×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

خطب المصلح / خطب مفرغة / خطبة : الخلاف شر

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وارقبوا مقامكم بين يدي الله جل وعلا؛ فإن كل أحد قائم بين يدي ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، يسأله -جل وعلا- عن الدقيق والجليل، والصغير والكبير، ولا فكاك من ذلك كله إلا بتقوى صادقة وتوبة راشدة يعود فيها الإنسان إلى ربه، يتوقى مواطن الزلل، ومواقع الخطأ والخطر.

أيها المؤمنون، عباد الله! إن هذه الدنيا جبلت على التنوع والاختلاف، فالله تعالى قد خلق الزوجين ذكرا وأنثى، والله سبحانه أجرى من سنته في كونه ليلا ونهارا، فله اختلاف الليل والنهار سبحانه وبحمده، ومن بديع صنعه وعظيم قدرته أن خلق الأضداد، فذاك حسن وذاك قبيح.

والضد يظهر حسنه الضد***وبضدها تتميز الأشياء .

الاختلاف أمر واقع لا محالة، ولا سبيل إلى محاصرته، ولا سبيل إلى القضاء عليه، فهو سنة جارية في بني آدم، بل في الكون كله، فالاختلاف موجود، إلا أن الاختلاف أنواع وأشكال وألوان، فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما هو شر مستطير وفساد كبير، ولذلك ينبغي للناس أن يميزوا بين أنواع الخلاف المذموم وأنواع الخلاف السائغ المقبول، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفصيل، وإن الخلاف شر، ولا يتميز الخير إلا بمعرفة الشر.

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه      

ولا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وإنما تنقض عرى الإسلام بجهل الجاهلين وما عليه المارقون.

أيها المؤمنون! إن الله تعالى قال: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} +++الأنبياء:92--- ، وهذه الوحدة لا تقتصر على زمان، ولا على مكان، ولا على أمة، بل هذه الأمة التي وصفها الله تعالى بأنها أمة واحدة؛ هي أمة الإسلام من لدن آدم -عليه السلام- إلى آخر موحد في هذه الدنيا، ممن يأذن الله تعالى بقبض روحه في آخر الزمان، كل هؤلاء أمة واحدة يجتمعون على مقصد عظيم، وهو ما قام له الكون، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} +++الذاريات:56--- .

فهذه الوحدة لا يمكن أن يساوم عليها، ولا يسوغ أن يتنازل عنها، فالخلاف فيها هو الخلاف المذموم الأكبر الذي ذم الله تعالى أهله وأصحابه في كتابه وسنة رسوله.

فالخلاف إذا عطلت به قضايا التوحيد وانتهكت به حقوق رب العالمين، وأخرج الناس من الإسلام لله رب السماوات والأرض فإنه مذموم ولا شك، يقول الله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} +++هود:118--- ، لكن حكمته اقتضت الافتراق والاختلاف، {ولا يزالون مختلفين} +++هود:118--- ، وهذا الاختلاف ليس الاختلاف في الإباحة والتحريم في مسائل وفروع الدين، وإنما هو اختلاف ذكره الله تعالى في قوله: {فريق في الجنة وفريق في السعير} +++الشورى:7--- ، اختلاف أهل الكفر مع اختلاف أهل الإيمان، {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} +++البقرة:176--- ، {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} +++النساء:115--- ، إنه خلاف الاعتقاد برب لا إله غيره، ولا مالك سواه، ولا مدبر غيره، ولا معبود بحق إلا هو، هذا الخلاف هو الاختلاف الذي لا يمكن أن يقبل، ولا يسوغه مسوغ، فهذا الخلاف شر، ولذلك قال ربنا: {ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك} +++هود:118-119--- ، فمن رحمه الله سلم من هذا الخلاف، لأنه خلاف يفضي إلى النار، كما قال ربنا: {فريق في الجنة وفريق في السعير} +++الشورى:7--- .

وأما الاختلاف الذي يكون في دائرة الأحكام والحلال والحرام، فهذا ليس بشر على الإطلاق، أي: لا يكون شرا في غالب الأحوال، لكنه قد يكون شرا في بعضها كما سنبين شيئا من صور الشر في الخلاف الواقع في الأحكام والفروع والحلال والحرام.

