ)) سنن الترمذي: (319)،وسنن ابن ماجه(785). لكنه قيد ذلك بقوله بلا وضوء، أي لا يمكث في المسجد بلا وضوء، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} سورة : النساء (43).
فقال المفسرون: أي: لا تقربوا الصلاة حال كون أحدكم جنبًا، إلا في هذه الحال، وهو عابر سبيل، وعابر السبيل، هو المار بالمسجد، أما من أراد المكث فلابد له من تطهر، وذلك أن المساجد مأوى الملائكة، والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنبًا، كما جاء في الحديث.
ولذلك جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا أحل المسجد لحائضٍ ولا جنب)) سنن أبي داود(232)، وقد صححه ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان، وقد تكلم جماعة من أهل العلم في إسناده، والعمدة في ذلك الآية، وما كان عليه عمل الصحابة، فقد روى سعيد بن منصور، عن عطاء بن يسار أنه قال: ((رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصَّلاة))، فالمساجد بيوت الملائكة، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه جنب، فينبغي للمؤمن ألا يجلس في المسجد إلا وهو على طهارة.
ثم قال رحمه الله، بعد ذلك: (وتزيد الحائض والنفساء). وهذه أعلى ما يكون من المنع في حق الحائض والنفساء، أنها لا تصوم، هذا أول ما تمنع منه الحائض والنفساء، أنها لا تصوم، وهذا محل إجماع، ودليل ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ)) صحيح البخاري: (304)، (1951) ،كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والنفساء ملحقةٌ بالحائض في قول عامة أهل العلم.
وأيضا قال: (ولا يحل وطؤها إجماعًا). بنص القرآن، قال الله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} سورة : البقرة (222).
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن المرأة إذا حاضت، وأن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ((اصْنَعُوا كُلَّ شيء إِلاَّ النِّكَاحَ)) صحيح مسلم:(720)، وهذا يدل على أنه لا يجوز وطؤها، والوطء المقصود به الجماع، أما ما عدا ذلك من الاستمتاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء عنه كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ)) صحيح البخاري:(300) ، فالمباشرة وهي نوع من الاستمتاع، لا حرج فيه ولا يمنع منه، لكن الذي يمنع منه قربان المرأة في المحيض، أي في موضع الحيض.
قال رحمه الله: (ولا طلاقها). أي لا يحل طلاقها، لا يحل أن يطلقها وهي حائض، دليل ذلك قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} سورة : الطلاق (1). اللام للتوقيت، أي في قُبل عدتهن.
وأما من حيث السنة، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته حائضاً، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فتغيَّظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ)) موطأ مالك: (1214). فدل ذلك على أن الحيض مما يُمنع معه الطلاق، وهذا قول عامة أهل العلم، لا خلاف بينهم، أنه لا يجوز طلاق المرأة في حيضها.
هذا ما ذكره المصنف رحمه الله ضمن المسائل في ختم باب التيمم.
ثم قال (باب الحيض)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين وجميع المسلمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى، باب الحيض : (والأصل في الدم الذي يصيب المرأة: أنه حيض بلا حد لسنه ولا قدره، ولا تكرره، إلّا إن أطبق الدم على المرأة، أو صار لا ينقطع عنها إلّا يسيراً، فإنها تصير مستحاضة، فقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس عادتها، فإن لم يكن لها عادة، فإلى تمييزها، فإن لم يكن لها تمييز، فإلى عادة النساء الغالبة: ستة أيام أو سبعة. والله أعلم.).
يقول المصنف رحمه الله: باب الحيض. هذا باب الحيض، والحيض والنفاس والاستحاضة، من أقسام النجاسات، ولذلك يذكرها الفقهاء عادةً، بعد باب إزالة النجاسة، في آخر أبواب الطهارة، وذلك لأن لها من الأحكام ما يخصُّها، فذُكرت على وجه منفرد، وختموا بذلك الطهارة.
والحيض لغةً: معناه السيلان.
وفي الشرع: الحيضُ دم طبيعة، وجبلَّة، يرخيه رحم المرأة في أوقات معلومة، مدًة معلومة، إذًا هو دم طبيعة وجبلة، يرخيه رحم المرأة، أي يخرجُ من رحم المرأة، في أوقاتٍ معلومة، مدًة معلومة.
ولله في هذا الخارج حكمةٌ كبرى، فإنَّ خروجَ دم الحيض علامةُ صحة المرأة، وعافيتها، في الجملة، وأنها تقدر على الحمل، ولذلك يقترنُ الحيض وجودًا وعدمًا بالحمل، فإذا وُجد دلَّ على إمكانية الحمل، وإذا لم يوجد انقطع، أو لم يكن موجودًا، كان الحمل مستبعداً.
