بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ). التعليق: الحمد لله ربّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقول المؤلف رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ). (الْجَنَّةُ) هي دار النعيم الكامل، التي أعدها الله جل وعلا لعباده المتقين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. (وَالنَّارُ) هي دار العذاب التي أعدّها الله جل وعلا للكفار والمشركين، والعصاة من أهل التوحيد. (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) أي إنهما مخلوقتان الآن، وهٰذا ما عليه أهل السنة والجماعة، لا خلاف بينهم في ذلك، دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كما أنه يدل على ذلك العقل، فإن في خلقهما وإعدادهما من الحِكَم ما تقتضيه العقول. وقد جرى على هٰذا أهل السنة والجماعة وأهل هٰذه الملة، حتى تكلم في ذلك أهل الاعتزال والقدرية الذين قالوا: إنه ليس من الحكمة خلق الجنة والنار؛ لأنه يجب على الله جل وعلا فعل الأصلح، وليس في خلقهما الآن قبل الدخول وقبل مجيء الوقت الذي يصير فيه أهل كل دار إليها حكمة، بل هو عبث، تعالى الله عما يقولون، فأوجبوا عدم خلق الجنة والنار ونفوا أنهما مخلوقتان. خلق الجنة والنار أمر كما ذكرنا مستقر وظاهر لكل من قرأ الكتاب أو سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم. فالله جل وعلا أعد الجنة للمتقين كما قال سبحانه وتعالى : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} سورة : آل عمران (133). . وأعدّ النار للكافرين كما قال جل وعلا: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} سورة : البقرة (24). . والإعداد يقتضي التهيئة والوجود. أما الأحاديث في السنة فهي مستفيضة لا إشكال فيها، والإنسان إذا كان الأمر واضحاً ظاهراً لا يحتاج إلى الإسهاب أو التطويل في ذكر الدليل؛ لظهور ذلك. ومما يدل على وجودهما في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ورأى النار صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأُري الجنة والنار وهو في صلاة الكسوف مع أصحابه رضي الله عنهم، ولا يمكن أن يَرى ما لا وجود له، وما قيل: إنه رأى خيالاً ومثالاً، ليس بصحيح؛ لأن الأصل فيما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه حق على حقيقته، لا مجاز فيه. المهم أنّ الجنة والنار مخلوقتان معدتان، ولا يلزم من قولنا: إنهما مخلوقتان أن يكون قد تم خلقهما من كل وجه، فإن الله يُحدث فيهما ما يشاء، ولذلك كان قول: (سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله) غرس الجنة، فدل ذلك على أنها تُهيَّأ وينشئ فيها الله جل وعلا ما يشاء، لكن من حيث الوجود هما موجودتان، وقد يكمل الله سبحانه وتعالى خلقهما على وجه الاستمرار، إلى أن يقضي الله جل وعلا بدخول أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، لكنهما موجودتان، قبل أن يخلق الله جل وعلا الخلق، قبل أن يخلق الإنس والجن، يدلّ لذلك حديث عائشة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم)) مسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم (2662). . فدلّ ذلك على تقدّم خلق الجنة والنار. ثم إنّ قول المعتزلة: لا فائدة من خلق الجنة والنار، كذب؛ لأنّه وإن كان الدخول دخول الأبدان وتنعّم الأرواح على وجه الكمال لا يكون إلى الجنة إلا في الدار الآخرة وكذلك النار، إلا أنّ الأرواح تدخل الجنة، فإنّ أرواح المؤمنين في الجنة تسرح وتتنعم، وكذلك أرواح كذلك الكافرين في سجين. فقولهم: (لا معنى) هو من التحكم، والله جل وعلا الحكيم الخبير فعال لما يريد: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} سورة : الأنبياء (23). . يقول رحمه الله: (لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ). هٰذا أيضاً من عقد أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان بقاءً أبديّاً (وَلا تَبِيدَانِ) أي ولا تزولان ولا تهلكان، ولا يجري عليهما زوال أو فناء، بل هما باقيتان بقاءً أبديّاً سرمديّاً، لا خلاف في أن الجنة باقية، فإن هٰذا عقد أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بينهم في ذلك. فإن الله جل وعلا ذكر تأبيد النعيم في آيات