نعم، الخلاف شر إذا أدى إلى التفرق في الدين، وتقسيم الأمة وشرذمتها إلى طوائف وأحزاب، وفئات وجماعات متناحرة، يقول الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} +++آل عمران:105--- ، فهذا الخلاف خلاف مذموم؛ لأنه يدعو إلى تمزيق وحدة الأمة ونسيجها الذي لا يساوم عليه، ولا يجوز أن يتنازل عنه، فالأمة اتحدت في مقصدها وغايتها، فقصدها الله، وغايتها تحقيق العبودية لله وحده لا شريك له، فإذا اختلفت الآراء وتنوعت الاجتهادات تحت هذه المظلة الكبرى فلا حرج ولا ضير، فإذا استثمر ذلك الخلاف في تمزيق الأمة وشرذمتها والدعوى بدعوى الجاهلية تحت أي مسمى من المسميات، فإنه من الشر الذي يجب توقيه ويدخل فيما قاله ابن مسعود: «الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر».+++[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:4269، وصححه الألباني في الصحيحة444/1]---

نعم، الخلاف شر أيها المؤمنون إذا أدى إلى البغي والعدوان وهتك الحقوق وانتهاك الحرمات.

نعم، الخلاف شر إذا أدى إلى التهاجر والتباغض، ولو كان في أصغر المسائل، سواء كان ذلك في مسائل الدين أو مسائل الدنيا.

الخلاف شر، إذا اتخذ وسيلة للتحلل من أحكام الشريعة ونقض عراها والعبث بالدين، والنقض للثوابت والقيم.

الخلاف شر إذا كان وسيلة للتغريب، وإزالة هوية الأمة، ومحاولة الدخول والنفوذ من الخلاف إلى ما لا خلاف فيه.

وأضرب لك مثلا لتعلم ما المقصود بهذا النوع من الخلاف: أولئك الذين يستغلون الخلاف لتمرير فساد يشيعونه في المجتمع، أو شر يحملون الناس عليه، كل ذلك باجتهادات يسوغونها ليس قصدهم إعلاء كلمة الله ولا نصر الملة ولا توضيح الشريعة، وإنما قصدهم هدم الثوابت والتنازل عن القيم والرجوع إلى الخلف، والقيام بما جرى من بلاء في بقية البلدان باجتهاد أو بغير اجتهاد بحسن نية أو بغير حسن نية، فحسن النية لا يدفع لسوء العمل، فكم من عمل كانت نيته طيبة لكنه لا يمكن أن تشفع له النية الطيبة في الحكم عليه بالصحة والقبول، ومن هذا ما نسمعه هنا وهناك من الخلاف في مسألة الحجاب وكشف المرأة لوجهها، فكثير من الكتاب والمتكلمين يتكلمون عن مسألة ستر المرأة لوجهها، ويتكلمون عن اختلاف العلماء في ستر الوجه: هل هو جائز أو لا، ويسوقون الأدلة، ويحكون الأقوال، ويحشدون الآراء، ويؤيدون المقالات بأنواع من المقولات، لكنه يخفى عليه أن وراء الأكمة ما وراءها، فليس الشأن في كشف الوجه، فالوجه مسألة خلافية لا يمكن حسم الخلاف بإلغائه، بل العلماء مختلفون فيه منذ قدم، لكن الشأن وراء ذلك من كشف الشعور والنحور وإبداء المفاتن وإخراج المرأة من سترها وحيائها، هذا الذي يقصدونه وإن قدموا له بخلافات فقهية، فالخلافات الفقهية لا يقصد منها في بعض الأحيان بيان الحق وإيضاحه بقدر ما يكون وسيلة إلى ما هو أبعد من ذلك من سفور وشر، نسأل الله أن يقينا شرها.

اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أحمده لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى والزموا أمره وشرعه وقدسوا ما أمركم بتقديسه، فإن تعظيم الله تعالى في القلوب من أجل القربات، {ما لكم لا ترجون لله وقارا} +++نوح:13---، ومن تعظيمه: تعظيم شرعه، وتعظيم حقه، لا نحصي ثناء عليه سبحانه وبحمده، نعوذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، وبه منه، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه.

