بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ. وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ. وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ، وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ. وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى). التعليق: الحمد لله ربِّ العالمين،وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ). أولاً بالنسبة لما تقدم من تقسيم الاستطاعة إلى قسمين، نسأل: ما هما القسمان؟ لأن بعض الإخوان تساءل أمس سؤالاً مستشكلاً بعد الخروج، عبد العزيز، نعم وهٰذه وهي السابقة للفعل. هي مناط التكليف في مثل قوله تعالىٰ: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} سورة : آل عمران (97). وأيضاً الآية التي ذكرت تدل لكن تلك أوضح، أيضاً. الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي التي يوجد بها الفعل. فمثلاً أمر الله جل وعلا بإقامة الصلاة في قوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} . هٰذا الأمر هل يوجه لغير المستطيع؟ في الأصل: لا؛ لأن التكاليف كلها مناطها الاستطاعة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} سورة : التغابن (16). ، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة : البقرة (286). . هٰذه الاستطاعة الأمر متوجّه إلى المستطيع، وهي التي أناط الله بها التكليف، الاستطاعة المقارنة هي التي يسهلها الله للعبد وقت امتثال الأمر، عند صلاته، وقد فسر جماعة من العلماء قول الله تعالىٰ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} سورة : هود (20). بهٰذا النوع، أي الاستطاعة التي يوجد بها الفعل، استطاعة التنفيذ التي يحصل بها الفعل، وذكرنا لكم أن عامة المفسرين من السلف والخلف على أن الاستطاعة المنفية في هٰذه الآية وأشباهها هي عدم قدرتهم على سماع الآيات؛ لما في نفوسهم من الفساد، وهٰذه القدرة ليست القدرة التي يحصل بها التكليف، إنما أن نفوسهم تأبّت عليهم مع أنهم قادرون عليها، والإنسان قد يريد الشيء ويقدر عليه لكن تمنعه نفسه من فعله، فيكون غير مستطيع من جهة امتناع النفس لا من جهة عدم التحمل والقدرة على الفعل، وهٰذا تفسير عامة المفسرين لقول الله تعالىٰ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} سورة : هود (20). . ويمكن أن يفسر بالتفسير الثاني الذي ذكرنا، وهو أنهم لم يوفقوا للسماع الذي ينتفعون به. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ). هٰذه المسألة صلتها بكتب الفروع أوثق منها بكتب الاعتقاد، لكن ذكرها المؤلف رحمه الله ردّاً على من قال بـأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء بشيء، وهٰذا تكذيب لما أجمعت عليه الأمة من وصول نفع بعض الأعمال إلى الأموات، فإن الأمة أجمعت على أن الدعاء ينتفع به المدعو له حيّاً أو ميتاً وهو ليس من سعيه ولا من عمله، إنما من عمل غيره، وقد وقع الخلاف في بعض الأعمال هل ينتفع بها الأموات أو لا؟ كالصدقات وأشباهها، فذكر المؤلف لهٰذه المسألة في كتب الاعتقاد لبيان ما يعتقده أهل السنة والجماعة من انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم، ردّاً على من نفى ذلك مطلقاً من القدرية وغيرهم، حيث قالوا: لا ينتفع الإنسان بعمل غيره مطلقاً، وهٰذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من ثبوت أصل الانتفاع. أما تفاصيل الانتفاع فإن في ذلك خلافاً بين أهل العلم: فمنهم من يرى أن الميت لا ينتفع بغير الدعاء، وأما العمل فإنه لا ينتفع منه الميت، بل هو لصاحبه؛لقول الله تعالىٰ:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} سورة : النجم (39). ، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها نفي ملك الإنسان لعمل غيره. ولكن الصحيح في هٰذه المسألة الفروعية أن الإنسان ينتفع بعمل غيره دعاءً وصلاةً وزكاةً وحجّاً وغير ذلك من أعمال البر، وليس في الآية ما يدل على امتناع النفع، وقد جاء ما يدل على انتفاع الإنسان بصدقة غيره وبحجه وبصومه، وكذلك بقية العبادات؛ لعدم