بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ أَمِينُ هٰذه الأُمَّةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ). التعليق: الحمد لله ربّ العالمين،وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف رحمه الله في صلة ما ذكره من عقد أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ). أي إن من بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وذكر المؤلف رحمه الله واقتصر على العشرة لأنهم أشرف وأعلى وأعظم من بشر بالجنة من هٰذه الأمة، وإلا فالمبشرون بالجنة من هٰذه الأمة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرون، والبشارة بالجنة جاءت على نوعين: بشارة جنس. وبشارة عين. بشارة الجنس هٰذه كثيرة، وهي التي بشر الله بها أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل التقوى. وأما البشارة الخاصة بمعينين فهي المقصودة بهٰذا المقطع. فنشهد أن الصحابة رضي الله عنهم منهم من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وبشره بها، وأشهر هؤلاء وأعظمهم هم العشرة الذين بشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة حيث قال: ((أبو بكر في الجنة، عمر في الجنة، عثمان في الجنة، علي في الجنة، طلحة في الجنة)) سنن أبي داوود: كتاب السنة، باب في الخلفاء، حديث رقم (4649، 4650). إلى بقية العشرة. وهٰذا من أعظم ما خصّ الله به هؤلاء أن عجّل لهم البشرى بالجنة في هٰذه الدنيا، وهٰذا يوجب محبتهم وتوليهم، واعتقاد أنّ الله جل وعلا رضي عنهم، فمن قال: إن أحد هؤلاء في النار فهو كافر؛ لأنه مكذب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. يقول رحمه الله: (وَقَوْلُهُ الْحَقُّ). أي الذي يجب قبوله واعتقاده والتسليم له، فإن الحق ينقاد له المؤمن ولا يرده ولا يعارضه، يقول في بيان هؤلاء العشرة:(وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ). وهؤلاء هم الخلفاء الرّاشدون، الأئمة المهديّون، وجاء في فضائلهم ومناقبهم الشيء الكثير، (وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ). هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، وشهد أيضاً صلى الله عليه وسلم لغيرهم: كثابت بن قيس بن شماس، وكبلال وغيره. وممن شهد لهم بالجنة أزواجه صلى الله عليه وسلم، فإن أزواجه في الدنيا أزواجه في الآخرة، وهو في الجنة فهن في الجنة رضي الله عنهن. قال رحمه الله: (وَهُوَ أَمِينُ هٰذه الأُمَّةِ). يشير إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وخصه بذكر هٰذه الخاصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأبعثن عليكم أميناً حق أمين)). يريد أبا عبيدة البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، حديث رقم (4380، 4381). ، وقال: ((أبو عبيدة أمين هٰذه الأمة)) البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، حديث رقم (4382).. ولعل المؤلف ذكر هٰذه الخاصية له إشارة إلى أن هؤلاء قد ورد في فضائلهم ما اختص به كل واحد، أي قد ورد الفضل خاصّاً في كل واحد من هؤلاء، لعله أراد ذلك، ولعله ختمهم بذكر خاصية آخرهم رضي الله عنهم أجمعين. قال رحمه الله: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) جميعهم، أي في كل من ثبتت له الصحبة ولو كانت لحظة (وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ) أي وأحسن القول في أزواجه، ووصفهن بالطاهرات؛ لأن الله جل وعلا طهرهن، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} سورة : الأحزاب (33).. ولا خلاف بين أهل العلم أن المراد بهٰذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهن المقصودات بقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } . ولا يمنع هٰذا أن يدخل غيرهن، فإن علي بن أبي طالب لا إشكال ولاشك أنه من أهل البيت، كذلك زوجته فاطمة، كذلك الحسن والحسين، فإنهم من أهل البيت بلا ريب ولا شك، ولكن هٰذا لا ينفي أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ممن وصف بهٰذا الوصف، بل وصفهن بهٰذا الوصف جاء في القرآن، وأما وصف علي رضي الله عنه وفاطمة وغيرهم من أهل البيت بهٰذا الوصف فجاء في السنة. يقول: (وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ). وهٰذا