أيها المؤمنون! الخلاف شر إذا كان وسيلة للتحلل من أحكام الشريعة، إذا وضع في غير موضعه لتسويق شر وفساد، ولذلك أمثلة كثيرة يمكن أن تكون في كلام هذا أو ذاك، إلا أن التفطن والتنبيه والتناصح والتعاون على البر والتقوى من أعظم وسائل محاصرة الشر والفساد، وإن قضية كبرى تطرح بين غال وجاف، بين مفرط ومفرط، بين داعية إلى شر وداعية إلى جمود وانغلاق؛ ألا وهي مسألة اختلاط المرأة بالرجال في الأعمال وغيرها، فهذه المسألة مسألة كبرى لا يتسنمها إلا من آتاه الله تعالى علما بقوله وقول رسوله ومآلات الأقوال وما تنتهي إليه الأحوال، فإنه من الخطأ أن يتجرأ الإنسان على كلام لا يدري ما عاقبته ولا يدرك غائلته، ولا يرى شواهده في واقع الناس.

إن استحضار النصوص في اختلاط المرأة بالرجل في زمن النبوة في المسجد أو غيره، لا ينفع في تسويق الاختلاط الماجن الذي قد حل عن كل قيد وضابط، وهذا نموذج من الخلاف الذي يدخل فيما قال فيه ابن مسعود: «الخلاف شر».+++[سبق]---

إن المرأة لابد أن تعمل في هذا الزمان الذي كثرت فيه الحوائج وفتحت فيه مجالات العمل، فهذه مسألة ليست محل نقاش فيما يبدو، والنقاش فيها هو رجوع إلى الوراء بما لا فائدة فيه، لأن المرأة في كثير من الأحيان خارجة خارجة شئنا أم أبينا، لكن الأمر ينبغي أن يتحول إلى ما هو أهم وهو ضبط هذا الخروج، لنتوقى الشر الذي ينذر الأمة بفساد عريض، فما أتيت الأمة من شر وفتنة، بقدر ما تؤتاه من قبل الاختلاط وفتنة النساء، وهذا ليس تعبيرا وإنشاء، وإنما هو قول من لا ينطق عن الهوى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من حديث أسامة: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»+++[صحيح البخاري:ح5096، وصحيح مسلم:ح2740/97]---، وهذا يدل على خطورة الأمر. والغريب أن كثيرا من الناس يغفلون عن هذا الأمر ويسوغون خروج المرأة دون ضبط ولا قيد، المرأة خارجة، لكن ينبغي أن يكون خروجها على وجه تحفظ فيه العورات، وتؤمن فيه الفتن والغوائل، وتحفظ فيه الشرائع، ويحاصر فيه الفساد؛ ألا وهو الزنا الذي هو أعظم الموبقات المفسدة للمجتمعات، ولذلك قال ربكم: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} +++الإسراء:32--- .

أيها المؤمنون! الخلاف شر إذا كان مفضيا إلى فرقة الأمة، مفضيا إلى هتك حرمة الجماعة، فالجماعة رحمة كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير بإسناد لا يستقيم استقامة تطمئن لها النفس، لكن معناه صحيح: «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب»+++[مسند أحمد:ح18499، وقال محقق المسند:إسناده ضعيف]---، فينبغي لنا أن نسعى إلى تحقيق الجماعة، فليلة تحت ولي ظالم خير من ليلة في فرقة وعذاب، وأنتم تشاهدون ما يصطليه إخوانكم في كثير من بلاد المسلمين لفقد الولايات التي تقوم عليهم وتنظم شؤونهم.

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم          ولا سراة إذا جهالهم سادوا

فينبغي لأهل الإسلام أن يجتمعوا ويأتلفوا، وأن يعتصموا بحبل الله تعالى، ومن الاجتماع المحمود: الاجتماع على ولاة الأمر وحفظ حقوقهم والدعاء لهم بالتوفيق والتثبيت والحرص على نعمة الأمة، وعدم تخلل الشر وأهل الفتنة فيها، فلابد أن تقرر هذه القضية.