كثيرة. وأما النار فقد ذهب جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم إلى أن النار تفنى، ولكن الذي عليه جمهور السلف، والذي عليه الأئمة على تعاقب العصور والدهور أنّ النار باقية كالجنة لا تفنى. وما ورد مما ظاهره عدم تأبيد النار تقضي عليه النصوص التي ذكر فيها التأبيد، فإن الذين قالوا: إنها لا تبقى بل تبيد وتفنى، من أهل السنة والجماعة استدلوا بأدلة، من ذلك قوله تعالىٰ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} سورة : النبأ (23). أي مُدداً طويلة. واستدلوا بمثل قوله تعالىٰ في أهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} سورة : هود (107). في حين أنه قال في الجنة: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} سورة : هود (108). أي غير مقطوع، فهٰذا دل على استمراره وبقائه. لكن هٰذا وأمثاله مما استدل به من استدل من أهل السنة على أن النار تفنى، لا يتم الاستدلال به، بل هو مفسر بالآيات التي فيها الإخبار بتأبيد النار، وأنها باقية بقاءً لا زوال له. وقد ذكر الله جل وعلا تأبيد تعذيب النار في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة النساء حيث قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} سورة : النساء (168-169). فذكر التأبيد: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} . وذكر الله جل وعلا التأبيد أيضاً في سورة الأحزاب في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} سورة : الأحزاب (64-65). . وذكر ذلك أيضاً في سورة الجن في قوله تعالىٰ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} سورة : الجـن (23). . فهٰذه ثلاث آيات في القرآن الحكيم تدل على أن النار مؤبدة، فهٰذا التوضيح والتبيين يقضي على ما يوهمه قوله تعالىٰ: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} سورة : هود (107). ، وعلى قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} سورة : النبأ (23). . ولذلك كان جمهور أهل السنة والجماعة على أن النار لا تفنى ولا تبيد، بل أهلها فيها إلى أبد الآباد. وأما الجهمية فإنهم قالوا بفناء الجنة والنار، وقالوا: إن الله يُفني الجنة ويفني النار. وهؤلاء كذّبوا بما دلت عليه النصوص، ولم يوفّقوا إلى خير. وهناك أقوال أخرى لا داعي للإسهاب بذكرها، ذكرها أهل العلم رحمهم الله في شرحهم وبيانهم لأقوال المخالفين لأهل السنة والجماعة في هٰذه المسألة. إذاً الذي استقر عليه الأمر من دلالة الكتاب والسنة أن (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ). ثم قال رحمه الله: (وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ). المراد قبل الخلق قبل خلق الإنس والجن، وليس أن الجنة والنار هي أول ما خلق الله سبحانه وتعالى ، بل الذي دلت عليه النصوص أن الجنة والنار مخلوقتان قبل خلق الإنس والجن. يقول: (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً). لا إشكال أنه خلق لهما أهلاً من الجن والإنس، ويُنشئ الله جل وعلا يوم القيامة خلقاً فيدخلهم الجنة، أما النار فإنه لا يدخلها إلا من استحق. قال: (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ) من شاء الله جل وعلا (مِنْهُمْ) أي من الخلق (إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ). وهٰذا من أحسن ما ذكر المؤلف رحمه الله في هٰذه المسألة، حيث بيّن أن دخول الجنة ليس بعمل الإنسان، بل هو فضل الله جل وعلا، وهٰذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة)) البخاري: كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة علىٰ العمل، حديث رقم (6464) ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لم يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تَعَالىٰ، حديث رقم (2816، 2817، 2818) فالعمل لا يستقل بدخول الجنة، إنما فضل الله السابق واللاحق هو الذي يؤهل الإنسان لدخول الجنة. (وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ) أي من الخلق (إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ). فالنار لا يدخلها إلا من استحقها: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} سورة : الأنعام (128). ، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} سورة : يونس (44). ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة : النحل (118) ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} سورة : فصلت (46). والنصوص الدالة على نفي الظلم تدل على أنه لا يمكن أن يدخل النار أحد إلا ممن استحقها، ويرى أن الله جل وعلا لم يظلمه شيئاً، فهو إذا دخل يؤمن باستحقاقه، وأنه مستحق لأن يكون من أهل النار ومستحق لهٰذا العقاب الذي هو فيه، وإنما يطلبون التخفيف والرحمة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} سورة : الزخرف (77). . وأيضاً يستجيرون بالملائكة، ويسألونهم أن يشفعوا لله عزوجل فيقولون: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} سورة : غافر (49). . لكنهم لا يقولون: لسنا مستحقين، ظلمنا ربنا بدخولنا، بل يقولون: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} سورة : المؤمنون (106). . فهم يشهدون على أنفسهم بالدخول واستحقاق الدخول، فلا يدخل أحد النار أبداً إلا وهو من أهلها، نسأل الله عزوجل السلامة منها، ولذلك لا يهلك على الله إلا هالك. قال رحمه الله: (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ). هٰذا من صلة ما تقدّم أن الخَلق يعملون لما فُرغ له بشأنهم، فهم يعملون وفق ما قُدّر لهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له)) البخاري: كتاب التفسير، باب {فسنيسره للعسرى} [الليل:10]، حديث رقم (4949)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ..حديث رقم (2647). . فالله جل وعلا سبق علمه بأهل الجنة وبأهل النار على وجه الكمال، لا نقص ولا زيادة. والناس والخلق كلهم ميسّرون لما خلقوا له، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا، فكل ميسر لما خُلق له)). وقد ذكر الله جل وعلا تيسير الناس إلى ما قُدر لهم في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} سورة : الليل (4). أي مختلف متنوع: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } سورة : الليل (5-10). وهٰذا فيه دعاء الناس إلىٰ العمل، وعدم الاتكال والاعتماد على سابق الكتابة والعلم، فإنه لا علم لأحد ما الذي كُتب له هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فلا حجة لأحد في سابق العلم والتقدير، إنما الحجة لله عزوجل على خلقه، حيث أمرهم ونهاهم، وسهل لهم ومكنهم من الاختيار والعمل. وهٰذا صلة ما تقدم فيما يتعلق بالجنة والنار، ومدخل لما سيبحثه في المقاطع التالية من الكلام على بعض مسائل القدر. يقول رحمه الله: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ. وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). . نعم،يقول رحمه الله: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ). لا شك في هٰذا، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالىٰ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} سورة : القمر (49). . فكل شيء في الكون مخلوق لله جل وعلا من خير أو شر، لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا شيء من شؤون الخلق، بل الجميع تحت قهره وقدرته وخلقه سبحانه وتعالى. وهٰذا الذي ذكره من تمام الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في أصول الإيمان لما سُئل عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.. حديث رقم (08).. والقدر لا شك أن فيه خيراً وفيه شراً، لكن إعلم أن الشر الذي في القدر ليس هو فعل الرب جل وعلا، بل فعل الله جل وعلا خير لا شر فيه، إنما هو في المقدور المقضي المخلوق. ثم إن الشر في المقدور المقضي المخلوق شر نسبي ليس شرّاً محضاً. يقول رحمه الله بعد ذلك: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ ). هٰذا من فروع ومسائل القدر، الاستطاعة، يقول: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). يشير المؤلف رحمه الله إلى اختلاف الناس في الاستطاعة، والاختلاف هنا بين فريقين- بين المعتزلة القدرية وبين الجبرية الجهمية- في تعريف الاستطاعة، وهٰذا له صلة بمسألة هل يكلف الله جل وعلا الخلق بما لا يطيقون أو لا؟ ننظر إلى الاستطاعة ما هي؟ يقول رحمه الله: (الاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ) ثم ذكر النوع الثاني من الاستطاعة، فالاستطاعة نوعان: استطاعة سابقة للفعل. واستطاعة مقارنة للفعل. الاستطاعة السابقة للفعل هي التي أناط الله جل وعلا بها التكليف. وتعريفها: هي ما يحصل به التكليف أو القدرة على الفعل دون ضرر راجح. كالقيام في الصلاة، والصيام الواجب، الاستطاعة عليه هي أن يقدر الإنسان على فعل هٰذا دون أن يلحقه ضرر راجح، فإن لحقه ضرر راجح فهو غير مستطيع. هٰذه الاستطاعة، هل هي سابقة للفعل أو ليست سابقة له؟ سابقة للفعل، لا إشكال، ولذلك هٰذا النوع من الاستطاعة لولا هو لما حصل التكليف، فهو مناط التكليف، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). يعني بها يتعلق الأمر والنهي، (الْخِطَابُ) خطاب الشارع بالأمر والنهي. فهٰذا النوع به يتعلق أمر الله ونهيه، وهو المذكور في قول الله تعالىٰ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة : آل عمران (97). .ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: ((صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)) البخاري: كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، حديث رقم (1117) . فهٰذا النوع من الاستطاعة سابق للفعل، وبه يصح الأمر والنهي، وهو الذي يقر به القدرية، وينكره الجبرية، الجبرية ينكرون هٰذا النوع من الاستطاعة، لماذا؟ يقولون: لأنه لا قدرة للعبد على فعل شيء إلا ما أقدره الله عليه، فهم ينفون الاستطاعة. ولذلك هم –الجبرية- وقعوا في أي خلل؟ وقعوا في الخلل في باب الأمر والنهي، فعطلوا الأمر والنهي؛ لأنه لا قدرة للعبد ولا استطاعة، إنما الفعل كله لله، والعبد حركاته إنما هي كحركات المرتعش وكحركات الشجر وكنبض العروق، لا اختيار له فيها ولا أثر. فهم أنكروا الاستطاعة السابقة للفعل، والذي أقر بها من؟ القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه. النوع الثاني من الاستطاعة هو الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي بمعنى القدرة عليه، وهٰذا النوع يثبته الجبرية، وينفيه القدرية، فعندهم أن هٰذه القدرة لا تدخل في تقدير الله جل وعلا ولم يعلق الله بها شيئاً عند القدرية. وأما الجبرية فإنهم يثبتون هٰذا النوع من الاستطاعة. والذي عليه جمهور السلف والخلف ممن تبع الكتاب والسنة إثبات النوعين من القدرة: إثبات القدرة السابقة للفعل، وهي المصحّحة للأمر والنهي، وهي التي يتعلق بها الخطاب أمراً ونهياً. والاستطاعة المقارنة للفعل. وبهٰذا تجتمع النصوص، ويبطل قول القدرية نفاة خلق الله لأفعال العباد، وقول الجبرية الذين قالوا: لا فعل للعبد ولا قدرة ولا مشيئة، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، لا اختيار له ولا قدرة. قول الله تعالىٰ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } سورة : هود (20).، وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} سورة : الكهف (101) في سورة الكهف، فهٰذه الآية والتي قبلها نفى الله جل وعلا فيهما الاستطاعة، فما هي الاستطاعة المنفية؟ هل الاستطاعة المنفية هي التي بمعنى القدرة على الفعل السابقة لوجوده؟ الجواب: لا، على قول من فصل القدرة بالسابقة والقدرة المقارنة، فتكون الاستطاعة المنفية هنا هي القدرة المقارنة للفعل: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} سورة : الكهف (101). . والآية الأخرى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} سورة : هود (20). فالاستطاعة المنفية هي القدرة، يعني: ما كانوا يقدرون سمعاً وقت وجوب الاستماع، وما كانوا يستطيعون سمعاً أيضاً وقت الاستماع، فنفى القدرة، لا القدرة التي يحصل بها التكليف، هٰذا على قول من فصّل في القدرة. وأما قول جمهور السلف، وهو التفسير المشهور عند الأئمة أنّ النفي في الآيتين هو نفي.. ليست القدرة التي يحصل بها التكليف ولا القدرة المقارنة، إنما فيه إثبات مشقة ذلك عليهم؛ لفساد قصودهم وإراداتهم، وانحراف قلوبهم، فأصبحوا -لما في نفوسهم من الفساد، ولما في إراداتهم من الانحراف- لا يستطيعون سماع الحق ولا إبصاره ولا الأخذ به. أما على قول من يقول بالقدرة المقارنة فإنه يُفسِّر بها قوله تعالىٰ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} سورة : هود (20). . ثم اعلم -بارك الله