المانع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هٰذه المسائل كلها سئل فأجاب بالانتفاع والجواز، فدل ذلك على أن كل الأعمال -أعمال البر- كذلك، فإنه ينتفع بها الميت وتصل إليه. وأما آية {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} سورة : النجم (39). . فإنها لا تدل على عدم انتفاع الإنسان بسعي غيره، إنما تدل على أن الإنسان لا يملك إلا سعي نفسه، ثم إذا ملك سعي نفسه فإن له أن يتصرف فيه بما شاء من هبته لغيره، فالآية ليس فيها قطع انتفاع الإنسان بعمل غيره، بل فيها أنه لا يملك إلا سعي نفسه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} له ملكاً وانتفاعاً، فإذا وهب ملكه ونفعه لغيره فهو له، ولا يمنع من ذلك، ودلت الأدلة على جواز هٰذا. قال رحمه الله: (وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ) خصّ الأموات بالانتفاع مع أن الانتفاع في الدعاء يكون حتى للأحياء؛ لأن الغالب في ذلك يكون للأموات، ولأن الصدقات تكون في الغالب للأموات، والسؤال الذي وجه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورد عن الصدقة للميت وكذلك الحج وكذلك الصوم، فالنصوص وردت في الأموات، ولا يمنع أن ينتفع الأحياء من ذلك، لكن ذكر ذلك لأنه محل الخلاف. ثم إن الخلاف في الأحياء أشدّ بين أهل العلم، فإن من العلماء من يرى أن الحي لا ينتفع بعمل غيره مطلقاً، وإن كان يجيز أن ينتفع الميت بذلك. والصحيح أن كل عمل صالح يفعله الإنسان يهديه إلى حي أو ميت فإنه يصل إليه، وليس في النصوص ما يدلّ على منع ذلك، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)). فهٰذا أيضاً ليس فيه الدليل على ما ذهب إليه بعض العلماء، بعض الناس من أن العمل لا يصل إلى الميت من المتقدمين وغيرهم، ومن أهل السنة وغيرهم؛ لأن الحديث فيه انقطاع عمل الإنسان نفسه، وليس فيه قطع انتفاعه بعمل غيره، بل في الحديث ما يشير إلى انتفاعه بعمل غيره في قوله: ((أو ولد صالح يدعو له)) مسلم: كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم (1631).. فدلّ ذلك على أنه ينتفع بعمل غيره، لكن هل يوجه الناس إلى إهداء الأعمال وهبة ثوابها إلى الأموات أو الأحياء؟ الجواب: لا، الأصل في العمل أن يكون للإنسان ما عدا الدعاء، فإن الدعاء ينتفع منه الطرفان: ينتفع منه الداعي، وينتفع منه المدعو له، ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في قوله: ((أو ولد صالح يدعو له)). أما العمل من الحج أو العمرة أو الصدقة أو غير ذلك فالأولى بها الإنسان، ولا يعني هٰذا أنه لا تجوز الهبة، بل يجوز لكن الجواز مسألة غير الأفضل والذي يوجه إليه الناس، فالذي يوجه إليه الناس أن يعملوا لأنفسهم، وأن يدعوا لغيرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو ولد صالح يدعو له)). ثم قال رحمه الله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ) جل وعلا. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وما من داعٍ يدعو الله جل وعلا إلا وهو موعود بالخير، قال الله جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} سورة : غافر (60). فأمر الله جل وعلا بدعائه ووعد بالإجابة، وهٰذا وجه قول المؤلف رحمه الله: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ). لكن تنبه إلى أنه لا يلزم من الاستجابة حصول ما طلبت وما دعوت، فالله جل وعلا عليم خبير وهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح العبد، فقد يدعو العبد بما يرى صلاحه فيه ويكون صلاحه في عدم حصول مطلوبه، فيكون من الخير والبر والإحسان والفضل من رب العالمين إلى هٰذا العبد أن لا يُحَقق مطلوبه، حتى وإن كان يظن أنه خير ويعتقد أنه صلاح له، فالله عليم خبير لا يقدم لعبده إلا الخير. ولذلك ما من داعٍ يدعو إلا ويرجع بالثواب والأجر من رب العالمين، هٰذا أولاً. أما تحصيل مطلوبه وتحقيق دعائه وطلبه فإن هٰذا ليس بلازم، فإن الله سبحانه وتعالى قد يجيبه إلى ما دعا ويعطيه ما سأل، وقد يمنعه ذلك، لكن إن منعه ذلك فإنه لا يخلو من أمرين: إما أن يدفع عنه من السوء نظير ما دعا. وإما أن يدخرها له في الآخرة. ولاشك أنه إن ادخرها له في الآخرة فهو أعظم إحساناً؛ لأن الإنسان في الآخرة أحوج ما يكون إلى الخير، وأحوج ما يكون إلىٰ ما ينفعه. ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بربه، وأن لا يظن بربه إلا الخير، أجيب أو لم يجب، أعطي أو لم يعط، فإن الله سبحانه وتعالى إذا عامله العبد بهٰذا كان الله جل وعلا إليه سريعاً في الخيرات، قريباً في تحقيق المطالب، وهٰذا من تمام التسليم لرب العالمين، أن يسلم العبد لله عزوجل الأمر، وأن يفوض إليه الاختيار جل وعلا في تحقيق الطلب أو عدم تحقيقه، ولا يمنع هٰذا من أن يلح العبد في دعائه وسؤاله وضراعته، وتكرار المسألة، فإن الله سبحانه وتعالى أكثر من العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر: ما من داعٍ يدعو الله عزوجل إلا كان له إحدى ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يعطيه ما سأل. الثانية: أن يدفع عنه من الشر نظير ما سأل. الثالثة: أن يدخرها له في الآخرة. قال الصحابة: إذن نكثر يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكثر)). أكثر من العبد، شأن الله يا إخواني يختلف، شأن الله أعظم، يتعرض لعباده في المسألة، فينزل جل وعلا -وهو الغني الكريم، وهو المتفضل المحسن على عباده في نزوله، الذي لا حاجة به إلىٰ أحد، هو القيوم الصمد الذي تُنزل به الحوائج: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} سورة : محمد (38). ،((ينزل- إلى السماء الدنيا كل ليلة يقول: هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)). وانظر إلى هٰذا التدرج: حيث يبدأ بالدعاء الذي يشمل كل سائل، كل منادٍ، كل متكلم مع الله جل وعلا، سواء كان بسؤال أو بغير سؤال. ((هل من داع فأجيبه؟)) ثم ما هو أخص ((هل من سائل فأعطيه؟))، ثم ما هو أخص في المسألة ((هل من مستغفر فأغفر له؟)) البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة في آخر الليل، حديث رقم (1145).. وهٰذا كله لبيان سعة الفضل وعظيم المن، وعظيم العناية من رب العالمين بعباده، الله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات، لكن ذلك وفق ما تقتضيه رحمته وحكمته، فقد يكون من الحكمة والرحمة أن يمنع الله جل وعلا العبد ما سأل لا بخلاً منه، فالله جل وعلا يداه سحاوان بالخير، ينفق الليل والنهار لا تغيض النفقة ما في يديه شيئاً، فإذا منعك فإنه يمنعك لا بخلاً فهو الغني الحميد، إنما يمنعك إصلاحاً وتربيةً، إذا عامل العبد ربه بهٰذا فإنه سينشرح صدره لما يقع من إجابة أو عدمها، ثم يعلم أن ربه سبحانه وتعالى المقدم المؤخر الذي لا يقدم له إلا الخير ولا يمنع عنه إلا الشر. قال رحمه الله: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ). وهٰذا كالجواب على من دعا فلم يعط، وقطع شبهة البخل التي اتهم اليهود ربَّ العالمين بها، وهو جل وعلا الغني الحميد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} سورة : فاطر (15).، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} سورة : محمد (38). . قال الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} سورة : المائدة (64). جل وعلا. فالمنع ليس لأنه لا يملك ما تسأل، إنما المنع لحكمة ورحمة، وليس فقط لحكمة، إنما لرحمة أيضاً بالعبد، فإن الله يرحم العبد بمنعه كما أنك ترحم الصغير -ولله المثل الأعلى- بمنعه من الرضاع وهو يبكي ويصيح يريد الرضاع ،لكن ترى أن مصلحته في منعه من الرضاع، فتمنعه لأنه إن شب على الرضاع لم تنفطم نفسه، بل سيبقى على هٰذا الذي لا يقيم بدنه، فإن الرضاع في السنتين الأوليين يقوم به البدن،لكن بعد ذلك إذا استقل بالرضاع واستمر عليه لا يمكن أن يقوم بدنه بمجرد الحليب، فكان من الرحمة أن تمنعه هٰذا، كذلك حال العبد مع ربه، بل الشأن أعظم، فالله جل وعلا أرحم بعبده من رحمة الوالد بولده. يقول رحمه الله: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ). والأدلة على ملك الله عزوجل كثيرة: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} سورة : الملك (01).، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} سورة : البقرة (107)، المائدة (40)، الأعراف (158)، التوبة (116)، الفرقان (2)، الزمر (44)، الزخرف (85)، الحديد (2، 5)، البروج (9). ، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة : آل عمران (26). ، والآيات في هـٰذا كثيرة {لَّهُ مَا فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} سورة : البقرة (255). . والآيات في ذكر ملك الله جل وعلا لكل شيء كثيرة. (وَلا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ). لا إشكال، لا يملكه شيء سبحانه وتعالى ، بل هو المالك لكل شيء. قال: (وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). هٰذا أيضاً فيه الرد على من قال: دعوت فلم يُستجَب لي، فيترك الدعاء ويستحسر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للمسلم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، حديث رقم (2735). يستجاب أي يحصل له جواب سؤاله: إما بتحقيق المطلوب، أو غير ذلك مما جاءت به النصوص من أوجه الإجابة، فإن من دفع عنه من الشر نظير ما دعا أجيب، ومن ادخر له أجر ما دعا أجيب، فالداعي لا يرجع من رب العالمين إلا بخير، فهو الحيي الكريم الذي يستحيي أن يرد عبده إذا رفع يديه صفراً أي خالياً من الخير، بل لابد أن يرجع بخير . فقوله: (وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). لا غنى للعبد مهما كان، حتى إذا لم يجب فإنه لا غنى به عن ربه، يلجأ إليه ويتوسل إليه ويتضرع بين يديه، ويسأله سبحانه وتعالى ، ولا أعظم ولا أيسر سبيلاً في الوصول إلى رب العالمين وإلى فضله وإحسانه من باب الافتقار إلى الله جل وعلا، فإن العبد إذا افتقر إلى الله جل وعلا، وأظهر افتقاره إلى ربه، وأيقن أنه ما من ذرة في بدنه إلا وهي مفتقرة إلى الله جل وعلا، كان ذلك من أسباب الخير له. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً في هٰذا أن أحد العبّاد أو العلماء، يقول: أقبلت على الله جل وعلا من أبواب الطاعات كلها، فوجدت على الأبواب الزحام. يعني كثرة من يقبل على الله من هٰذه الأبواب. فلم أسلم من المزاحمة، فولجت باب الافتقار، فوجدت قرب حصول المطلوب مع عدم المزاحمة. فإن كثيراً من الناس يغفلون عن هـٰذا الوصف الذاتي لهم، وهو افتقارهم إلى الله عزوجل . يقول الشيخ ابن القيم رحمه الله: وكما قال شيخ الإسلام: من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. السعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة في لزوم عتبة العبودية، نقل عن ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولزوم عتبة العبودية يحصل للعبد بأي شيء يا إخواني؟ يحصل بكمال الذل لله جل وعلا وغاية الحب له سبحانه وتعالى . (وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ). لا في ليل ولا في نهار، لا في يقظة ولا في منام، لا في صحة ولا في مرض واعتلال، لا في غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقراً ذاتيّاً لا يمكن أن ينفك منه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله عزوجل بما مكّنهم، والإنسان إذا بُلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله عزوجل حصل منه شر عظيم: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} متى؟ {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} سورة : العلق (6-7) يعني إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن ما دام يرى فقر نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية. يقول رحمه الله: (وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ)، والكفر هنا يشمل الكفر الأصغر والكفر الأكبر، لكن الكفر الأكبر يحصل بأن يظن الإنسان ويعتقد أنه لا حاجة به إلى ربه، لاشك أن هٰذا كفر، وهو أعظم الكفر؛ لأنه جحد للربوبية؛ لأن مقتضى الربوبية أن توقن أن كل خير يصل إليك إنما هو من الله جل وعلا. (وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ، وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ) يعني من أهل الهلاك. قال رحمه الله: (وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى). هٰذا فيه إثبات صفات الاختيار، الفعل للرب جل وعلا، وصفات الفعل ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، قال الله جل وعلا في وصف نفسه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} سورة : هود (107)، البروج (16). .