واستمع إلى هذا المثال الذي نختم به هذه الخطبة: صلى عبد الله بن مسعود خلف عثمان بن عفان رضي الله عنهما في حجة في وقت خلافة عثمان، وكان عثمان في يوم عرفة يصلي كما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، يصلي ركعتين الظهر والعصر في عرفة، إلا أنه اجتهد في سنة من السنوات فرأى أن يتم الصلاة فصلى الظهر أربعا والعصر أربعا فصلى خلفه ابن مسعود، وكان قد قال: «إن ذلك خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم»، فقال له الناس: يا عبد الله! تقول هذا خلاف السنة ثم تصلي خلف عثمان وقد أتم؟ فقال رحمه الله: «الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر».+++[سبق]---

فهذا الفقه الدقيق في جمع الأمة وعدم خرق نسيجها، لأجل اختلافات فقهية أو آراء اجتهادية، هو مما ينبغي أن يشاع وأن يرهب، وأن لا يثرب على المجتهد مهما خالف اجتهادك اجتهاده، ما دام أنه في هذه المخالفة شر وفساد وفرقة وعدوان.

اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وارزقنا الاعتصام بحبلك، {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} +++آل عمران:103--- .

اللهم قنا شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، وثبتنا عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.555

المشاهدات:15634
- Aa +

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتَّقوا الله أيها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى حق التقوى، وارقُبوا مقامكم بين يدي الله جلَّ وعلا؛ فإنَّ كلَّ أحد قائم بين يدي ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، يسأله -جل وعلا- عن الدقيق والجليل، والصغير والكبير، ولا فكاك من ذلك كله إلا بتقوى صادقة وتوبة راشدة يعود فيها الإنسان إلى ربه، يتوقَّى مواطن الزلل، ومواقع الخطأ والخطر.

أيها المؤمنون، عباد الله! إن هذه الدنيا جُبلت على التنوُّع والاختلاف، فالله تعالى قد خلق الزوجين ذكراً وأنثى، والله سبحانه أجرى من سنته في كونه ليلاً ونهاراً، فله اختلاف الليل والنهار سبحانه وبحمده، ومن بديع صنعه وعظيم قدرته أن خلق الأضداد، فذاك حسن وذاك قبيح.

والضد يظهر حسنه الضد***وبضدها تتميز الأشياء .

الاختلاف أمر واقع لا محالة، ولا سبيل إلى محاصرته، ولا سبيل إلى القضاء عليه، فهو سنة جارية في بني آدم، بل في الكون كله، فالاختلاف موجود، إلا أن الاختلاف أنواع وأشكال وألوان، فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما هو شرٌّ مستطير وفساد كبير، ولذلك ينبغي للناس أن يميزوا بين أنواع الخلاف المذموم وأنواع الخلاف السائغ المقبول، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفصيل، وإن الخلاف شرٌّ، ولا يتميز الخير إلا بمعرفة الشر.

عرفت الشرَّ لا للشر لكن لتوقيه      

ولا يَعرفُ الإسلامَ من لم يعرف الجاهلية، وإنما تُنقضُ عرى الإسلام بجهل الجاهلين وما عليه المارقون.

أيها المؤمنون! إن الله تعالى قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} الأنبياء:92 ، وهذه الوحدة لا تقتصر على زمان، ولا على مكان، ولا على أمة، بل هذه الأمة التي وصفها الله تعالى بأنها أمة واحدة؛ هي أمة الإسلام من لدن آدم -عليه السلام- إلى آخر موحِّد في هذه الدنيا، ممن يأذن الله تعالى بقبض روحه في آخر الزمان، كل هؤلاء أمة واحدة يجتمعون على مقصد عظيم، وهو ما قام له الكون، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات:56 .

فهذه الوحدة لا يمكن أن يساوَم عليها، ولا يسوغ أن يُتنازل عنها، فالخلاف فيها هو الخلاف المذموم الأكبر الذي ذم الله تعالى أهله وأصحابه في كتابه وسنة رسوله.