ليس ثابتاً لكل ذرية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما المقصود من عرف منهم بالتقوى والإيمان، فإنه هو الذي يحسن فيه القول، وأما من استوجب القول السيئ فإنه يثبت له، لكن دون أن ينال من نسبه ولا من اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم، (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ). أي سلم من النفاق، وذلك أن من علامات النفاق ودلائله بغض من أحبه الله ورسوله، وبغض الصحابة رضي الله عنهم ، فهم أعظم هٰذه الأمة وأجلها قدراً وأرفعها مكانة، فمن أبغضهم فإنه منافق، وبالنظر إلى كل من وقع في قلبه بغض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلم أن قلبه غير سالم، بل قلبه مشوب بالنفاق. يقول رحمه الله بعد ذلك: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ -أَهْلُ الْخَيْرِ وَالأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ-، لا يُذْكَرُونَ إِلاَّ بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ). هٰذا من عقد أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم على ورثة الأنبياء، وهٰذا من تمام سلامة قلوب أهل السنة والجماعة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر سلامة قلوب أهل السنة والجماعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر محبتهم وما لهم من الفضل، ثم ثنّى ذلك بمن لهم الفضل بعدهم وهم علماء السلف (مِنَ السَّابِقِينَ) أي المتقدمين (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) أي ومن سلك سبيلهم من التابعين. هؤلاء حقهم أن لا يذكروا إلا بالجميل، لا يذكرون بسوء، بل لا يذكرون إلا بالجميل، فلا تذكر سقطاتهم ولا زلاتهم، بل يذكر خيرهم وإحسانهم وفضلهم، وكل من وقع في هؤلاء بسوء -وذلك بالتنقيب عن أخطائهم، والتفتيش عن زلاتهم، والإشاعة لما خالفوا فيه الدليل- فإنه على غير السبيل، كما قال رحمه الله: (فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)؛ لأن من كان قاصداًُ الحق عاملاً به داعياً إليه مجتهداً في إصابته، فإنه لا وجه للوقيعة فيه حتى لو أخطأ، فإن الخطأ لا يسلم منه أحد: كل بن آدم خطاء، فالخطأ في الاجتهاد واقع، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فوقوع الخطأ في الاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس مسوغاً لإيغار الصدور ولا لإطلاق الألسنة في هؤلاء، بل الواجب الشفقة والرحمة، وهٰذا من سمات أهل السنة والجماعة، فإنهم يعظمون الحق ويرحمون الخلق، يعظمون الحق بالدعوة إليه وبيانه وتوضيحه والذبّ عنه ورد الشبه فيه، لكنهم مع هٰذا ليسوا ممن يظلم الخلق، بل هم يرحمون الخلق: فيتطلبون للمخطئ العفو، ويبحثون عن الستر، ويطلبون العذر، ولا يطلقون ألسنتهم ولا أقلامهم في أهل الخير الذين عُرفوا بالخير ولو كان منهم خطأ، لكن لا يعني هٰذا أن لا ينبه على خطأ المخطئ، بل خطأ المخطئ من إنكار المنكر الذي يجب، لا سيما إذا كان الخطأ مما يحصل به إضلال للخلق، أما الأخطاء الخاصة- بأن يخالف أو يقع في معصية صغيرة أو كبيرة- فإن هٰذا ينصح فيما بين الإنسان والمخطئ، أما ما يتعلق بالخطأ العام :كالخطأ في العلم، في التأليف، في القول، فإنه ينبغي أن يناصح، فإن رجع وإلا بُيِّن خطؤه بأسلوب ليس فيه شدة ولا غلظة، بل بأسلوب مليء بالشفقة والرحمة، وهٰذا من دواعي القبول. (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) ثم ذكر أصنافهم: (أَهْلُ الْخَيْرِ وَالأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ). وهم المشتغلون بعلم الحديث والمشتغلون بعلم الفقه (لا يُذْكَرُونَ إِلاَّ بِالْجَمِيلِ). أي بالجميل الحسن الذي يجمل به من ذُكر (وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ). ثم قال رحمه الله: (وَلا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلام، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْلِيَاءِ). المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع يرد على غلاة الصوفية الذين رفعوا مرتبة الولاية على النبوة، فيقول رحمه الله: (وَلا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ). والأولياء جمع ولي، والولي هو من تولاه الله سبحانه وتعالى ووفقه إلى الإيمان والتقوى، قال الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } سورة : يونس (62-63). .فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فكل من حقق الإيمان والتقوى نال شرف وفضل الولاية. (لا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ). مهما بلغ في الولاية والتقوى؛ لأن الولاية درجة دون النبوة، فالنبوة درجة عالية يقصر دونها كل ولي، يقول: (وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْلِيَاءِ). لا إشكال أن النبي أفضل من جميع الأولياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى رفع هؤلاء الأنبياء وخصّهم من الخصائص والفضائل ما لم يحصل للأولياء.وأول من أحدث بدعة رُقِيِّ الولي على النبي ابن عربي وأشباهه الذين قالوا: مقام النبوة في منزل **** فويق الرسول ودون الولي فجعلوا الولاية فوق هٰذه المنازل كلها، وهم في هٰذا كاذبون، وإنما أرادوا هٰذا لأنهم قُطع عنهم النظر في النبوة، فإن الله جل وعلا قد ذكر في كتابه ختم النبوة فقال سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} سورة : الأحزاب (40). فلما انقطع رجاؤهم ونظرهم في حصول النبوة لهم طلبوا سبيلاً آخر يحصل لهم به الارتفاع على الخلق، ويحصل لهم به ما يزعمونه من سقوط التكاليف، فاخترعوا هٰذا المقام، وجعلوه فوق النبوة؛ ليحصّلوا به مآربهم من التسلط على الخلق وإفساد الشرائع والأديان، هٰذا هو سبب هٰذا القول. ثم قال رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ). نعم، هٰذا أيضاً مما يتعلق بالأولياء (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ) أي من كرامات الأولياء. وكرامات الأولياء، الكرامات جمع كرامة، والكرامة هي كل خارق للعادة يجري على يدي متقٍ مؤمن، هٰذا تعريف الكرامة: كل خارق للعادة، يعني كل ما يخرق العادة ويخرج عنها مما يجريه الله عزوجل على يد من؟ على يد تقي مؤمن، وقيّدنا هٰذا بهٰذا حتى نخرج ما يكون من خوارق العادات التي تجري على أيدي السحرة والكهان والمشعوذين والمبطلين، فإنها ليست كرامات، إنما هي خوارق للعادات، لكنها لا يمكن أن توصف أو تسمى بالكرامات، وكذلك نُخرج ما يجريه الله عزوجل على أيدي الرسل، فإنها لا تسمى كرامات، إنما هي آيات، وهي أعلى مما يجريه الله عزوجل على أيدي الأولياء من الكرامات. (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ) أي بما صح من إثبات ذلك، ولا يلزم الإيمان بكل كرامة ثبتت لكل شخص؛ لأن هٰذا فرع عن ثبوت هٰذه الكرامة، وقد لا تثبت عنه، لكن نؤمن في الجملة بأن لهم كرامات يكرمهم الله سبحانه وتعالى بها، وهٰذه الكرامات تنقسم إلى أنواع: منها ما هو من جنس العلم، يعني كرامات في العلوم، وهو ما يسمى بالمكاشفات، وذلك بأن يرى ما لا يراه غيره، أو يسمع ما لا يسمعه غيره، أو يفتح له في العلم ما لا يفتح لغيره، أو يوفق إلى فراسة صادقة لا يوفق إليها غيره. القسم الثاني من الكرامات ما هو من جنس القدرة، أي ما يكون في القدرة، بأن يمكن مما يتمكن منه غيره، وهٰذا كثير جدّاً، والغالب في الكرامات هو من هٰذا النوع، وقد جرى للصحابة رضي الله عنهم والتابعين من هٰذا شيء كثير، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً من هٰذا في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. من ذلك أيضاً القسم الثالث من أنواع الكرامات، ما هو من جنس الاستغناء، الغَناء،يعني يستغني عما يحتاج الإنسان عادة في المأكل والمشرب وما أشبه ذلك، وهٰذا يندرج في الحقيقة في النوع الثاني. على كل حال الكرامات هي كل خارق للعادة يجريه الله عزوجل على يد الولي. ومما يحصل به الفرق بين الكرامات وشعوذة المشعوذين وإبطال السحرة والكهنة والدجالين أنهما يفترقان في السبب والغاية، يعني فرق بين ما يجريه الله على أيدي أوليائه الصالحين وبين ما يكون على أيدي الفسقة من السحرة والدجالين والكهان والمشعوذين، الفرق بينهما السبب والغاية. فالسبب في الكرامة طاعة الله عزوجل وطاعة رسوله. السبب فيما يجري على أيدي الكهان والسحرة والمشعوذين تكذيب الله ورسوله، معصية الله ورسوله، فبقدر ما يكون معهم من المعصية لله ورسوله بقدر ما يكون معهم من الخارق للعادة. أيضاً في الغاية والمقصد. المقصود من