والله يفعل ما يريد، وأما أفراد الفعل فالأدلة عليها كثيرة: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} سورة : آل عمران (129)، المائدة (18)، الفتح (14). (يحب من يشاء) يغضب جل وعلا، يعفو، فالأفعال التي أضافها الله لنفسه كثيرة في كتابه:والله يحب المتقين، يحب المحسنين، الآيات التي فيها إثبات صفات الفعل أكثر من أن تحصى،هٰذا الذي فيه التصريح بالفعل، أما ما دلّ على الفعل فهو كثير جدّاً، وكذلك في السنة. فالله جل وعلا موصوف بصفات الفعل، وضابط صفات الفعل: هي الصفات التي تتعلق بالمشيئة، متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل، من ذلك الغضب والرضا، الغضب صفة كمال لله عزوجل لا نقص فيها، بل هي من كماله سبحانه وتعالى، فإن من الكمال أن يغضب القادر على من يستحق الغضب، وقد دل عليها قول الله تعالىٰ: {وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} سورة : النساء (93). . في حق من قتل مؤمناً متعمداً، ومن أدلة إثبات الغضب قول الله تعالىٰ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} سورة : الزخرف (55). . وأما الرضا فالآيات فيه كثيرة، منها قول الله جل وعلا: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} سورة : التوبة (100). في حق السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان، وقال سبحانه وتعالى : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ} سورة : التوبة (72). ،والآيات في إثبات رضا الله جل وعلا عن عباده كثيرة : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سورة : الفتح (18).. (وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى). الغضب والرضا أنكرهما المؤولة المنحرفون عن طريق أهل السنة والجماعة بجميع أصنافهم من أهل الكلام: أنكرهما المعتزلة، وأنكرهما الأشاعرة، فأولوا الغضب والرضا إما بإرادة الثواب والعقاب، وإما بالثواب والعقاب نفسه، فمثبتة الصفات من الأشاعرة ونحوهم قالوا: الغضب والرضا هو إرادة الإثابة وإرادة العقوبة. وأما المعتزلة فأولوا الغضب والرضا بالثواب والعقاب نفسه، لماذا؟ لأنهم لا يثبتون صفة الإرادة للرب جل وعلا. قال رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَتَبَرَّأَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الحَقِّ يَذْكُرُهُم، ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ). يقول رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم). س/ يقول هـٰذا: باسم الله، شيخنا لو قال قائل معترضاً على قول هٰذا الذي وجد مزاحمة في باب الطاعات: إن الله لا يشغله شيء عن شيء، وكأن في العبارة نوع إشكال؟ ج/ لا ما فيه إشكال، المزاحمة لا باعتبار انشغال الله بهم، فالله جل وعلا شأنه أعظم من هـٰذا، لا يشغله شيء عن شيء سبحانه وتعالى، كل يوم هو في شأن، لكن الكلام في كثرة المقبلين على الله في عمل الطاعة، ثم إن هٰذا ضرب مثال لقلة المتوجهين إلى الله عزوجل من هٰذا الباب، قد لا يكون قد رأى باباً وزحاماً عليه، فالله جل وعلا شأنه أعظم من ذلك. يقول رحمه الله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم). نحب، أي أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمحبة هنا محبة قلبية، نحبهم محبة قلبية؛ لأنهم الذين نقلوا إلينا الخير، ولأنهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولأن الله اصطفاهم وخصهم بهٰذه الخاصية والميزة، حيث جعلهم أصحاب رسوله وجعلهم حملة الشرع، ونحبهم لما جرى منهم من الخير للأمة، فإنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لنشر هٰذا الدين، فما من خير وصلنا إلا من طريقهم رضي الله عنهم. وقول المؤلف رحمه الله: (أَصْحَابَ رسُولِ) أصحاب جمع صاحب، والصحبة تثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ولو