فيك- أن الأدلة دلت على إثبات هذين النوعين من الاستطاعة، وأن الاستطاعة التي تسبق الفعل هي التي يقترن بها التكليف، وهي مناطه، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ) أي التكليف. نرجع ونقرأ الكلام يقول: (وَالاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) لأنها ليست منه، إنما من الله عزوجل الذي وفقه إليها (فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) يعني مقارنة له، وهي المنفية في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} سورة : هود (20). . (وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ) يعني والقدرة (وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ). وأهل السنة والجماعة يثبتون هٰذا وهٰذا. ثم قال: (وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). ). أي إلا ما تسعه وتقدره، وتطيقه، فالتكليف المنفي هنا هو التكليف السابق للفعل، وليس المقارن له.نعم. ثم قال: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ، وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ). طيب. (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ). تقدمت أدلة هٰذا، وأن أفعال العباد خلق له جل وعلا، لا يخرج عن خلقه شيء، ومع كونها خلقه سبحانه وتعالى فهي كسب العباد، أي مضافة إليهم، وقد أضاف الله جل وعلا الأفعال إلى فاعليها: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة : السجدة (17)، والأحقاف (14)، والواقعة (24). وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن التي يضيف الله جل وعلا فيها الفعل للعبد، فالفعل خلق الله جل وعلا وهو كسب للعبد، له عليه قدرة وله مشيئة، فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وخالقون لأفعالهم حقيقة، وهم وأفعالهم خلق الله جل وعلا، فالعبد ذاته وفعله وصفته كلها خلق لله جل وعلا، وأفعال العبد كسبه، فهو الذي خلقها؛ أي هو الذي فعلها وباشرها بمشيئته وإرادته، تضاف إليه وتنسب حقيقة. فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة تُضاف إليهم، لا على وجه المجاز كما يقوله من يقوله، وهي خلق الله جل وعلا لا تخرج عن خلقه، كما قال الله جل وعلا: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} سورة : التكوير (28-29). . فأثبت في هٰذه الآية للعبد مشيئةً وفعلاً، فقال: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} سورة : التكوير (28). فأثبت مشيئة للعبد وفعلاً للعبد، ثم أخبر أن مشيئة العبد لا تخرج عن إرادة الله عزوجل، بل مشيئته سبحانه وتعالى محيطة بفعل العبد ومشيئته، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل كما قال سبحانه وتعالى : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة : الإنسان (30) . وقوله رحمه الله: (وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) رد على الأشاعرة وعلى الجبرية. الأشاعرة يقولون قولاً عجيباً في هٰذا الأمر، يقولون: الأفعال خلق للرب كسب للعبد، قيل لهم: ما معنى الكسب؟ قالوا:معنى الكسب أنها تضاف إليه مجازاً، وإلا فإن العبد لا قدرة له على فعله. فهم أثبتوا أنها كسب العبد، ونفوا قدرة العبد على فعل نفسه، فأتوا بقول من أعجب الأقوال. ولذلك عُدّ هٰذا القول من محالات الأقوال، التي تحيلها العقول، وهي ثلاثة: كسب الأشعري، وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم. ثم قال رحمه الله: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ). أي:لم يكلف الله جل وعلا الخلق إلا ما يستطيعون، كما قال الله جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). ، وكما قال: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (233). . فأخبر الله جل وعلا بأنه لا يكلف الناس ما لا يطيقون، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} سورة : البقرة (286). ((قال الله جل وعلا: قد فعلت)). كما في صحيح مسلم مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، حديث رقم (125).. فإن الله فعل ما دعا به المؤمنون: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . فدل ذلك على أن الله جل وعلالم يكلف عباده إلا ما يطيقون، يعني إلا ما يستطيعونه