الكرامات إقامة الحجة أو دفع الحاجة، فهي مقصودها تحقيق العبودية لله عزوجل ، والطاعة، والنصر للحق، ومقصودها إظهار دين الله، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما ما يجري على أيدي الكهان والمشعوذين والسحرة فمقصوده وغرضه الباطل من الفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، وكسب الأموال. هٰذا أبرز ما يفرّق به بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والمشعوذين. أيضاً مما يفرق به بين الصنفين: أن كرامات الأولياء تزداد بذكر الله عزوجل ، وتقوى بذكر الله جل وعلا. أما ما يجري من الخوارق على أيدي السحرة والمشعوذين فتبطل عند ذكر الله جل وعلا، فإذا ذُكر الله عند هؤلاء المشعوذين بطل ما عندهم من الخارق للعادة. رابع الفروق أنّ الكرامات لا يمكن أن تعارَض، ولا أن يؤتى بأقوى منها، بخلاف ما يكون على أيدي السحرة والمشعوذين، فمعارضته ممكنة بمثلها أو بما هو أقوى منها. هٰذه أربعة فروق بين ما يكون من كرامات الأولياء، وبين ما يجري من شعوذة المشعوذين. (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ). أي رواياتهم في العلم أو رواياتهم في الكرامات. نعم. يقول رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال، ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا). نعم،أشار المؤلف رحمه الله في هٰذا المقطع إلى أشراط الساعة، قال: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ). أشراط الساعة علاماتها، وقد ذكر الله جل وعلا ذلك في قوله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} سورة : محمد (18). أي علاماتها. والساعة المراد بها هنا القيامة الكبرى، وليست الساعة الخاصة وهي موت كل إنسان، فإن الله جل وعلا قد جعل للساعة الكبرى التي يقوم فيها الناس لرب العالمين، وهي إيذان بانتهاء الدنيا، لكل أحد علامات، وهٰذه العلامات أبرزها بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من علامات الساعة، قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} سورة : القمر (1). وانشقاق القمر جرى على وقت النبي صلى الله عليه وسلم آية له، فإن مشركي مكة طلبوا منه آية فشق الله له القمر فرقتين، في منى شهدها الناس، لكنهم كذبوا وقالوا: سحر مستمر، سحر ذاهب باطل، وقالوا، قال بعضهم لبعض: سلوا السُّفار يعني أهل الأسفار، إن كانوا قد رأوا ما رأيتم من انشقاق القمر فإنه حق، وإن كانوا لم يروا ذلك فإنه ليس بحق، وإنما هو سحر، سحركم. فسألوا السفار من كل وجه، كلهم أثبت رؤية الانشقاق، ومما يدل على أن الانشقاق وقع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة العيد بـ(ق) و(اقتربت الساعة)، والناس يسمعون هٰذا ويسمعون قوله تعالى: (وانشق القمر) ولم يقم واحد منهم ينكر ويكذب انشقاق القمر. فالمهم نرجع: من علامات الساعة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. والعلامات تنقسم إلى قسمين: علامات قريبة وكبيرة وعظيمة. وعلامات صغرى دون ذلك. العلامات الصغرى كثيرة جدّاً، وأما العلامات الكبرى فهي التي إذا ظهرت آذن ذلك باختلال العالم، وأول هٰذه الآيات الكبرى العظيمة خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، فإنها أول الآيات العظمى، خروج الدجال، خروج يأجوج ومأجوج، نزول عيسى ابن مريم من السماء، هٰذا ليس من الآيات الكبرى؛ لأنها من جنس ما يدركه البشر: الدجال من بني آدم من البشر، ويأجوج ومأجوج من البشر، عيسى ابن مريم من البشر، هي آيات كبرى لكنها ليست كالآيات التي تؤذن بخروج العالم عن المألوف، ولذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انقطعت التوبة، انتهى الأمر، وكذلك الدابة تخرج وتميّز المسلم عن الكافر، فالأمر منتهٍ. ولذلك جاء في صحيح مسلم: ((إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، أيهما خرجت أولاً فالأخرى في أثرها)) مسلم: كتاب الفتن واشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض.. حديث رقم (2941). والمراد بهٰذا الحديث أول الآيات التي تخرج عن المألوف والمعتاد، وليس أنها أول ما يجري، لا، المقصود أول الآيات خروجاً عن المألوف والمعتاد هٰذا، ثم بعد ذلك تتتابع الآيات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها. يقول