ساعة من نهار. لكن اعلم أن المحبة المذكورة في قوله: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) محبة لوصف وهي الصحبة،الوصف هو الصحبة، فكل من تحقق فيه هٰذا الوصف أكثر ازداد نصيباً من المحبة؛ لأن كل الأعمال والأحكام، كل الأحكام والأدلة المعلقة على أوصاف تزداد وتستقر وتثبت بزيادة هٰذا الوصف، فمحبتنا لأبي بكر رضي الله عنه ليست كمحبتنا لبلال، بل محبتنا لأبي بكر أعظم؛ لتحقق الصحبة فيه أكثر من غيره، فمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم شهراً محبتنا له أعظم ممن صحبه يوماً، ومن صحبه يوماً محبتنا له ممن صحبه ساعةً، فتزداد المحبة بازدياد الوصف وهو الصحبة. ثم الصحبة تعم كل من صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قليلاً أو كثيراً، فليست خاصة بطول المدة، بل هي عامة لكل من صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (نُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه ثناءً بالغاً في مواضع عديدة، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} سورة : الفتح (18). .قال الله جل وعلا في ثنائه عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} سورة : الفتح (29). ثم ذكر من وصفهم ما يوجب محبتهم. كذلك قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} سورة : التوبة (100). . فأثبت الله جل وعلا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الرضا مطلقاً، وأما تابعوهم فإن الرضا عنهم مقيد بالإحسان، وتأمل الآية، قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} ما قيد بإحسان، كفاهم فضلاً سابقتهم، {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} . فجعل الرضا للتابع مقيداً بالإحسان، وأما السابق من المهاجرين والأنصار فإنه قد أثبت لهم الرضا، ويكفي في فضلهم أن الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، حديث رقم (3007)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وقصة حاطب بن أبي بلتعة، حديث رقم (2494).. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيعة الرضوان: ((لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة)) سنن الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل من بايع تحت الشجرة، حديث رقم (3860). قال الشيخ الألباني: صحيح. ففضلهم رضي الله عنهم ظاهر، ولذلك استحقوا ما استحقوه من المحبة. وقول المؤلف رحمه الله: (نُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) يردّ على جميع المنحرفين في صحابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -المنحرفين بزيادة أو نقص، بغلو أو جفاء-، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقع فيهم إفراط وتفريط، غلو وجفاء، ولذلك قال المؤلف رحمه الله في ضبط وتحرير عقد أهل السنة والجماعة، قال: (وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم). رد على من؟ على الرافضة الذين غلوا في محبة علي حتى ألّهوه أو ألهه بعضهم. وقوله رحمه الله: (وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم) أيضاً رد على الرافضة الذين تبرؤوا من أبي بكر وعمر، ومن عقائدهم أنه لا ولاء إلا ببراء، لا ولاء لعلي وأهل البيت إلا ببراء ممن؟ من أبي بكر وعمر، بل أهل السنة والجماعة يحبون الصحابة جميعاً بلا استثناء، مع التفاوت في المحبة على ما فصلنا وذكرنا في السابق، لكن المحبة ثابتة للجميع، بخلاف الرافضة الذين سبوا أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، وبخلاف النواصب الذين ناصبوا عليّاً العداء، فإن النواصب من الخوارج وممن ناصر بني أمية سبّوا عليّاً وقدحوا فيه رضي الله عنه . يقول: (وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم). ولا إشكال في هٰذا، فإن من حقهم رضي الله عنهم بغض من أبغضهم وكراهة من كرههم (وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم) كالرافضة وأشباههم، (ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ). وهٰذا فيه قاعدة فيما يتعلق بالصحابة رضي الله عنهم أنا