يقول المصنف رحمه الله، فيما يتعلق بالحيض، وقد أحسن باختصاره وتقعيده، خلافًا لما جرى عليه عمل الكثير من المصنفين في الحيض، حيث يشعِّبون المسائل، ويحصل به إرهاق فهمًا وترجيحًا.
يقول رحمه الله : (والأصل في الدم الذي يصيب المرأة أنه حيض). تقدم لنا أن الأصل هو القاعدة المستمرة، أو الأمر المستصحب، فالقاعدة المستمرة، أن الدم الخارج من رحم المرأة، حيض، هذا هو الأصل، ودليل ذلك، قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} سورة : البقرة (222).
فعرفه الله تعالى بأنه أذى، فالأصل في الدم الخارج من المرأة أنه دم حيض، ومعلوم أننا عندما نقول الأصل، أي أنه الذي يستند إليه، ويتمسك به، ويستصحب عند الاشتباه، فإذا اشتبه الأمر على المرأة، هل هو دم حيض؟، أو دم فساد؟، أو دم عرق؟؛ فهو دم حيضٍ، هذا هو الأصل.
ويدل لهذا، أن النساء زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصابهن الدم، جلسن عن الصلاة ونحوها، مما تمنع منه الحائض حتى ينقطع، حتى إن من المستحاضات اللواتي كن لا يعلمن الحكم، كن يجلسن في جميع دمهن، لأن المُتقرر عندهن أن الدم حيض، حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدم قد يكون حيضًا، وقد يكون غير حيض.
وقد جاء أن بعض الصحابيات حاضت سبع سنين، تركت الصلاة، وهذا من أقوى ما يستدل به على ما ذكره المصنف، من أن الأصل في الدم الخارج من الرحم أنه حيضٌ، ولما نقول أصل عندما يخرج الدم فهو حيض، إلا أن يوجد ما يدل على أنه ليس بحيض.
ما الذي يدل على أنه ليس بحيض؟ ؛ أن يكون مطبقًا، خروجا مستمرًا، أو غالبًا على خلاف العادة، أو يكون ناتجاً عن سبب معلوم، كأن تجري المرأة عملية مثلًا، فتقطع عرق أو ما أشبه ذلك، فيخرج دمٌ، أما إذا لم يكن شيءٌ من هذه العوارض، فإن الأصل في الدم الخارج من المرأة أنه حيض.
وقد قال المصنف رحمه الله: إن هذا هو الأصل الذي يعتضد به، دون نظر إلى (حد لسنه، ولا قدره، ولا تكراره). وهذا الصحيح من قولي أهل العلم رحمهم الله، أن الحيض لا يحد بسنٍ، لا في أوله ولا في آخره، لا تسع سنوات ولا خمسين سنه، ولا غيرها، كما أنه لا حد لأقله، ولا أكثره، لا خمسة عشر يومًا، ولا يومًا وليلة، كما ذكر ذلك جماعة من الفقهاء، وعلى هذا تدل النصوص، فإن الحيض دمٌ متى وجد وجد حكمه، ومتى انقطع زال حكمه.
وقد قال في الإنصاف رحمه الله، كلمة جيدة، قال: (ولا يسع النساء العمل إلا بهذا القول). أي لا يحصل به طمأنينة النساء، وسكونهن فيما يتعلق بهذا الموضوع، إلا بالعمل بهذا الأصل الذي ذكره المصنف رحمه الله، وجرى عليه جماعة من أهل العلم.
وعليه، فإنه ينبغي أن ترتب الأحكام على هذا الأصل، إذا وجد الدم كان حيضًا، وإذا ارتفع كان طهرًا، دون نظرٍ للسن، ولا للقدر، ولا لتكراره، ومتى يُخرج عن هذا الأصل؟ يُخرج عن هذا الأصل عندما يوجد عارض.