المؤلف رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال). وهو شر غائب ينتظر كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه أشد الفتن على بني آدم، ولذلك ما من نبي إلا أنذره قومه. والدجال رجل يبتلي الله سبحانه وتعالى به الناس، يدعي أول الأمر الصلاح، ثم النبوة، ثم الإلهية والربوبية، ويكذبه الله جل وعلا، وآيات كذبه منقولة معه، فإنه أعور والله جل وعلا ليس بأعور، ولو كان رب العالمين لدفع عن نفسه النقص، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه النقص، فهو مربوب مخلوق نسأل الله أن يكفينا شر فتنته، لكن يعطيه الله من القدرة ما يحصل به الفتنة، ولكن هٰذا التمكين ليس دائماً، بل هو زائل مضمحل، فإنه يظهر كذبه لكل مؤمن. يقول: (ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ). أي إنزال عيسى ابن مريم من السماء، كما جاء ذلك في قوله تعالىٰ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} سورة : الزخرف (61).. {لَعِلْمٌ} أي عَلَم من أعلام الساعة، وذلك نزوله في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنزول عيسى ابن مريم، وأنه ينزل ويحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم: يكسر الصليب، ويقتل الخنزير. يكسر الصليب إشارة إلى إبطال ما اعتقدته النصارى واليهود في أنه قد قتل، ويقتل الخنزير إشارة إلى إبطال ما استباحه النصارى ونسبوه إليه، فإن الخنزير لم يبحه عيسى ابن مريم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وهٰذا الفعل منه إيذان بأنه قد انتهى كل دين غير دين الإسلام، ولذلك لا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويضع الجزية، أي لا يقبل من أحد الجزية. يقول: (وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا). خروج الشمس من مغربها جاء في قوله تعالىٰ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } سورة : الأنعام (158). . والمشار إليه في هٰذه الآية خروج الشمس من مغربها. وأما الدابة ففي قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} سورة : النمل (82). .وقد تواترت في ذلك الآثار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وينبغي لأهل الإيمان أن يتحروا في مسائل أشراط الساعة، وأن لا يتعجلوا في إثبات ما جاءت به الأحاديث، أو في تنزيل ما جاءت به الأحاديث على الواقع، فإن هٰذه من الفتن التي طارت في الناس وخاض فيها من لا علم له، فتجده يحدد ما صحت به الأحاديث من الأخبار على أعيان ووقائع وأعيان ومناطق، وهٰذا ليس بصحيح؛ لأن هٰذا يحتاج إلى علم وبصيرة وتأمل ونظر، وهٰذا في الغالب يفقده من يشتغلون بهٰذه الأمور. نعم، يقول رحمه الله:(وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً، وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ). يقول رحمه الله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً)؛ لأن تصديق الكهان والعرافين مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)) مسند أحمد، عن أبي هريرة حديث رقم (9536)، وقال الشيخ الألباني في الإرواء (7/69): رواه الحارث بن أبي أساة في مسنده ورواه أبو بكر بن خلاد في الفوائد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كم قالا.. وفي الرواية الثانية: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) مسلم: كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2230)، وليس فيه (كاهنا). فدلّ ذلك على تحريم تصديق هؤلاء. تصديقهم في الإخبار بالمستقبل كفر بالله العظيم، تصديقهم في الإخبار بالغيب النسبي مهدد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقبل له صلاة أربعين ليلة. فتصديقهم على درجات: منه ما يكون كفراً، وذلك تصديقهم بكل ما يكون من الغيب المستقبل، كأن يقول الكاهن: سيجري لك غداً كذا، ستتزوج فلانة ولا توفق معها، سيأتيك ولد، من صدقه في هٰذا فهو كافر بالله العظيم، قال الله جل وعلا: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} سورة : النمل (65).. فمن صدق الكاهن في الخبر المستقبل فهو كافر،لماذا؟ لأنه مكذب للقرآن الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا. نعم، وأما من صدقه في الخبر النسبي- يعني في الغيب النسبي الذي يخفى على أحد ويعلمه أحد:كالإخبار عن مكان الضالة، وكالإخبار عن مكان المسروق وما أشبه ذلك- فإن هٰذا لا يكفر، لكنه على خطر عظيم، ويكفي في التحذير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقبل له صلاة أربعين ليلة)). ثم من صدقه في هٰذا يوشك أن يصدقه في الخبر المستقبل، فيجب الحذر من هٰذا. يقول رحمه الله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً). الفرق بين الكاهن والعراف: الكاهن هو من يخبر عن الغيب في المستقبل. والعراف من يخبر عن المغيبات في أمور يستدل بها. وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الكاهن والعراف اسمان لمسمى واحد، وهو: كل من يخبر بالغيب، لكن الفرق بين الكاهن والعراف هو الطريق التي يتوصل بها إلى معرفة الغيب. نعم. ثم قال: (وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ). لا إشكال أنه لا يجوز تصديق هٰذا، والجامع بين هٰذا والذي قبله في قوله: (وَلاَ نُصَدِّقُ كَاهِناً وَلاَ عَرَّافاً، وَلاَ مَنْ يَدَّعِي شَيْئاً يُخَالِفُ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الأُمَّةِ)؛ لأن الجميع مبطل، فالكاهن والعراف مبطل، ومن ادعى شيئاً يخالف ما جاء في الكتاب والسنة فهو مبطل أيضاً، ولا يجوز تصديقه ولا قبول خبره، ولكن ما الذي لا يصدق؟ ما خالف الكتاب، ما خالف السنة، ما خالف إجماع الأمة. ثم قال رحمه الله: (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً). هٰذا عقد أهل السنة والجماعة: أنهم يرون الاجتماع على الحق، الاجتماع مع أهل الحق، الاجتماع على من ولي أمر المسلمين، فهم ليسوا أهل فرقة وخلاف بل هم أهل ألفة واجتماع، قال الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} سورة : آل عمران (103). . فالآيات التي أمر الله جل وعلا فيها بالائتلاف والاتفاق والاجتماع كثيرة، والتي ذم فيها أهل الفرقة والخلاف كثيرة جدّاً، بل جعل من الشرع الذي أوصى به هٰذه الأمة: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سورة : الشورى (13). .وهو ليس خاصّاً بهٰذه الأمة بل عام لجميع الأمم: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} سورة : الشورى (13). فالاجتماع على الدين والحق والهدى مما توافرت فيه النصوص، وقد نهى الله جل وعلا عن الفرقة في قوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة : آل عمران (105). . والآيات والأحاديث في هٰذا كثيرة، والمراد بالاجتماع على الحق ومع أهل الحق، وأما الاختلاف فالاختلاف هو الخروج عن الحق وعن أهل الحق. يقول رحمه الله: (نَرَى الجَمَاعَةَ) أي الاجتماع والقبول بالإجماع والاجتماع على ولاة الأمر من المسلمين (حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ) وهي صادقة على مخالفة الكتاب والسنة وعلى مخالفة أهل الحق وعلى مخالفة ولاة الأمور من المسلمين (زَيْغاً وَعَذَاباً). أما الزيغ فلأنه مخالف للسنة، مخالف لما أمر الله به ورسوله، وأما قوله: (عَذَاباً) فهٰذا فيه بيان ما يؤول إليه الافتراق أنه عذاب، وإن كان في نظر صاحبه أنه إصلاح، لكنه في الحقيقة عذاب. نعم. (وَدِينُ الله في الأرضِ وَالسَّماءِ وَاحِدٌ، وهُو دينُ الإسْلاَمِ، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} سورة : آل عمران (19).، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} سورة : المائدة (3). . وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإيَاسِ). يقول رحمه الله في ختم هٰذه الرسالة المباركة: (وَدِينُ الله في الأرضِ وَالسَّماءِ وَاحِدٌ). ما فيه إشكال أن دين الله في الأرض والسماء واحد (وهُو دينُ الإسْلاَمِ، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ). والإسلام المقصود به الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، هٰذا هو الدين الذي جاءت به جميع الرسل: هٰذا دين آدم، دين نوح، دين موسىٰ، دين إبراهيم، دين عيسىٰ، دين جميع الرسل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} دين أشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هٰذا الدين واحد لا خلاف فيه ولا افتراق: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} سورة : آل