لا نذكرهم إلا بخير، ومن جملة هٰذا أن لا نتكلم فيما شجر بينهم من الخلاف، فإن ذكر ما شجر بينهم من الخلاف يفضي إلى الوقيعة في بعضهم، وإلى إيغار الصدور عليهم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وإلى نزول مقامهم ومكانتهم، فقوله: (ولا نَذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ) يشمل حفظ اللسان من الكلام فيهم، والكلام فيما وقع منهم من أخطاء، والكلام فيما وقع فيهم من شجار وخلاف، فإنهم رضي الله عنهم إما معذورون فيما ثبت، وإما مجتهدون متأولون. وأما غالب ما يُنقل فهو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: فغالب ما يضاف إليهم كذب، وفيه ما زِيد فيه ونُقِص وغُيِّر عن وجهه. يعني صُرف عن الوجه الذي جرى عليه. فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة ألسنتهم وقلوبهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تمام السلامة أن لا نذكرهم إلا بخير، وقد وقع الكلام في الصحابة منذ العهد الأول، فإن عائشة -رضي الله عنها- نقل إليها أن أقواماً يتكلمون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أبي بكر، فقالت: لا عجب، فإنه قد انقطع عملهم بالموت وأحب الله وصل عملهم بعد موتهم بمن يقع فيهم. فإن الإنسان إذا وقع فيه بغير حق كان ذلك حطّاً لسيئاته وتخفيفاً ورفعاً لدرجاته، ولابد من هٰذا. يقول رحمه الله: (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ). (حُبُّهُم دِينٌ) أي عبادة يتعبد الإنسان بها لله عزوجل (وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) أي من خلال الإيمان ومن أعماله، وهو من الإحسان الذي يجازى به أهل الإحسان، فإن إحسان الصحابة إلينا من أعظم الإحسان، حيث إنهم نقلوا لنا الأخبار، وحفظوا لنا سنة المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونصروا دين رب العالمين. (وَبُغْضُهُم) أي بغض الصحابة في الجملة (كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ). ما فيه إشكال أن بغضهم في الجملة كفر؛ لأنه قدح في الشريعة وتكذيب للقرآن (ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ) لأنه إنما وقع هٰذا من أهل النفاق، فإن أول ما جرى هٰذا من المنافقين المندسين في صفوف أهل الإسلام الداعين إلى البدعة والفرقة والشر، كعبد الله بن سبأ (وطُغْيَانٌ) أي تجاوز للحق. ثم قال رحمه الله: (وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ). بعد أن فرغ مما يجب لمجموعهم انتقل إلى ذكر ما يتعلق ببعض أفرادهم يقول: (وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه تَفْضِيلاً لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ، ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ، ثُمَّ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه ، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه ، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ في نسخة: الْمَهْدِيُّونَ.). يقول رحمه الله: (وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ). أبو بكر رضي الله عنه هو عبد الله بن أبي قحافة، وهو خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثبتت له الخلافة بإجماع المسلمين، وقد اختلف العلماء في خلافة أبي بكر رضي الله عنه : هل كانت بالنص الجلي، أو بالنص الخفي، أو بالاختيار؟ ولكن من تأمل وجد من النصوص ما يدل على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها ليست نصوصاً صريحة، بل هي نصوص بجموعها تدل على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد أجمعت الأمة على فضله وتقدمه، وأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبو بكر ورد له من الفضائل والخصائص ما لم يشركه فيه غيره، بخلاف الفضائل التي ثبتت لغيره، فإنها فضائل يشارك المفضَّل فيها غيره، لا سيما ما يذكره الرافضة في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن الفضائل الثابتة لعلي رضي الله عنه ليست من الأمور التي يختص بها دون غيره، بخلاف أكثر فضائل أبي بكر، وهٰذه مسألة مفيدة: أن