وقد أشار إليه المصنف رحمه الله في قوله: (إلا إن أطبق الدم على المرأة، أو صار لا ينقطع عنها إلا يسيرًا). (أطبق) يعني استمر، فإذا استمر خروج الدم من المرأة، بحيث (صار لا ينقطع عنها)، أو أنه (لا ينقطع إلا يسيرًا)، يعني في مدة قليلة، لا تذكر، أو أنه يزيد زيادة فاحشة عن المعتاد، فحينئذ قال المصنف :(فإنها تصير مستحاضة). حينئذ تكون المرأة مستحاضة؛ لأن العادة، والجبلة، تقضي بأن هذا الدم لا يكون حيضًا، بل منه ما هو حيض، ومنه ما هو ليس بحيض، فتكون المرأة مستحاضة، والمستحاضة، حكمها حكم الطاهرات في كل شيء، ولذلك لا فرق بينها وبين الطاهرة في الأحكام، حتى في الوطء على الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الصحابة من وطء زوجاتهم المستحاضات، ولأنه دم عرق، ولأنه لا يندرج في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} سورة : البقرة (222). فليس هو بأذى، إنما هو دم خرج على غير عادة، لعارض فلا يأخذ حكم الدم المعتاد المعهود الذي وصفه الله تعالى بأنه أذًى، فإنها تصير مستحاضة.
ما الحكم في المستحاضة؟ فيما يتعلق بحيضها، ذكر المصنف رحمه الله للمستحاضة ثلاث أحوال:-
الحال الأولى: (أن تجلس عادتها) وهذا في فيما إذا كان لها عادة، زمانًا ومدًة.
الحال الثانية: أن تجلس ما تميز أنه حيض.
الثالث: إن لم يكن لها عادة ولا تمييز، تعود إلى عادة غالب نسائها، هذه ثلاثة أحوال للمرأة المستحاضة.
أجملها المصنف فقال: (فإنها تصير مستحاضة، فقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم) هذا بيان ما الذي يجب على المستحاضة، (أن تجلس عادتها)، وهذه المقصود بها عادتها الخاصة، ما اعتادته من مدة الجلوس، والدليل على هذا، ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أُستحاض فلا أطهر.- يجري مع الحيض فلا ينقطع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، لما قالت له: إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، قال: ((لا)) صحيح البخاري: (325)، يعني ليس هذا بحيض ((إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ)) صحيح البخاري:(325)، يعني هذا الدم الجاري الذي لا يقف، ليس حيضا، إنما هو دم عرق، قالت ماذا تصنع، قال: ((وَلَكِنْ دعي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَيَّامِ التي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّى)) صحيح البخاري: (325). قدر الأيام عددًا، وقدر الأيام زمانًا، عددًا وزمانًا، فإذا كانت تحيض في أول الشهر، في أوسط الشهر، في آخر الشهر، تترك عدد الأيام في موضعها.
قال رحمه الله: (فإن لم يكن لها عادة، فإلى التمييز). إذا لم يكن لها عادة خاصة، بأن تكون ابتدأت الدم على هذا النحو الذي لا عادة لها فيه، فأطبق عليها الدم أو كان مضطربًا من أول مجيئه، (إن لم يكن لها عادة)، فينظر إلى الدم الخارج، إن كان متميزًا، بمعنى أنها تميز دم الحيض عن غيره، لونًا ورائحةً، فإنه عند ذلك تعمل بالتمييز، وذلك بالنظر إلى لونه وإلى رائحته وإلى كثافته.
ودليل هذا أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لما شكت له الحيض، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ)) سنن أبي داود: (304). سنن النسائي:(217)، (364)، هكذا جاء في بعض الروايات، وهي مما تكلم فيه العلماء من حيث ثبوتها، لكن عمدة من قال بالتمييز.
الثالث من الأحوال: حال من لا عادة لها ولا تمييز، من ليس لها عادة مطردة، ولا تميز لونًا ورائحةً وكثافةً، فقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أن ترجع إلى عادة نسائها، فإن لم يكن لها تمييز، ولم يكن لها عادة، فإنها تصير إلى عادة غالب نسائها، (فإلى عادة النساء الغالبة، ستة أيام، أو سبعة أيام).
ودليل ذلك حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها، أنها كانت تستحاض حيضًة شديدًة كثيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا هي رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ)) سنن الترمذي: (128)، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، في علم الله، ثم اغتسلي، ردها إلى عادة غالب النساء، لأنه لم يكن لها تمييز صالح، ولم يكن لها عادة معتبرة، فردها إلى عادة غالب النساء.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن كان لها تمييز، فتبدأ بالتمييز، فإن لم يكن لها تمييز، فعادتها الخاصة، فإن لم يكن لها عادة خاصة، فتصير إلى عادة غالب النساء، وهذا صححه المصنف رحمه الله في كلامه، في تعليقه على عمدة الأحكام.
بعد ذلك قال المصنف رحمه الله: (والله أعلم). وبهذا يكون قد انتهى كتاب الطهارة.