عمران (85). . قال رحمه الله: (قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ). يعني الدين المقبول الذي يحصل به للعبد النجاة والفوز، وحصول الرضا والجنة الإسلام، قال: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} . فقد رضي الله جل وعلا لهٰذه الأمة ما رضيه للأمم السابقة، مع مزيد تخصيص وتفضيل لهٰذه الأمة بتكميل الشرائع: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} . ثم المؤلف رحمه الله بين دين الإسلام، واقتصر في البيان على دين الإسلام لأنه دين أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام الحق الصافي، هم كمال قال شيخ الإسلام: هم نقاوة المسلمين، هم الصفوة، وهم الخيار، هم الذين قال الله جل وعلا فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} سورة : آل عمران (110). .وهم الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} سورة : البقرة (143).. ذكر المؤلف رحمه الله وسطية هٰذا الدين، وهو يثبت بذلك وسطية أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة وسط في الفرق الإسلامية كما أن دين الإسلام وسط بين الأديان. والوسطية ليست في جانب واحد، بل هي في جميع الجوانب: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} في كل شيء، ليس فقط في الاعتقاد، بل في الاعتقاد والعمل والقول،و... في كل أمر من أمور هٰذه الأمة. يقول: (وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ). الإسلام، عقد أهل السنة والجماعة بين الغلو والتقصير، الغلو الزيادة والتقصير النقص، فأهل السنة والجماعة طريق وسط لا غلو فيه ولا نقص، وقد نهى الله جل وعلا عن الزيادة كما نهى عن النقص، كما قال تعالىٰ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} سورة النساء (171). . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إياكم والغلو، إياكم والغلو، إياكم والغلو)) سنن ابن ماجه: كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3028). قال الشيخ الألباني: حسن، والحديث بلفظ ((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين))، وأنظر أيضا السلسلة الصحيحة حديث رقم (1283).، ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)) مسلم: كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670). الأحاديث والآثار في النهي عن الغلو كثيرة، وكذلك عن التقصير، كذلك كثيرة في نهيه عن المعاصي، فإن كل معصية في عقد أو قول وعمل هي من التقصير الذي نهى الله عنه. قال: (وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ). أهل الإسلام سالمون من هاتين الآفتين، أهل السنة والجماعة سالمون من هاتين البدعتين، التشبيه: التمثيل، والتعطيل: نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إما نفياً كليّاً أو نفياً جزئيّاً، ويجمع نفي هاتين البدعتين قول الله تعالىٰ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة : الشورى (11). . قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نفي لأي شيء؟ التمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} نفي لبدعة التعطيل. قال: (وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ). يعني بين الذين يقولون بأن الإنسان لا مشيئة له ولا اختيار، وهم الجبرية، وبين الذين يقولون: الإنسان يخلق فعل نفسه، العبد يخلق فعل نفسه، ليس لله عزوجل مشيئة ولا اختيار في فعل العبد، ولا قدرة على فعل العبد، أهل السنة والجماعة يقولون كما قال الله جل وعلا: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} سورة : التكوير (28-29). . فيثبتون للعبد قدرةً وكسباً ومشيئةً، ويثبتون أن هٰذه القدرة وهٰذه المشيئة وهٰذا الكسب لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا ومشيئته، بل الله محيط بالعبد ومشيئته وقدرته، والعبد مخلوق للرب كما أن ذاته وصفاته مخلوقة للرب جل وعلا. نعم. (وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإياسِ). هٰذا فيه بيان توسط أهل السنة والجماعة بين فريقين ضالين، وهم من عبد الله بالمحبة وحدها، ومن عبد الله بالخوف وحده، فأهل السنة والجماعة يعبدون الله جل وعلا بالمحبة والرجاء والخوف، وتقدم تقرير ذلك. ثم قال رحمه