الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ، وَأُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، بَعْثَهُ اللهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَداعِيًا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، فَبلَّغَ الرِّسالَةَ، وَأَدَّى الأَمانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجِهادِ؛ بِالعِلْمِ وَالبَيانِ، وَالسَّيْفِ وَالسِّنانِ، حَتَّى أَتاهُ اليَقِينُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَنَحْمَدُ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى حَمْدًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، نَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظاهِرًا وَباطِنًا عَلَى ما أَوْلانا مِنَ النِّعَمِ، فَنِعَمُ اللهِ عَلَيْنا تَتْرَىَ أَيُّها الإِخْوانُ، أَلا وَإِنَّ مِنَ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَأَجَلِّ المنَنِ، وَأَكْبَرِ المنَحِ؛ أَنء يُوَفَّقَ الإِنْسانُ إِلَى العِلْمِ النَّافِِعِ، وَإِلَى حُضُورِ حِلَقَ الذِّكْرِ الَّتِي تَحْيا بِها القُلُوبُ، وَيَنْشَطُ بِها إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، فَنِعْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى العَبْدِ بِالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ، وَإِلَى طَلَبِ العِلْمِ، وَإِلَىَ حُضُورِ حِلَقِ العِلْمِ مِنْ أَعْظَمِ ما يُمَنُّ بِه عَلَى العَبْدِ وَيُوَفِّقُ إِلَيْهِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (71)، وَمُسْلِمٌ (1037). .
وَالفِقْهُ في الدِّينِ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُولُهُ لِلمَرْءِ دِلالَةٌ عَلَى إِرادَةِ الخَيْرِ بِهِ مِنَ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى: هُوَ مَعْرِفَةُ قَوْلِ اللهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العِلْمُ قالَ اللهُ قالَ رَسُولُهُ *** قالَ الصَّحابَةُ هُمْ أُولِي العِرفانِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.ض
فَكُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِهَذا الأَمْرِ، سَواءٌ اشْتَغالًا كُلِّيًّا أَوْ اشْتِغالًا جُزْئِيًّا، فَإِنَّهُ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ، وَهَذا مِنْ دَلائِلِ إِرادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ، فاحْمَدُوا اللهَ - أَيُّها الِإخْوَةُ - عَلَى هَذا الأَمْرِ، وَاشْكُرُوهُ علِيْهِ، وَاحْرِصُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ حِلَقَ الذِّكْرِ يَعْلُو بِها الذِّكْرُ، وَيَرْتَفِعُ بِها الإِيمانُ، وَيَصْلُحُ بِها حالُ الإِنْسانِ، وَيَنْشَطُ بِها عَلَى العِبادَةِ، وَيَعْرِفُ بِها حَقَّ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُ بِها ما يَكُونُ سببًا مِنْ أَسْبابِ الخُرُوجِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. فَنَسْأَلُ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَنْ يَجْعَلَنا وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ العامِلِينَ بِهِ، الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، المقْبِلِينَ عَلَيْهِ الفَرِِحِينَ بِهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ هَذا هُوَ الدَّرْسُ الأَوَّلُ مِنْ سِلْسِلَةِ دُرُوسٍ في هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهَدْيُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَكْمَلُ الهَدْيِ، وَهُوَ عُنْوانُ السَّعادَةِ لِلعَبْدِ إِذا وُفِّقَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا قالَ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ الكهف: 110 وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ العَمَلُ صالِحًا إِلَّا إِذا كانَ مُوافِقًا لِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
فَواجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَرَصَ عَلىَ قَبُولِ عَمَلِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ رَغِبَ في تَحْقِيقِ السَّعادَةِ لِنَفْسِهِ؛ أَنْ يَسْلُكَ، وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَعْتَنِي بِهِ عِلْمًا، وَيَعْتَنِي بِهِ عَمَلًا، وَيَعْتَنِي بِهِ تَحْصِيلًا، وَيَعْتِنِي بِهِ طَلَبًا؛ فَإنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلسَّعادَةِ.