فالخلاف إذا عُطِّلت به قضايا التوحيد وانتُهكت به حقوق رب العالمين، وأخرج الناس من الإسلام لله رب السماوات والأرض فإنه مذموم ولا شك، يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} هود:118 ، لكن حكمته اقتضت الافتراق والاختلاف، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} هود:118 ، وهذا الاختلاف ليس الاختلاف في الإباحة والتحريم في مسائل وفروع الدين، وإنما هو اختلاف ذكره الله تعالى في قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الشورى:7 ، اختلاف أهل الكفر مع اختلاف أهل الإيمان، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} البقرة:176 ، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} النساء:115 ، إنه خلاف الاعتقاد بربٍّ لا إله غيره، ولا مالك سواه، ولا مدبِّر غيره، ولا معبودَ بحق إلا هو، هذا الخلاف هو الاختلاف الذي لا يمكن أن يُقبل، ولا يسوغه مسوِّغ، فهذا الخلاف شرٌّ، ولذلك قال ربنا: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} هود:118-119 ، فمن رحمه الله سلم من هذا الخلاف، لأنه خلاف يفضي إلى النار، كما قال ربنا: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الشورى:7 .

وأما الاختلاف الذي يكون في دائرة الأحكام والحلال والحرام، فهذا ليس بِشَرٍّ على الإطلاق، أي: لا يكون شرًّا في غالب الأحوال، لكنه قد يكون شرًّا في بعضها كما سنبين شيئاً من صور الشر في الخلاف الواقع في الأحكام والفروع والحلال والحرام.

نعم، الخلاف شر إذا أدى إلى التفرق في الدين، وتقسيم الأمة وشرذمتها إلى طوائف وأحزاب، وفئات وجماعات متناحرة، يقول الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} آل عمران:105 ، فهذا الخلاف خلاف مذموم؛ لأنه يدعو إلى تمزيق وحدة الأمة ونسيجها الذي لا يُساوَم عليه، ولا يجوز أن يتنازل عنه، فالأمة اتحدت في مقصدها وغايتها، فقصدها الله، وغايتها تحقيق العبودية لله وحده لا شريك له، فإذا اختلفت الآراء وتنوعت الاجتهادات تحت هذه المظلة الكبرى فلا حرج ولا ضير، فإذا استُثمر ذلك الخلاف في تمزيق الأمة وشرذمتها والدعوى بدعوى الجاهلية تحت أي مسمى من المسميات، فإنه من الشر الذي يجب توقِّيه ويدخل فيما قاله ابن مسعود: «الخلاف شرٌّ، الخلاف شرٌّ، الخلاف شرٌّ».[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:4269، وصححه الألباني في الصحيحة444/1]

نعم، الخلاف شرٌّ أيها المؤمنون إذا أدى إلى البغي والعدوان وهتك الحقوق وانتهاك الحرمات.

نعم، الخلاف شر إذا أدَّى إلى التهاجر والتباغض، ولو كان في أصغر المسائل، سواءً كان ذلك في مسائل الدين أو مسائل الدنيا.

الخلاف شرٌّ، إذا اتُّخذ وسيلة للتحلل من أحكام الشريعة ونقض عراها والعبث بالدين، والنقض للثوابت والقيم.

الخلاف شرٌّ إذا كان وسيلة للتغريب، وإزالة هوية الأمة، ومحاولة الدخول والنفوذ من الخلاف إلى ما لا خلاف فيه.