الله: (فَهٰذا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بُرَءاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ). هٰذا المشار إليه ما تقدم من العقائد (دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا). يعني الذي ندين الله سبحانه وتعالى به. (دِينُنَا) أي الذي نتعبد الله جل وعلا به (وَاعْتِقَادُنَا) أي ما طوينا عليه قلوبنا وربطنا عليه قلوبنا ظاهراً وباطناً، يعني ليس عندنا ظاهر وباطن كحال الباطنية الذين لهم ظاهر وباطن. ثم قال: (وَنَحْنُ بُرَءاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ). (بُرَءاءُ) أي نتبرأ من كل خالف الذي ذكرناه وبيناه، وهٰذا هو الواجب أن يتبرأ الإنسان من كل من خالف عقد أهل السنة والجماعة، لكن هٰذه البراءة كالمحبة والبغض، كالمحبة في الله والبغض في الله، البراءة تتفاوت بتفاوت المخالفة: فمن كانت مخالفته عظيمة كان حقه من البراءة عظيماً، ومن كانت مخالفته يسيرة كان حقه من البراءة يسيراً. على أن المؤلف رحمه الله ذكر في هٰذه العقيدة ما خرج به عن عقد أهل السنة والجماعة، لا سيما في مسألة الإيمان. نعم. (وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَءاءُ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِيَاءُ. وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ). يقول رحمه الله في ختم هٰذه العقيدة: (وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) آمين. بعد أن ذكر رحمه الله: (فَهٰذا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا) لجأ إلى الله جل وعلا في التثبيت على الحق، وهٰذا هو حال المؤمن التقي الذي يرجو ما عند الله عزوجل ، لا يعتمد على نفسه في الثبات، بل يقرر الحق ويسأل الله عزوجل الثبات عليه، ولذلك قال رحمه الله: (وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ). الثبات هو الاستمرار، والختم هو أن يكون منتهى ما نعمل به ونغادر هٰذه الدنيا به هو الإيمان، (وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ) أي يحفظنا ويبعد عنا الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الرديئة. الأهواء جمع هوى وهو ما تهواه الأنفس، ويطلق هٰذا على ما تهواه الأنفس في الأعمال وفي العقائد. والآراء المتفرقة، ولا شك أن الآراء المتفرقة هي الآراء المخالفة لأهل السنة والجماعة، وأما من وافق أهل السنة والجماعة فإنه لا يفترق ولا يتفرق، بل عقد أهل السّنة والجماعة الاجتماع ،كما قال قبل قليل رحمه الله. (وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) أي المسالك الرديئة المخالفة. ثم مثل ذلك: (مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ). بدأ بالمشبهة ويريد بالمشبهة الممثلة؛ لأن النفوس ترفض هٰذه البدعة، فإن كل نفس مفطورة على أن الخالق ليس كالمخلوق، وأنه لا مماثلة بين الخالق والمخلوق، بل الله جل وعلا ليس كمثله شيء. (وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ) هٰذه الفرق كلها من الفرق الضالة، وأنواع الضلال فيها مختلفة: منها ما هو في الأسماء والصفات، منها ما هو في القدر، منها ما هو في اليوم الآخر، أنواع وأشكال. يقول: (وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) أي صالحوا الضلالة والتزموها والتحفوها وكانت مرافقة لهم. (وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَءاءُ). هـٰذا فيه التبرؤ من كل من خالف أهل السنة والجماعة. (وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِيَاءُ ). ولاشك في ذلك، فإن هٰذه الفرق من الفرق الضالة الرديئة المخالفة للكتاب والسنة. ثم قال رحمه الله: (وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ). أي به جل وعلا تحصل العصمة للعبد من الوقوع في شيء من الضلال، والتوفيق إلى طريق أهل السنة والجماعة. وهٰذا ختم بديع؛ لأنه به يحصل للإنسان سعادة الدارين: أن يعصمه الله من أهل الشر والشر، وأن يوفقه إلى الخير والعمل به. نسأل الله عزوجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين. وبهٰذا تكون قد انتهت هٰذه العقيدة المباركة التي نسأل الله عزوجل أن يثيب مؤلفها خيراً، وأن يغفر له ما كان فيها من خطأ، وأن ينفعنا بما فيها من علوم نافعة.