وَالجَوابُ أَوِ التَّعْلِيلُ لِهَذا الأَمْرِ وَاضِحٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الخَلْقِ سَعادَةً، وَرَسُولُ اللهِ لا أَسْعَدَ مِنْهُ في الدُّنْيا وَلا فِي الآخِرَةِ، وَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلا بِهَذِهِ السَّعادَةِ الوافِرَةِ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ رَغِبَ في سَعادَةِ الدُّنْيا وَسَعادَةِ الآخِرَةِ وَفَوْزِ الدُّنْيا وَفَوْزِ الآخِرَةِ فَلْيَحْرِصْ عَلَى سُلُوكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ ما سَنَتَناوَلُهُ في مِثْلِ هَذِهِ الدُّرُوسِ إِنْ شاءَ اللهُ تَعالَى هُوَ ما يَتَعَلَّقُ بِجوانِبَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نُذَكِّرُ بِها أَنْفُسَنا حالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا جَعَلَ فِيهِ لَنا الأُسْوَةَ الحَسَنَةَ، وَجَعَلَهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى لَنا إِمامًا وَقائِدًا، فَبِقَدْرِ حِرْصِنا عَلَى اتِّباعِ سُنَّتِهِ، وَالأَخْذِ بِهَدْيِهِ، وَالإِقْبالِ عَلَى ما وَرَثَّهُ وَتَرَكَهُ؛ بِقَدْرِ نَصِيبِنا مِنْ صُحْبَتِهِ وَالحَشْرِ تَحْتَ لِوائِهِ، وَأَنْ نَكُونَ مَعَهُ يَوْمَ العَرْضِ وَالنُّشُورِ.
وَمَوْضُوعُنا لِهَذا الدَّرْسِ هُوَ نَظْرَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّنْيا، وَقَدْ انْتَخَبْتُ لِبَيانِ ذَلِكَ حَدِيثًا في صَحِيحُ الإِمامِ البُخارِيِّ رَقَم (6416) ؛ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ فِيهِ:
أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».
وَالمنْكِبُ هُوَ مَجْمَعُ الكَتِفِ مَعَ العَضُدِ. وَقَبْلَ أَنْ نَتَناوَلَ الحَدِيثَ نُحِبُّ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ هَذِهِ اللَّفْتَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تَنُمُّ وَتَدُلُّ عَلَى تَواضُعٍ جَمٍّ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ، وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى نُصْحٍ تامٍّ وَرَغْبَةٍ في إِيصالِ الخَيْرِ؛ فَإِنَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ ابْنُ عُمَرَ الشَّابَّ الحَدَثَ الَّذِي تُوَفِّي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ في أَوائِلِ العِشْرِينِ أَوْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَبْلُغِ العِشِرْينِ، فَإِنَّهُ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ كانَ عُمُرُهُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةَ..
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَتَ نَظَرَ هَذا الشَّابُّ الَّذِي في مُقْتَبَلِ عُمُرِهِ، وَفِي أَوائِلِ طَرِيقِ حَياتِهِ، إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ يُنَشِّطُهُ بِهِ عَلَى ما يُسْتَقْبَلُ مِنْ بَقِيَّةِ العُمُرِ، وَيُذَّكِّرُهُ أَهَمِيَّةَ الجِدِّ وَالاجْتِهادِ في اسْتِباقِ الأَوْقاتِ قَبْلَ فَواتِها..
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عُمَرَ في هَذِهِ الوَصِيَّةِ الجامِعَةِ الَّتِي هِيَ في الحَقِيقَةِ تَرْجَمَةٌ لِهَذِهِ الدُّنْيا: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» كَلِمتانَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِما هَذا الشَّابَّ؛ «كُنْ فِي الدُّنْيَا» أَيْ: لِيَكُنْ شَأْنُكَ في هَذِهِ الدُّنْيا، وَفِي هَذا المعاشِ في هَذِهِ الحَياةِ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ في الدُّنْيا «كأنَّكَ غَريبٌ» هَذَا الأَمْرُ الأَوَّلُ، الثَّانِي: «أوْ عَابِرُ سَبيلٍ»، وَكِلاهُما يَجْمَعُهُما مَعْنَى وَاحِدٌ؛ أَلا وَهُوَ السَّفَرُ؛ فَإِنَّ الغَرِيبَ مُسافِرٌ، وَالعابِرُ لِلسَّبِيلِ مُسافِرٌ، وَمُجْمَلُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحَقِّقَ هَذا المعْنَى في حَياتِهِ، وَهُوَ الاسْتِشْعارُ أَنَّهُ في سَفَرٍ.. وَكَمْ هُمُ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذا الأَمْرِ أَكْثَرُنا يَظُنُّ أَنَّهُ في دارِ إِقامَةِ وَفِي دَارِ قَرارٍ وَفِي دَارِ بَقاءٍ وَلا زَوالَ لَها إِلَّا بَعْدَ آجالٍ وَأَعْمارٍ، ثُمَّ يُحْدِثُ اللهُ ما يَشاءُ مِمَّا يَجْرِي وَيَكُونُ.. لَكِنَّ الأَمْرَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يُوَجِّهْ هَذِهِ الوَصِيَّةَ لِشَيْخٍ كَهْلٍ قارَبَ القَبْرَ، بَلْ وَجَّهَها لِشابٍ صَغِيرٍ في أَوَّلِ عُمُرِهِ، قَدْ يَكُونُ في أَوائِلِ السِّنينَ الَّتي بَعْدَ البُلُوغِ، أَوْ قَدْ يَكُونُ بَلَغَ العِشْريِنَ..
قالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَالجامِعُ لَهُما كَما ذَكَرْنا هُوَ مَعْنَى السَّفَرِ؛ فَما هِيَ حالُ المسافِرِ؟
حالُ المسافِرِ جِدُّ في طَرِيقِهِ، وَاجْتِهادٌ في قَطْعِ المسافَةِ لِبُلُوغِ مُرادِهِ، وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، هَذِهِ هِيَ حالُ المسافِرِ، وَلِذَلِكَ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» هَذِهِ هِيَ المرْحَلَةُ الأُولَى، وَهَذا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ كُلُّ إِنْسانٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ. المرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ مَرْحَلَةُ الجِدِّ وَانْتِهاءِ الاجْتِهادِ فِي تَحْصِيلِ المقصودِ؛ أَنْ يَكُونَ الإِنْسانُ عابِرَ سَبِيلٍ؛ فَإِنَّ الغَرِيبَ قَد يشتغل في غربته في بَعْضِ ما يَشْتَغِلُ بِهِ المقِيمُونَ مِنْ أَخْذِ مَسْكَنٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَأْكل أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لا يَشْتَغِلُ اشْتِغالَ الَّذِي وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى البَقاءِ، فَما زَالَتْ أَحْكامُ السَّفَرِ عَلَيْهِ قائِمَةً، وَلا زَالَ يُمَنِّي نَفْسَهُ وَيُعِدُّها بِالارْتِحالِ وَبُلُوغِ المنْزِلِ وَالمقْصِدِ الَّذِي يَسْعَى إِلَى بُلُوغِهِ وَقَصْدِهِ، وَهُوَ غايَتُهُ، وَهِيَ الدَّارُ الآخِرَةُ.
إِنَّ سَفَرَنا أَيُّها الإِخْوَةُ بَدَأَ مِنْ ظُهُورِ آبائِنا وَانْتَقَلَ إِلَى بُطُونِ أَرْحامِ أُمَّهاتِنا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَدَأَتِ الرِّحْلَةُ الَّتِي نُدْرِكُها وَنَعِيشُها، وَعَلَيْها مَدارُ التَّكْلِيفِ، وَبِها الفَوْزُ وَالفَلاحُ، أَوِ الخَسارُ وَالهَلاكُ، وَإِذا بَلَغَ الإِنْسانُ فَقَدْ جَرَىَ عَلَيْهِ قَلَمُ التَّكْلِيفِ، وَأَصْبَحَ في سَفَرٍ يُحاسَبُ عَلَى دَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، ثُمَّ يَمْضِي هَذا العُمُرُ سَنواتٍ تَقِلُّ أَوْ تَكْثُرُ، إِلَّا أَنَّ الجَمِيعَ فِيها مُسافِرٌ، وَكُلٌّ سَيَئُولُ إِلَى مَقَرٍّ لَكِنَّهُ لَيْسَ لإِقامَةٍ، بَلْ هُوَ زِيارَةٌ، وَهِيَ دَارُ البَرْزَخِ..
قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ التكاثر: 1، 2 . فَلَمَّا ذَكَرَ المقابِرَ، مَعَ أَنَّها الغايَةُ وَالمنْتَهَى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَمْ يَجْعَلْها دَارَ إِقامَةٍ، بَلْ جَعَلَها دَارَ زِيارَةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الزِّيارَةُ هَلْ هِيَ طَوِيلَةٌ أَمْ قَصِيرَةٌ؟ هِيَ عَلَى المؤْمِنِ مِنْ أَقْصَرِ ما يَكُونُ، وَكَذَلِكَ الكافِرُ فَإِنَّها لا تَطُولُ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ تَطُولَ، وَهِيَ خِلافٌ ذَلِكَ، فَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ..
ثُمَّ يُبْعَثُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ يَقُومُونَ لِرَبَّ العالَمِينَ عَلَى هَيْئَتِهِمْ يَوْمَ خَرَجُوا إِلَى دارِ التَّكْلِيفِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْشَرُونَ في مَحْشَرٍ عَظِيمٍ وَمَوْقِفٍ مَهُولٍ، فِيهِ مِنَ الأَهْوالِ وَالفَظائِعِ ما تَشِيبُ مِنْهُ رُءوسُ الوِلْدانِ؛ كَما قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ الحج: 1، 2 . . هَذا العَذابُ هُوَ سَبَبٌ ما قَبْلَهُ مِنَ الأَوْصافِ؛ مِنَ الذُّهُولِ وَالاضِّطرابِ، وَكَوْنِ النَّاسِ عَلَى هَيْئَةِ السُّكارَىَ في هَذِهِ الدُّنْيا.. وَمَنْ رَأَى السَّكْرانَ يَعْرِفُ حالَهُ وَاضِّطْرابَهُ، فَهِيَ حالُ النَّاسِ في ذَلِكَ الموْقِفِ، فَسَبَبُ هَذِهِ الحالِ عامَّةً لِلجَمِيعِ هُوَ أَنَّ عَذابَ اللهِ جَلَّ وَعَلا في ذَلِكَ اليَوْمِ، وَما أَعَدَّهُ لِمَنْ خالَفَ أَمْرَهُ عَظِيمٌ، تَذْهَلُ لَهُ العُقُولُ، وَتَضَّطَرِبُ لَهُ القُلُوبُ، وَتَهْتَزُّ لَهُ النُّفُوسُ.. وَهَذا يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُثَبَّتَ الإِنْسانُ نَفْسَهُ في هَذِهِ الدُّنْيا بِالعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ أَهْوالَ ذَلِكَ اليَوْمَ؛ قالَ تَعالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ إبراهيم: 27 .
فَنَسْأَلُ اللهَ تَعالَى أَنْ يَجْعَلَنا وَإِيَّاكُمْ - أَيُّها الإِخْوَةُ - مِنَ الآمِنِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى في هَذِهِ الدَّارِ وَفِي الآخِرَةِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقادِرُ عَلَيْهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ.. إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ في هَذا الحَدِيثَ مَرْحَلَتَيْنِ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَىَ أَنْ يَكُونَ في إِحْداهُما، ويُخْطِئُ وَيَظْلِمْ نَفْسَهُ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ دائِرَةِ هاتَيْنِ المرْحَلَتَيْنِ؛ المرْحَلَةُ الأُولَى: أَنْ يَكُونَ في الدُّنْيا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُسْتَعِدٌّ لِلرَّحِيلِ، يَنْتَظِرُ وَقْتَ انْقِضاءِ سَفَرِهِ وَانْقِضاءِ نَهْمَتِهِ لِيُعَجِّلَ السَّيْرَ إِلَى بَلَدِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَيْسَتْ هَذِهِ بَلادَهَمُ وَلا هَذا قَرارَهُمْ، بَلْ قَرارُهُمْ ما ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِقَوْلَهِ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ الشورى: 7 . هَذا مُنْتَهَى حالِ النَّاسِ؛ فَرِيقانِ: فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ.
فَيَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ هَذِهِ الغُرْبَةَ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْهُ عَلَى بالٍ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْهُ عَلَى خاطِرٍ، وَأَلَّا يَغْفَلَ بِما في هَذِهِ الدُّنْيا مِنْ مَلاهٍ وَمَلَذَّاتٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الملاهِي وَالعَوائِقَ تَغُرَّكَ وَتَمْنَعُكُ عَنْ مُواصَلَةِ سَيْرِكَ.
الأَمْرُ الثَّانِي أَوِ المرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِها هِيَ أَنْ يَكُونَ عابِرَ سَبِيلٍ؛ أَيْ: أَنْ يَكُونَ في حالِهِ وَشَأْنِهِ وَاسْتِعْدادِهِ لِلآخِرَةِ، وَاسْتِعْدادِهِ لِبُلِوغِ قَصْدِهِ كَذَلِكَ الَّذِي سارَ في طَرِيقٍ فاسْتَظَلَّ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ ذَهَبَ وَتَرَكَها..
أَيُّها الإِخْوَةُ.. إِنَّ عابِرَ السَّبِيلِ أَقَلُّ أَثْقالًا مِنَ الغَرِيبِ؛ فالغَرِيبِ قَدْ يَسْكُنُ، وَقَدْ يَسْتَقِرُّ لِبُرْهَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَقَدْ يَشْتَغِلُ بِما يَشْتَغِلُ بِهِ المقِيمُونَ، لَكِنَّ عابِرَ السَّبِيلِ مَظاهِرُ السَّفَرِ وَالتَّعَبِ عَلَيْهِ بادِيَةً، وَقَلْبُهُ بِسَفَرِهِ مَشْغُولٌ، لا يَأْنَسُ إِلَى أَحَدٍ، وَلا يَأْوِي إِلَى أَحَدٍ، بَلْ هَمُّهُ وَشُغْلُهُ في بُلُوغِ غايَتِهِ وَقَصْدِهِ، وُكُلُّنا يَسْعَى وَيَشْتَغِلُ لِلوُصُولِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتِ وَالأَرْضِ..
فالواجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَذِهِ الغايَةِ، وَأَنْ يَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِها، قالَ تَعالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذَّارِيات: 56 . هَذِهِ هِيَ غايَةُ الوُجُودِ، وَهَذا هُوَ المقْصُودُ مِنْ خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ، وَالإِنْسِ وَالجِنِّ، وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَىَ: تَحْقِيقُ العُبُودِيَّةِ للهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، فَهَلْ نَحْنُ مُشْتَغِلُونَ بِالغايَةِ لِنُدْرِكَ المطْلُوبِ، أَمْ نَحْنُ غافِلُونَ عَنْها فَيَفُوتُنا خَيْرٌ مَطْلُوبٌ؛ وَهُوَ الجَنَّةُ الَّتِي وَعَدَها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبادَهُ المتَّقِينَ.
إِنَّ المرْحَلَةَ الثَّانِيَةَ مَرْحَلَةٌ تَحْتاجُ إِلَى رِجالٍ، وَتَحْتاجُ إِلَى حُضُورِ قَلْبٍ وَدَوَامِ مُراقَبَةٍ وَدَوَامِ مُلاحَظَةٍ؛ بِأَلَّا يَغْفَلَ الإِنْسانُ؛ لأَنَّ المسافِرَ في سَفَرِهِ قَدْ يَشْتَغِلُ بَعْضَ الأَحْيانِ فِيما يُلْهِيهِ عَنْ بُلُوغِ مَقْصُودِهِ بِما يَعُوقُهُ عَنِ الوُصُولِ إِلَى مَكانِ إِقامَتِهِ وَقَرارِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ دائِمَ الملاحَظَةِ، دائِمَ المراقَبَةِ، دائِمَ العِنايَةِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ وَسِيْرِه وَقَصْدِهِ؛ هَلْ هُوَ عَلَى الجادَّةِ أَمْ أَنَّهُ مُتَخَلِّفٌ، هَلْ هُوَ ساعٍ في تَحْقِيقِ المقْصُودِ أَمْ أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ..
أَيُّها الإِخْوَةُ.. إِنَّ صَحابَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَيَّزُوا بِمَيْزَةٍ جَعَلَتْهُمْ خَيْرَ القُرُونِ، أَلا وَهِيَ سُرْعَةُ المبادَرَةِ وَالاسْتِجابَةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، فَكانُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ سَبَّاقِينَ إِلَى امْتِثالِ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَشَواهِدُ هَذا في سِيرَتِهِمْ كَثِيرَةٌ، فابْنُ عُمَرَ الَّذِي أَوْصاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ ذَكَرَ لَنا الغايَةَ في تَحْقِيقِ الغُرْبَةِ وَتَحْصِيلِ ما أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».
هَذِهِ الكِلِماتُ مِنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرْجَمَةٌ حَرْفِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ يُبَيِّنُ فِيها كَيْفَ تُحَقِّقُ وَصِيَّةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ الغايَةُ وَالمنْتَهَى في قِصَرِ الأَمَلِ؛ لأَنَّ المسافِرَ الَّذِي هُوَ عابِرُ سَبِيلٍ في الغالِبِ قَدْ يَحْتاجُ إِلَى الإِقامَةِ في مَكانٍ مِنَ الأَماكِشنِ لِيَسْتَرِيحِ وَيَنْشَطُ عَلَىَ سَفَرِهِ، لَكِنَّ إِقامَتَهُ لا تَدُومُ، بَلْ إِذا أَصْبَحَ لا يَنْتَظِرُ المساءَ في المكانِ الَّذِي أَقامَ فِيهِ فَيَمْشِي وَيُواصِلُ السَّيْرَ، كَذَلِكَ إِذا أَمْسَى لا يَنْتَظِرُ الصَّباحَ، بَلْ هُوَ مُسافِرٌ، ثُمَّ هُوَ في سَيْرِهِ يَغْتَنِمُ أَوْقاتَ عُمُرِهِ وَنَشاطِهِ وَقُوَّتِهِ فِي تَحْقِيقِ غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ، وَهِذا ما وَجَّهَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ»؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَيِّتٍ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَنْزِلُ بِهِمُ الأَمْراضُ، فاجْتِهادُهُمْ في وَقْتِ النَّشاطِ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَكُونُ مِنْ نَتِيجَتِهِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُمُ الأَجْرُ في حالَةِ المرَضِ؛ فَإِنَّ اللهَ مِنْ كَرَمِهِ وَواسِعِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسانِهِ وَبِرِّهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبادِهِ أَنَّهُ يَكْتُبُ لِلعامِلِ المرِيضِ أَوِ المسافِرِ مِثْلَ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا؛ كَما في حَدِيثِ أَبِي مُوسَى في الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (2996). .
فَيَنْبَغِي لِلعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ؛ فَإِنَّها مِنْ أَسْهَلِ الوَسائِلِ وَأَقْرَبِ الطُّرُقِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِها امْتِثالُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَمْرٌ لِكُلِّ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ خاصًّا بابْنِ عُمَرَ.
وَمِمَّا يُعِينُنا أَيُّها الإِخْوَةُ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ أَنْ نَتَلَمَّسَ تَرْجَمَةَ ضهَذا الحَدِيثَ في هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَيْهِ القُرْآنَ لِيُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، فَكانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيُهُ تَرْجَمَةٌ لما في القُرْآنِ، وَكانَ هَدْيُهُ وَفِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجَمَةٌ لما أَمَرَهُ اللهُ بِهِ، فَهُوَ السِّباقُ إِلَى الخَيْرِاتِ، فَما أَمَرَهُ اللهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَبادَرَ إِلَيْهِ، وَلا نَهاهُ عَنْ نَهْيٍ إِلَّا كانَ أَوَّلَ المنْتَهِينَ عَنْهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَما مَوْقِفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّنْيا؟
رَوَى الإِمامُ أَحْمَدُ في مُسْنِدِِهِ رقم (2744) . وَالتِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ رقم (2377). وَابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ رقم (4109) ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا». يَعْنِي: أَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُنِي عَلَى التَّعَلُّقِ بِها.
ثُمَّ بيَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ وَسَمْتَهُ وطَرِيقَتَهُ فَقالَ: «إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» يَعْنِي شَأْنِي شَأْنُ الرَّاكِبِ السَّائِرِ في طَرِيقِهِ، القاصِدِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الجِهاتِ.
فَهَذِهِ حالُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذِهِ الدُّنْيا، وَهَذا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ لَنا بَيانًا واضِحًا أَنَّ الحياةَ مَهْما كانَتْ في غايَةٍ مِنَ السَّعادَةِ.. وَرَسُولُ اللهِ كَما قَدَّمَنا قَبْل قَلِيلٍ أَسَعَدُ الخَلْقِ، أَسْعَدُ النَّاسِ، أَسْعَدُ بَنِي آدَمَ، مَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُدُّ هَذِهِ الدُّنْيا كالظِّلِّ الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِهِ السَّائِرُ في طَرِيقِهِ يَحْتَمِي بِهِ مِنَ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ أَنْ قالَ وَاسْتَراحَ لمواصَلَةِ سَيْرِهِ.
وَهَذا يُبَيِّنُ لَنا - أَيُّها الإِخْوَةُ - أَنَّ الدُّنْيا مَهْما طابَتْ فَهِيَ سَرِيعَةُ الرَّحِيلِ، سَرِيعَةُ الزَّوالِ، فَهِيَ دارٌ قَلِيلَةُ المكْثِ، فالواجِبُ عَلَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ في مَرْضاةِ رَبِّهِ، وَأَنْ يُبالِغَ في تَحْقِيقِ العُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ جَهْدَهُ وَطاقَتَهُ؛ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيَهِ.
قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بَيانِ وَصْفِهِ لِلدُّنْيا وَما فِيها، مَهْما بَلَغَتْ مِنَ النَّعِيمِ، وَمَهْما كانَ فِيها مِنَ البَهْرَجِ؛ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ رقم (2858). مِنْ حَدِيثِ المسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟».