ويطيقون حمله. قال: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ). هٰذه الجملة فيها إشكال؛ لأن مفهومها أنهم لا يطيقون إلا ما جرى به التكليف، فالتكليف مساوٍ وموازٍ وقد بلغ المنتهى في الطاقة، وهٰذا ليس بصحيح، بل التكليف دون الطاقة، ويدل لذلك قول الله تعالىٰ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). . انظر في قوله تعالى: {إِلاَّ وُسْعَهَا} . وهٰذا يفيد معنى السَّعة، وأنه ليس في التكليف ما يحصل به على الإنسان ضيق أو حرج، بل التكليف فيه سعة وانشراح، ولا يلحق المكلَّف به ضيق أو حرج، ولذلك نفى الله جل وعلا الحرج في الدين فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة : الحج (78). . فنفى الله جل وعلا الحرج، بل أثبت التخفيف في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} سورة : النساء (28). ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة : البقرة (185). {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة : الحج (78). . والأدلة في هٰذا كثيرة، بل من أصول الدين نفي الحرج. ولا يمكن مع هٰذا أن نقول: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ). بمعنى أنه لو زاد قليلاً لخرج عن الطاقة، ثم إنه في الواقع أن الإنسان يكلف ما يطيقه، لكن يلحقه به مشقة وهٰذا ليس في الشريعة منه شيء، فمثلاً لو قيل لك: احمل هٰذا الدولاب، تطيق أن تحمله، لكن فيه عليك مشقة وحرج، فهٰذا لا يخرج عن الطاقة، وتكاليف الشريعة في الجملة ليست كهٰذا، إنما تكاليف الشريعة في الجملة هي مما يطيقه الإنسان ولا يلحقه بفعله حرج أو ضيق. وانتبه للسر في قوله تعالىٰ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). . والوُسع يقتضي السعة والراحة والانشراح. فهٰذه الجملة المؤلف رحمه الله لعله أراد تأكيد معنى (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ)، لكنه لم يحرّر العبارة، فالعبارة فيها إشكال. على أن بعضهم قال: (وَلا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ) فسر الطاقة هنا بالقدرة المقارنة للفعل، لكن هٰذا فيه تكلف. وقد علق شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله على هٰذه العبارة بأن فيها نظراً، والنظر ما بيناه وفسرناه. ثم قال رحمه الله: (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ". نَقُولُ: لا حِيلَةَ لأَحَدٍ، وَلا حَرَكَةَ لأَحَدٍ، وَلا تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى). قال رحمه الله: (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"). المشار إليه ما تقدم من تقرير مسائل القدر، ولا شك أن قول: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) من أعظم الأدلة على إثبات القدر، ومن أعظم الأدلة في الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه. لأن معنى قوله: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) ما قاله المؤلف: (نَقُولُ: لا حِيلَةَ لأَحَدٍ). فالحول اسم للتحوّل وهو الانتقال من حال إلى حال، وهٰذا يشمل كل الأحوال: الظاهرة، الباطنة، العامة، الخاصة، لا تحوّل لأحد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك التحول إلا بالله العلي العظيم، فكل حركة وسكون، كل انتقال وتغيّر، كل تحول فإنه بمشيئة الله وقدرته. لا قدرة للعبد على ذلك مهما أُوتي من القدرة والمكنة والاستطاعة إلا بتقدير الله جل وعلا، لا حيلة لأحد. يقول: (وَلا حَرَكَةَ لأَحَدٍ، وَلا تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ). وهٰذا فيه كمال التفويض لله جل وعلا، وهٰذه الجملة من الجمل التي لا تخصيص لها، العموم فيها على إطلاقه، لا مخصص له. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها أنها كنز من كنوز الجنة، وذلك لما تتضمنه من تمام الإخلاص والتفويض والإيمان بالله جل وعلا، ولما فيها من الخير العظيم لمن اعتقد معناها، وقرّ في قلبه مقتضاها ومفادُها. فإنه مما يعين الإنسان على الانتقال من حال إلى حال استحضار هٰذا، ولذلك لها تأثير عجيب في تحمل المشاق، وفي ركوب الأهوال، وفي تحصيل المطالب، ومن لزمها وفِّق إلىٰ خير كثير، ويكفي في فضلها أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها كنزاً، فقال لأبي موسى: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟)) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (4205) مسلم: كتاب الذكر والدعاء التوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث رقم (2704). والكنز اسم لنفيس المال الذي يخفى على الناس نفعه، وهٰذا هو المطابق لهٰذه الكلمة، فإنّ الكنز لا يطلق على المال الظاهر الذي يدركه كل أحد، إنما ما خفي من المال وليس فقط ما خفي، ما خفي وكان نفيساً، فملازمة هٰذه الكلمة من أنفع ما يكون للعبد. والمقصود من سياق المؤلف رحمه الله لهٰذه الكلمة في هٰذا الموضع هو بيان ما يدل على قوله رحمه الله: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ). فهي مقررة لإثبات القدر. ثم يقول رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} سورة : الأنبياء (23). ). هٰذا فيه تقرير ما تقدم من الإيمان بالقدر، قال رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ) في الكون (يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ). ولا يؤمن أحد بالقدر إلا بذلك: أن يؤمن بأن كل شيء بعلم الله وكتابته وخلقه ومشيئته، فلا شيء خارج عن هٰذا. (غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا). ولا إشكال، قال الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} سورة : الإنسان (30)، التكوير (29). . فمشيئة الله محيطة بمشيئة الخلق. (وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا). فإذا لم يقض الله جل وعلا الأمر فمهما احتال عليه المرء فإنه لا يحصّله، لا حول ولا قوة إلا بالله. (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، تقدست أسماؤه (وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا): {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} سورة : يونس (44).، ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2577). (تَقَدَّسَ) أي تنزه وتطهر وتعالى جل وعلا (عَنْ كُلِّ سُوءٍ) أي عن كل عيب، وعن كل شر (وَحَيْنٍ) وهو في معنى السوء والشر والعيب والظلم. (وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ) فلا شيء مثله تقدست أسماؤه، سبحانه وبحمده، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . بل من سأل الله: لم فعلت كذا؟ فقد اعترض على الرب جل وعلا: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وإذا اجتمع في قلب العبد هٰذه المعاني سَلِم من كل ما يمكن أن يعرض له في باب القدر، وأحسن المؤلف رحمه الله حيث ختم ما يتعلق بمسائل القدر في هٰذا المقطع بنفي الظلم عن الرّب جل وعلا، ونفي لحوق العيب والسوء والشين والحين له سبحانه وتعالى، ثم قال: {لا يُسْأَلُ} حتى يقطع اعتراض المعترضين {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وقد جاء رجل إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقال: في نفسي شيء من القدر، فحدثني حديثاً يذهب الله به عني ذلك. فقال رضي الله عنه مقولة عظيمة تبين عظيم فقه الصحابة رضي الله عنهم ، قال له: إن الله لو عذّب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، واعلم أنه لو كان لك مثل أحد ذهباً فأنفقته في سبيل الله لم ينفعك حتى تؤمن بالقدر، وأنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك . قال ابن الديلمي -وهو الذي سأل أبي بن كعب-: فسألت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، كلهم أجابني بمثل ما أجابني أبيّ. وهٰذا الأثر حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في القدر حديث رقم (4699) سنن ابن ماجه: المقدمة، باب في القدر، حديث قم (77). قال الشيخ الألباني: صحيح.. يدلّ على عظيم فقه الصحابة، وأنه لا سلامة للعبد من لوثات ما يعْلق في قلبه ويلقيه الشيطان مما يتعلق بالقدر إلا باعتقاد كمال عدل الله جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً. ومع هٰذا يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويكفي في هٰذا ما قاله رحمه الله في أول كلامه في القدر: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ). نقف على هٰذا ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، لا حول ولا قوة إلا بالله.