وأضرب لك مثلاً لتعلم ما المقصود بهذا النوع من الخلاف: أولئك الذين يستغلُّون الخلاف لتمرير فساد يُشيعونه في المجتمع، أو شرٍّ يحملون الناس عليه، كل ذلك باجتهادات يسوغونها ليس قصدهم إعلاء كلمة الله ولا نصر الملة ولا توضيح الشريعة، وإنما قصدهم هدم الثوابت والتنازل عن القيم والرجوع إلى الخلف، والقيام بما جرى من بلاء في بقية البلدان باجتهاد أو بغير اجتهاد بحسن نية أو بغير حسن نية، فحسن النية لا يدفع لسوء العمل، فكم من عمل كانت نيته طيبة لكنه لا يمكن أن تشفع له النية الطيبة في الحكم عليه بالصحة والقبول، ومن هذا ما نسمعه هنا وهناك من الخلاف في مسألة الحجاب وكشف المرأة لوجهها، فكثير من الكُتَّاب والمتكلمين يتكلمون عن مسألة ستر المرأة لوجهها، ويتكلمون عن اختلاف العلماء في ستر الوجه: هل هو جائز أو لا، ويسوقون الأدلة، ويحكون الأقوال، ويحشدون الآراء، ويؤيدون المقالات بأنواع من المقولات، لكنه يخفى عليه أن وراء الأكمَّة ما وراءها، فليس الشأن في كشف الوجه، فالوجه مسألة خلافية لا يمكن حسم الخلاف بإلغائه، بل العلماء مختلفون فيه منذ قِدَم، لكن الشأن وراء ذلك من كشف الشعور والنحور وإبداء المفاتن وإخراج المرأة من سترها وحيائها، هذا الذي يقصدونه وإن قدموا له بخلافات فقهية، فالخلافات الفقهية لا يُقصد منها في بعض الأحيان بيان الحق وإيضاحه بقدر ما يكون وسيلةً إلى ما هو أبعد من ذلك من سفور وشر، نسأل الله أن يقينا شرَّها.

اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أحمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى والزموا أمره وشرعه وقدِّسوا ما أمركم بتقديسه، فإن تعظيم الله تعالى في القلوب من أجلِّ القربات، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} نوح:13، ومن تعظيمه: تعظيم شرعه، وتعظيم حقه، لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وبحمده، نعوذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، وبه منه، لا نحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.

أيها المؤمنون! الخلاف شر إذا كان وسيلةً للتحلُّل من أحكام الشريعة، إذا وضع في غير موضعه لتسويق شر وفساد، ولذلك أمثلة كثيرة يمكن أن تكون في كلام هذا أو ذاك، إلا أن التفطنَ والتنبيه والتناصح والتعاون على البر والتقوى من أعظم وسائل محاصرة الشر والفساد، وإنَّ قضية كبرى تُطرح بين غالٍ وجاف، بين مفرِط ومفرِّط، بين داعية إلى شرٍّ وداعية إلى جمود وانغلاق؛ ألا وهي مسألة اختلاط المرأة بالرجال في الأعمال وغيرها، فهذه المسألة مسألة كبرى لا يتسنُّمها إلا من آتاه الله تعالى علماً بقوله وقول رسوله ومآلات الأقوال وما تنتهي إليه الأحوال، فإنه من الخطأ أن يتجرأ الإنسان على كلام لا يدري ما عاقبته ولا يدرك غائلتَه، ولا يرى شواهده في واقع الناس.

إنَّ استحضار النصوص في اختلاط المرأة بالرجل في زمن النبوة في المسجد أو غيره، لا ينفع في تسويق الاختلاط الماجن الذي قد حُلَّ عن كل قيد وضابط، وهذا نموذج من الخلاف الذي يدخل فيما قال فيه ابن مسعود: «الخلاف شرٌّ».[سبق]

إن المرأة لابد أن تعمل في هذا الزمان الذي كثرت فيه الحوائج وفتحت فيه مجالات العمل، فهذه مسألة ليست محلَّ نقاش فيما يبدو، والنقاش فيها هو رجوع إلى الوراء بما لا فائدة فيه، لأن المرأة في كثير من الأحيان خارجة خارجة شئنا أم أبينا، لكنَّ الأمر ينبغي أن يتحول إلى ما هو أهمُّ وهو ضبط هذا الخروج، لنتوقَّى الشر الذي ينذر الأمة بفساد عريض، فما أتيت الأمة من شرٍّ وفتنة، بقدر ما تؤتاه من قِبَل الاختلاط وفتنة النساء، وهذا ليس تعبيراً وإنشاء، وإنما هو قول من لا ينطق عن الهوى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من حديث أسامة: «ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء»[صحيح البخاري:ح5096، وصحيح مسلم:ح2740/97]، وهذا يدل على خطورة الأمر. والغريب أن كثيراً من الناس يغفلون عن هذا الأمر ويُسوغون خروج المرأة دون ضبط ولا قيد، المرأة خارجة، لكن ينبغي أن يكون خروجها على وجه تحفظ فيه العورات، وتؤمن فيه الفتن والغوائل، وتحفظ فيه الشرائع، ويحاصر فيه الفساد؛ ألا وهو الزنا الذي هو أعظم الموبقات المفسدة للمجتمعات، ولذلك قال ربكم: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} الإسراء:32 .