هَذِهِ هِيَ الدُّنْيا بِما فِيها مِنَ الملَذَّاتِ وَما فِيها مِنْ أَنْواعِ التَّنَعُّماتِ، شَأْنُها شَأَنُ ذَلِكَ الَّذِي وَقَفَ عَلَى يَمٍّ ثُمَّ غَمَسَ يَدَهُ في اليَمِّ وَأَخْرَجَها، فَما الَّذِي يَعْلَقُ مُقارَنَةً بِما بَقِيَ في اليَمِّ؟ إِنَّهُ لا يُذْكَرُ، وَهَذا وَصْفٌ لِما يُمْكِنُ أَنْ يُحَصِّلَهُ الإِنْسانُ في هَذِهِ الدُّنْيا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَفُوتُهُ في الآخِرَةِ إِذا كانَ مِنَ المنعَّمِينَ وَمِمَّنْ حَصَلَ لَهُمْ الغايَةُ في التَّنَعُّمِ في هَذِهِ الدُّنْيا.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيُهُ تَرْجَمَةٌ لما في القُرْآنِ، وَبَيانٌ لِما حَواهُ كِتابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلِ اللهُ جَلَّ وَعَلا قالَ في كِتابِهِ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل: 44 . فَنَزَّلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذا القُرْآنَ عَلَىَ رَسُولِهِ لِيُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ لَعَلَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُمُ التَّفَكُّرُ وَالتَّذَكُّرُ.
وَإِذا نَظَرْنا إِلَى هَذِهِ السِّيرَةِ فَلا نَسْتَغْرِبُها إِذا عَلَمْنا أَنَّ هَذا القُرْآنَ مَمْلُوءٌ بِالتَّزْهِيدِ في الدُّنْيا وَبَيانِ حَقارَتِها وَخِسَّتِها وَانْقِطاعِها، وَأَنَّها دارٌ زائِلَةٌ، طَيْفٌ زائِلٌ، وَخَيالٌ عَمَّا قَلِيلٍ عابِرٌ، وَأَنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ القَرارِ، وَأَنَّها هِيَ المسْتَقَرُّ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقَفْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالَى في سُورَةِ الحَدِيدِ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ الحديد: 20 أَيْ: مَتاعٌ خادِعٌ، يُبَيِّنُ لَكَ ما لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، مَتاعٌ باطِلٌ، كاذِبٌ، فَهُوَ يُظْهِرُ صاحِبَهُ بِالسَّعادَةِ والمكانَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَقَلْبُهُ خالٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ هَذا الأَمْرَ وَجَّهَ إِلَى ما يَحْصُلُ بِهِ السَّلامَةُ مِنْ هَذا الغُرُورِ فَقالَ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ الحديد: 21 .
إِذَنْ سَبِيلُ السَّلامَةِ مِنْ غُرُورِ هَذِهِ الدُّنْيا هُوَ أَنْ يَجِدَّ الإِنْسانُ في تَحْقِيقِ العُبُودِيَّةِ، وَأَنْ يَِصلَ الإِنْسانُ عُمُرَهُ بِالطَّاعَةِ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ الدَّقِيقَ وَالجَلِيلَ عِنْدَ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، وَأَلَّا يَشْتَغِلَ بِما يَشْتَغِلُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الانْهِماكِ في هَذِهِ الدُّنْيا وَالإِقْبالِ عَلَيْها وَجَعَلَها في المرْتَبَةِ الأُولَى مِنَ الاهْتِماماتِ.
وَلَيْسَ المرادُ أَنْ يَنْقَطِعَ الإِنْسانُ عَنِ الدُّنْيا؛ فَإِنَّهُ لا قَوامَ لَهُ إِلَّا بِذَلِكَ، لَكِنَّ المرادَ أَلَّا تَكُونَ الدُّنْيا قَدْ تَخَلَّلتِ القَلْبَ وَتَرَبَّعَتْ في سُوَيْداءِ القَلْبِ، وَالمرادُ أَنْ يَكُونَ الإِنْسانُ مُشْتَغِلًا بِالطَّاعَةِ، عامِلًا فِيما يَرْضَي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، باذلًا طاقَتَهُ في تَحْقِيقِ مَرْضاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا مانِعَ أَنْ يَشْتَغِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيما يُقِيمُ بِهِ مَعاشَهُ، وَيُصْلِحُ بِهِ دُنْياهُ.
وَنَحْنُ لا نَدْعُو إِلَى زُهْدِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: دَعِ الدُّنْيا وَاهْجُرْها؛ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ بَلْ كانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَما في الصَّحِيحِ يَدَّخِرُ قُوتَ أَهْلِهِ لِسَنَةٍ البُخارِيُّ (5357)، وَمُسْلِمٌ (1757). ، وَكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُواعِدُ النَّاسَ وَيَجْلِسُ لَهُمْ وَيُخَطِّطُ لأَمْرِ مُسْتَقْبَلِهِمْ فِيما يَتَعَلَّقُ بِطاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيما يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيا.
لَكِنَّ الَّذِي نَذُمُّهُ وَالَّذِي يُخالِفُ مُقْتَضَى ما أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الغُرْبَةِ، هُوَ أَنْ يَشْتَغِلَ الإِنْسانُ بِهَذِهِ الدُّنْيا عَنِ الآخِرَةِ، وَأَن تَكُونَ هِيَ هَمَّهُ وَهِيَ مَحَلَّ اهْتِمامِهِ وَمَحَلَّ عِنايَتِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْها يُوالِي وَعَلَيْها يُعادِي، وَهِيَ الَّتِي بِها يُحِبُّ وَبِها يَكْرَهُ، وَلَها يُعْطِي وَلهَا يمَنْعُ، هَذا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نَسْلَمَ مِنْهُ، وَأَنْ نَصُونَ أَنْفُسَنا وَقُلُوبَنا وَمُجْتَمَعَنا مِنْهُ، وَإِذا كُنَّا كَذَلِكَ فَقَدْ حَقَّقْنا خَيْرًا كَثِيرًا.
إِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى تَحْقِيقِ ما أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى سُرْعَةِ انْقِضاءِ الدُّنْيا، فالدُّنْيا أَيُّها الإِخْوانُ سَرِيعَةُ الانْقِضاءِ، فَهِيَ مَراحِلُ تَنْقَضِي مَرْحَلَةٌ تُلْوَ مَرْحَلَةٍ، إِذا لَمْ يُدْرِكِ الإِنْسانُ هَذا الأَمْرُ غَفَلَ، وَإِذا غَفَلَ فاتَتْ عَلَيْهِ الخَيْراتُ، وَفاتَتِ الفُرَصُ، فَعُمُرُكَ فُرْصَةٌ لِلسَّبْقِ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوانِهِ، وَإِلَى المسارَعَةِ إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأَرْضُ، فاحْرِصْ عَلَى مَراحِلِ عُمُرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مَراحِلُ تُطْوىَ وَتَنْقَضِي، فَيَوْمُ أَمْسٍ شاهِدٌ عَلَيْكَ، وَيَوْمُكَ الحاضِرُ مَحَلُّ عَمَلِكَ، وَغَدًا قَدْ لا تُدْرِكُهُ، فَلا تَدْرِي أَتَكُونُ فِيهِ مِنَ الأَحْياءِ أَوْ لا تَكُونُ فِيهِ مِنَ الأَحْياءِ، فاعَمَلْ جادًّا في قَطْعِ المراحِلِ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، واعْلَمْ أَنَّ المراحِلَ تُطْوَىَ وَأَنْتَ لا تَشْعُرُ.. كُلُّنا لَوْ أَرادَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ ذاكِرَتَهُ وَذِهْنَهُ إِلَى ما قَبْلَ سَنَواتٍ قَرِيبَةٍ لِفاتَهُ الشَّيْءُ الكَثِيرُ وَقالَ: ما أَسْرَعَ تَقارُبَ الزَّمانِ وَتَعاقُبَ اللَّيالِي وَالأَيَّام،ِ لَكِنْ هَذا لا يَنْفَعْهُ إِذا كان لا يُحْدِثُ بِهِ إِقْبالًا عَلَى الطَّاعَةِ؛ تَصْحِيحًا لِلأَخْطاءِ، وَاسْتدِراكًا لما فاتَ، وَتَنْمِيَةً وَزِيادَةً للخَيْراتِ..
إِنَّ مَراحِلَ العُمُرِ تَنْقَضِي وَتَسِيرُ سَيْرًا حَثِيثًا، وَالعَجِيبُ أَنَّكَ لَوْ تَأَمَّلْتَها لَرَأَيْتَ مَنازِلَ تُطْوَى وَالمسافِرُ قاعِدٌ، هَذِهِ حالُ الدُّنْيا، اللَّيْلُ وَالنَّهارُ مَنازِلُ تُطْوَى وَتَنْقَضِي، وَالمسافِرُ أَنا وَأَنْتَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ قاعِدُ لا نَشْعُرُ بِهَذا السَّفَرِ.. وَمِنَ الغَرِيبِ العَجِيبِ أَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا، وَالواقِعُ أَنَّ تَعاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَصْبَحَ غِشاءً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ يُنْسِيهِ النَّهارَ ما كانَ في اللَّيْلِ وَيُلْهِيهِ لَيْلُهُ عَمَّا يَكُونُ في نَهارِهِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، فَأَصْبَحَ تَعاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فِتْنَةً لَهُ، لا ذِكْرَى وَعِبْرَةً.
نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ - أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ - أَنْ يَرْزُقَنا وَإِيَّاكُمُ العِلْمَ النَّافِعَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَجْعَلَنا مِنْ عِبادِهِ المتَّقِينَ المحَقِّقِينَ لأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَّةً، وَفِي هَذا الحَدِيثِ خَاصَّةً.