الفضائل التي ثبتت لأبي بكر في غالبها خاصة به، لا يشركه فيها غيره، وكذلك عمر رضي الله عنه ، لكن نصيب أبي بكر رضي الله عنه من ذلك أعظم وأكبر وأكثر. الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، يقول المؤلف: (أَوَّلاً لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ، تَفْضِيلاً لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ). لا إشكال في هٰذا، فهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ). وله من الفضائل والخصائص ما لم يشركه فيه غيره،لكن فضائل أبي بكر أعظم وأجل. (ثُمَّ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه ، ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه ). وترتيب هؤلاء في الفضل ترتيبهم في الخلافة، هكذا استقر عقد أهل السنة والجماعة. ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر، وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وقد اشتهر بين الصحابة فضل عثمان- كما ذكر ذلك عبد الله بن عمر في المفاضلة- ولم يذكروا بعد عثمان أحداً. وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري، سأله ابنه محمد بن الحنفية عن أفضل الأمة بعد نبيها، فقال: أَوَ لاَ تعلم؟ استنكاراً لهٰذا السؤال. قال: لا. قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. يقول محمد بن الحنفية: قلت: ثم أنت؟ خشية أن يقول: عثمان. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لو كنت متخذا خليلا))، حديث رقم 3671).. ففضل أبي بكر رضي الله عنه وفضل عمر وتقديمهما على سائر الأمة مما حصل عليه الإجماع، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة فيه. الذي وقع فيه الخلاف هو المفاضلة بين عثمان وعلي، لكن الخلاف في المفاضلة لا في الخلافة، بل الخلافة لعثمان بعد عمر رضي الله عنه . وقد نقل عن الإمام أحمد وأيوب السختياني وغيرهما أن من قدّم عليّاً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموا من؟ قدموا عثمان رضي الله عنه في الخلافة، وتقديم عثمان في الخلافة دليل على تقديمه في الفضل؛ لأنهم أجمعوا على الأفضل، والأفضل هو عثمان رضي الله عنه ، لكن مسألة المفاضلة يحتمل فيها الخلاف وقد ورد فيها الخلاف. فالعلماء منهم من فضل عثمان، وهٰذا الذي عليه أهل السنة والجماعة واستقر عليه الأمر. ومنهم من توقف في التفضيل بينهما. ومنهم من قدم عليّاً رضي الله عنه . ومنهم من فضل أبا بكر وعمر وتوقف بعد ذلك. ومسألة التفضيل لا تضليل فيها ولا تبديع على الصحيح من أقوال أهل العلم. أما مسألة الخلافة فإن من شك أو طعن في خلافة هؤلاء أو في ترتيب هٰذه الخلافة فهو أضل من حمار أهله كما قال الإمام أحمد رحمه الله ونقل ذلك شيخ الإسلام رحمه الله. قال: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ). أي هم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) سنن الترمذي: كتاب العلم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676). وقال: حسن صحيح. سنن أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607) سنن ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حديث رقم (42، 43) قال الشيخ الألباني: صحيح. مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين): حديث العرباض بن سارية، حديث رقم (17079).. قال: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ). ولو أنه قال: المهديون. لكان أوفق لما وصفهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ووصف الرشد والهداية هل هو وصف واحد أو وصفان؟ وصفان: الرشد ضد الغي، والهداية ضد الضلال. والرشد يكون في العمل، والهدى يكون في العلم. كما قال الله جل وعلا: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} سورة : النجم (2). فأثبت له الهداية وأثبت له الرشد؛ لأن نفي الضلال إثبات لأي شيء؟ للهدى، ونفي الغي إثبات لأي شيء؟ للرشد؛ لأن الذي يقابل الرشد الغي، والذي يقابل الهدى الضلال. ثم قال: (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ) هٰذه إن شاء الله تعالى نتكلم عليها غداً.