أيها المؤمنون! الخلاف شر إذا كان مفضياً إلى فُرْقة الأمة، مفضياً إلى هتك حرمة الجماعة، فالجماعة رحمة كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير بإسناد لا يستقيم استقامة تطمئن لها النفس، لكن معناه صحيح: «الجماعة رحمة، والفُرْقة عذاب»[مسند أحمد:ح18499، وقال محقق المسند:إسناده ضعيف]، فينبغي لنا أن نسعى إلى تحقيق الجماعة، فليلة تحت وليٍّ ظالم خير من ليلة في فُرْقة وعذاب، وأنتم تشاهدون ما يصطليه إخوانكم في كثير من بلاد المسلمين لفقد الولايات التي تقوم عليهم وتنظم شؤونهم.

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم          ولا سراة إذا جهالهم سادوا

فينبغي لأهل الإسلام أن يجتمعوا ويأتلفوا، وأن يعتصموا بحبل الله تعالى، ومن الاجتماع المحمود: الاجتماع على ولاة الأمر وحفظ حقوقهم والدعاء لهم بالتوفيق والتثبيت والحرص على نعمة الأمة، وعدم تخلل الشر وأهل الفتنة فيها، فلابد أن تقرر هذه القضية.

واستمع إلى هذا المثال الذي نختم به هذه الخطبة: صلى عبد الله بن مسعود خلف عثمان بن عفان رضي الله عنهما في حجة في وقت خلافة عثمان، وكان عثمان في يوم عرفة يصلي كما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، يصلي ركعتينِ الظهرَ والعصرَ في عرفة، إلا أنه اجتهد في سنة من السنوات فرأى أن يُتم الصلاة فصلى الظهر أربعاً والعصر أربعاً فصلى خلفه ابن مسعود، وكان قد قال: «إن ذلك خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم»، فقال له الناس: يا عبد الله! تقول هذا خلاف السنة ثم تصلي خلف عثمان وقد أتمّ؟ فقال رحمه الله: «الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر».[سبق]

فهذا الفقه الدقيق في جمع الأمة وعدم خرق نسيجها، لأجل اختلافات فقهية أو آراء اجتهادية، هو مما ينبغي أن يشاع وأن يرهب، وأن لا يثرَّب على المجتهد مهما خالف اجتهادك اجتهاده، ما دام أنه في هذه المخالفة شر وفساد وفرقة وعدوان.

اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وارزقنا الاعتصام بحبلك، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} آل عمران:103 .

اللهم قنا شرَّ كل ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته، اللهمَّ ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اللهمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، وثبتنا عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.555

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : الخوف من الله تعالى ( عدد المشاهدات42601 )
3. خطبة : الحسد ( عدد المشاهدات29317 )
4. خطبة: يوم الجمعة سيد الأيام ( عدد المشاهدات24698 )
5. خطبة : الأعمال بالخواتيم ( عدد المشاهدات22205 )
6. حكم الإيجار المنتهي بالتمليك ( عدد المشاهدات20771 )
7. خطبة : احرص على ما ينفعك ( عدد المشاهدات20346 )
8. خطبة: يا ليتنا أطعناه ( عدد المشاهدات12308 )
9. خطبة : يتقارب الزمان ( عدد المشاهدات12302 )
10. خطبة : بماذا تتقي النار. ( عدد المشاهدات10910 )
11. خطبة: أثر الربا ( عدد المشاهدات10819 )
13. خطبة : أحوال المحتضرين ( عدد المشاهدات10562 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف