بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمَينَ، نَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، أَحَقُّ مَنْ حُمِدَ، وَأَجَلُّ مَنْ ذُكِرَ، لَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ، أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَحَيَّاكُمُ اللهُ أَيُّها الإِخْوَةُ وَالأَخْواتُ، فِي هَذا اللِّقاءِ الَّذِي تَنْظِمُهُ جَمْعِيَّةُ الزَّواجِ وَالتَّنْمِيَةِ الأُسَرِيَّةِ بِمُحافَظَةِ "رِياضِ الخَبراء"، وَعُنْوانُ هَذا اللِّقاءِ مُتَّصِلٌ بِمَوْضُوعِ هَذِهِ الجَمْعِيَّةِ وَعَمَلِها، إِنَّهُ الموَدَّةُ في الحَياةِ الزَّوْجِيَّةِ..
إِنَّ اللهَ - جَلَّ في عُلاهُ - جَعَلَ آياتِ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ، وَتَمامِ إِتْقانِهِ لِخَلْقِِهِ، وَهِيَ آياتٌ كَثِيرَةٌ مَسْمُوعَةٌ وَمَرْئِيَّةٌ وَمُشاهَدَةٌ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ نَوَّعَ هَذِهِ الآياتِ، فَلَيْسَتْ هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، إِنَّما هِيَ آياتٌ في السَّماءِ وَالأَرْضِ، وَفِي الأَنْفُسِ، وَفِيما يُشاهِدُهُ الإِنْسانُ مِنْ حَوْلِهِ، بَلْ حَتَّى في حَياتِِهِ الخاصَّةِ. وَاللهُ تَعالَى بَلَغَ الغايَةَ في إِقامَةِ الحُجَّةِ عَلَى خَلْقِهِ في الدِّلالَةِ عَلَيْهِ، وَبَيانِ عَظِيمِ ما لَهُ مِنَ الصِّفاتِ، فَنَوَّعَ الآياتِ، ثُمَّ قالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} سُورَةُ الذَّارِياتِ، الآيَةُ: 21 .
وَالنَّفْسُ هُنا لَيْسَتْ فَقَطِ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ المنْفَرِدَةَ، بَلْ إِنَّها تَشْمَلُ كُلَّ أَحْوالِ النَّاسِ في مَعاشِهِمْ وَتَصَرُّفاتِهِمْ، وَما أَقامَ اللهُ تَعالَىِ مِنْ دَلائِلِ إِتْقانِهِ، وَعَظِيمِ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الصِّلاتِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَهُناكَ صِلاتٌ مَعْقُولَةٌ وَمَعْرُوفَةٌ، كَصِلَةِ الوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ تَعالَى عَلَيْها القُلُوبَ، وَدَلَّتْ عَلَيْها العُقُولُ، فَالصِّلَةُ بَيْنَ الوَالِدِ وَالوَلَدِ مِنْ أَوْثَقِ الصِّلاتِ؛ إِذْ إِنَّ الوَلَدَ فَرْعٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَهُوَ بَضْعَةٌ مِنْهُ وَجُزْءٌ مِنْهُ، فَما يَكُونُ بَيْنَهُما مِنَ العَلاقَةِ مُبَرَّرٌ، وَمَفْهُومٌ ومُدْرَكٌ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ هَذِهِ العَلاقَةَ حَتَّى في غَيْرِ العاقِلِ مِنَ الخَلْقِ؛في الحَيَوانِ، فَتَجِدُ مِنْ حُنُوِّ الوَالِدِ عَلَىَ ولَدِهِ، وَقِيامِهِ عَلَيْهِ وَرِعايَتِهِ لَهُ، وَسَعْيِهِ لِمَصالِِحِهِ، ما يَشْهَدُ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ الخالِقِ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَأَنَّ المدَبِّرَ لِذَلِكَ هُوَ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ؛ لأَنَّ هَذا الخَلْقَ جَمِيعَهُ يَجْتَمِعُ عَلَىَ هَذِهِ الفِطْرَةِ الَّتِي بِها يُحْفَظُ الجِنْسُ، وَبِها يَسْتَمِرُّ الخَلْقُ، فَرِعايَةُ الوالِدِ لِوَلَدِهِ سَبَبُ مِنْ أَسْبابِ بَقاءِ الجِنْسِ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ وَالِدٍ بَعْدَ وِلادَةِ وَلَدِهِ انْقضطَعَتْ صِلَتُهُ عَنْهُ، وَبُتِرَ وَصْلُهُ بِهِ، لَكانَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا بِهَلاكِ العالَمِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَنْ جَعَلَ هَذا التَّواصَلَ الفِطْرِيَّ، الَّذِي لا يَنْفَكُ مِنْهُ الِإنْسانُ، لا يَدْعُو إِلَيْهِ ِدينٌ في الأَصْلِ، وَلا يَدْعُو إِلَيْه خَلْقٌ، إِنَّما تَدْعُو إِلَيْهِ سُنَّةُ أَجْرَىَ اللهُ عَلَيْها الكَوْنَ وَفَطَرَهُ، فَفَطَرَ اللهُ َتعالَى الخَلْقَ عَلَيْها، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} سُورَةُ الرُّومُ، آية: 30 . .
إِنَّ الصِّلاتِ مُتَنَوِّعَةً، لَكِنْ مِنْ أَعْجَبِها صِلَةُ الرَّجُلِ بِالمرْأَةِ. وَتَقارُبِ هَذَيْنِ الجِنْسَيْنِ دَلَيلٌ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} سُورَةُ الرُّومِ: الآية 21 . .
وَقَفْةٌ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: اللهُ تَعالَى جَعَلَ مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِقائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَيْنَ مَظاهِرُ الآيَةِ في هَذِهِ الصِّلَةِّ؟ وَكَيْفَ كانَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى هَذا النَّحْوِ آيَةً مِنْ آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟
فَأَقُولُ: اسْتَمِعْ إِلَى ما ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عِنْدما تَكَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، في بَيانِ وَجْهِ كَوْنِ هَذِهِ الصَّلَةَ مِنْ آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الدَّالَّةَ عَلَىَ عَظِيمِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ إِتْقانِهِ لِخَلْقِِهِ، جَلَّ في عُلاهُ.
إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَطَرَ القُلُوبَ عَلَى اسْتِنْكارِ الغَرِيبِ، وَلِذَلِكَ إِذا اسْتَغْرَبَ الإِنْسانُ شَيْئًا مِمَّنْ حَوْلَهُ لَفَتَ نَظْرَهُ، لَكِنْ في هَذِهِ الصِّلَةِ تَتَلاشَىَ كُلُّ تِلْكَ الغَرائِبِ الَّتِي أَلِفَها النَّاسُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالصِّلاتِ بَيْنَهُمْ، فَتَجِدُ المرْأَةَ في بَيْتِ أَبَوَيْها تَنْشَأُ بَيْنَ إِخْوانِها وَأَهْلِها، لا تَرْضَى بِهِمْ بَدَلًا، ثُمَّ يَأْتِي رَجُلٌ غَرِيبٌ لا تَعْرِفُهُ، وَلا تَرْبِطُها بِهِ صِلَةٌ في غالِبِ الأَحْوالِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، هُوَ في كُلِّ الأَحْوالِ يَحْمِلُ نَوْعًا مِنَ الغَرابَةِ عَنْها، لَيْسَ مِمَّنْ تَأْلَفُهُمْ وَتَعْرِفُهُمْ مِنْ صِغَرِها، هَذا غالِبُ أَحْوالِ الأَزْواجِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ المرْأَةَ تَقْبَلُ الارْتِباطَ بِهَذا الرَّجُلِ، وَتَتْرُكُ أَعَزَّ النَّاسِ صِلَهً بِها، وَأَوْثَقُ النَّاسِ عَلاقَهً بِها، تَتْرُكُ أُمَّها وَأَباها، وَإِخْوانِه وَأَخَواتِها وَأَهْلَها، وَتَرْضَىَ أَنْ تَنْتَقِلَ مَعَ هَذا الرَّجُلِ الغَرِيبِ، في اتِّصالٍ غَيْرِ مُعْتادٍ، لا يَكْتَفِي فَقَطْ بِالوَصْلِ المعْتادِ الَّذِي أَلِفَتْهُ في صِلَتِها مَعَ أَبِيها وَأَخِيها وَأُمِّها، وَمِنْ حَوْلِها، إِنَّها أَوْثَقُ صِلَةً {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 187، فَقُرْبُها مِنَ الرَّجُلِ الغَرِيبِ الَّذِي جاءَها قُرْبٌ كَقُرْبِ اللِّباسِ مِنَ البَدَنِ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ فاصِلٌ بَيْنَ البَدَنِ وَاللِّباسِ، هَذا الاتِّصالُ هُوَ مِنْ آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَيْفَ قَبِلَتِ المرْأَةُ بِهَذا، ثُمَّ كَيْفَ قَبِلَ الرَّجُلُ بِهَذا الوَصْلِ، وَلماذا كانَتْ هَذِهِ العَلاقَةُ عَلَى هَذا النَّحْوِ مِنَ الخُصُوصِيَّةِ؟ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّها الفِطْرَةُ الَّتِي رَكَزَها اللهُ تَعالى في نُفُوسِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَنَّ الزَّواجَ لا يَخْتَصُّ بِدِينٍ مِنَ الأَدْيانِ، وَلا بِفِئَةٍ مِنَ البَشَرِ، بَلْ كُلُّ البَشَرِ، عَلَى اخْتِلافِ أَجْناسِهِمْ، وَتَفَنُّنِ أُصُولِهِمْ، وَاخْتِلافِ أَدْيانِهِمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى هَذا النَّوْعِ مِنَ الارْتِباطِ، وَلَهُ مِنَ القُدُسِيَّةِ وَالمكانَةِ وَالاحْتِرامِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ العَلاقاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الرُّوم: 30 .. إِنَّ صِلَةَ الرَّجُلِ بِالمرْأَةِ آيَةٌ مِنْ آياتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَحَدُ البَراهِينِ الدَّالَّةِ عَلَىَ عَظِيمِ إِتْقانِ الرَّبِّ - جَلَّ في عُلاهُ - لِخَلْقِهِ، وَبَدِيعِ صُنْعِهِ في كَوْنِهِ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ وَتَفَكَّرَ في هَذِهِ الصِّلَةِ وَهَذِهِ العَلاقَةِ وَقَفَ عَلَى أَلْوانٍ كَثِيرَةٍ، وَصُنُوفٍ عَدِيدَةٍ مِنَ الدَّلائِلِ وَالبَراهِينِ؛ الَّتِي تَصْدُقُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعالِى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} سُورَةُ الرُّومِ: الآية 21 . وَالزَّوْجُ هُوَ القَرِينُ، وَهُوَ الشَّفِيعُ، وَهُوَ الملاصِقُ لِلشَّيْءِ، لَكِنْ ذَلِكَ لا يَكْفِي في اسْتِمْرارِ الصِّلَةِ، بَلْ جَعَلَ اللهُ تَعالَى مِنْ أَسْبابِ اسْتِمْرارِ الصِّلَةِ وَدَيْمُومَتِها ما يُبِقِي هَذِهِ العَلاقَةَ، وَيُحافِظُ عَلَيْها، وَلِذَلِكَ قالَ جَلَّ وَعَلا: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} سُورَةُ الرُّومِ: الآية 21 . . هَذانِ هُما عُنْصِرا أَيِّ عَلاقَهِ زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ سَلِيمَةٍ، فَلا يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى بَيْتٌ زَوْجِيُّ، وَعَلاقَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، في ظِلِّ الزَّوْجِيَّةِ، عَلَى وَجْهٍ تَتَحَقَّقُ بِهِ السَّعادَةُ لِلأَطْرافِ، وَتَسْتَقِيمُ بِهِ الحَياةُ لِهذا المكَوِّنِ وَهَذِهِ النَّواةُ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْها المجْتَمَعُ، إِلَّا بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، فَمَتَى نَقَصا نَقَصَ الخَيْرُ في الأُسْرَةِ، وَنَقَصَ الاسْتِقْرارُ، وَنَقَصَتِ الطّمََأْنِينَةُ، وَإِذا زالا تَهَدَّمَ البُنْيانُ، حَتَّى لَوْ كانَ في الظَّاهِرِ قائِمًا، فَإِنَّهُ سَيَتَهَدَّمُ في الحَقِيقَةِ، وَفِي المعْنَى، وَفِي الجَوْهِرِ، وَلَوْ حُوفِظَ عَلَى الصِّلاتِ ظاهِرِيًّا، فَمِآلهَا إِلَى أَنْ تَزُولَ كَشَجَرِةٍ قُطِعَ عَنْها الماءُ، فَتَقُومُ فَتْرَةٌ مِنْ الزَّمَنِ وَتُقاوِمُ عَوامِلَ التَّعْرِيَةِ، وَالمتَغَيِّراتِ المناخِيَّةِ، مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِها، لَكِنْ في النِّهايَةِ تَجِفُّ أَغْصانُها وَيَيْبَسُ ساقُها، وَتَجْرِفُها أَدْنَى رِيحٍ يُمْكِنُ أَنْ تُصادِفَها، هَكَذا هِيَ الصِّلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذا جَفَّ هَذانِ الأَمْرانِ؛ الموَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ.
فَما هِيَ الموَدَّةُ وَماهِيَ الرَّحْمَةُ اللَّتَيْنِ عَلَيْهِما تُقامُ الحيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ؟
الموَدَّةُ هِيَ خالِصُ الحُبِّ، وَالموَدَّةُ ِهيَ مَشاعِرُ فَيَّاضَةٌ، باِلانْجِذابِ وَالميْلِ إِلَى الطَّرَفِ الآخَرِ. وَلِذَلِكَ قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّ المودِّةَ خُلاصَةُ الحُبِّ وَغايَتُهُ. وَلِهَذا لا يُعاب حُبُّ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَّا يَسْتَحِي أَنْ يَقُولَ: أَنا أُحِبُّ زَوْجَتِي، أُحِبُّ امْرَأَتِي، وَكَذَلِكَ المرْأَةُ قَدْ تَسْتَحِي أَنْ تَقُولَ: أَنا أُحِبُّ زَوْجِي، وَفِي الرِّجالِ الحَياءُ مِنْ هَذا الأَمْرِ أَكْثَرُ، لَكِنَّ الواقِعَ أَنَّ الفِطْرَةَ المسْتَقِيمَةَ لا تَتَوانِى وَلا تَتَرَدَّدْ في الإِخْبارِ عَنْ هَذا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَكْمَلُ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَعْظَمُ النَّاسِ مَسْلَكاً، فِي تَحْقِيقِ المرُوءَةِ، وَالسَّلامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ، كانَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما سُئِلَ عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ: «عَائِشَةُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3890)، وَابْنُ ماجَهْ (101) ، ثُمَّ قالَ في خَدِيجَةَ وَهِيَ أَوَّلُ زَوْجاتِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» أخرجه مسلم (2435). ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ حُبَّ الأَزْواجِ لِزَوْجاتِهِمْ فِطَرَةً، وَلِذَلِكَ قالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ» أَخْرَجَهُ النَّسائِيُّ (3939) . .
وَلَيْسَ هَذا دَعْوَةٌ إِلَى فَتْحِ المجالِ لِعَلاقاتٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ تَسْوِيغِ صِلاتٍ مُنْحَرِفَةً، إِنَّما هَذا بَيانٌ لِفَطْرَةٍ فَطَرَ اللهُ تَعالَى عَلَيْها قُلُوبَ الرِّجالِ تَجاهَ النِّساءِ، لا بُدَّ مِنْ مُراعاتِها، وَمَعْرِفَةِ المساقاتِ وَالمساراتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي مِنْ خِلالِها نَعْبُرُ عَنْ هَذا الحُبِّ. وَيُتَرْجِم هَذا الحُبَّ حِينَما تُغْلَقُ تِلْكَ الطُّرُقُ وَتُوصَدُ تِلْكَ الأَبْوابُ، فَثِقْ تَمامًا أَنَّ هَذِهِ العاطِفَةَ سَتَكُونُ كالماءِ، وَسَتَتَسَرَّبُ مِنْ هُنا أَوْ مِنْ هُناكَ، لِتَجِدَ لَها مَسْلَكًا، وَإِنْ لَمْ تُوجَدُ مَساراتٍ وَمَجارٍ لِتَنْفِيسِ النُّفُوسِ عَنْ هَذا الشُّعُورِ الفِطْرِيِّ فَإِنَّها سَتَنْحَرِفُ بِلا شَكٍّ، إِلَّا أَنْ يَعْصِمَ مِنْ ذَلكَ عاصِمُ التَّقْوَىَ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ في كَثِيرٍ مِنَ النَّاسَ.
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَنا كَيْفَ تَتَحَقَّقُ الموَدَّةُ تَرْجَمَةً عَمَلِيَّةً في سُلُوكِهِ وَخُلُقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَوْلٍ دُونَ عَمَلٍ، بَلْ كانَ ذَلِكَ بِالقَوْلِ المشْفُوعِ بِالعَمَلِ، أَوِ المقْتَرِنِ بِالسُّلُوكِ المسْتَقِيمِ، الَّذِي نَقَلَهُ أَزْواجُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ، في بَيانِ ما كانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ تَمامِ المراعاةِ لِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحْقِيقِ الموَدَّةِ بَيْنَ الأَزْواجِ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُعَبِّرُ عَنْ مَشاعِرِهِ بِصِدْقٍ، فَيُخْبِرُ بِمَحَبَّةِ أَزْواجِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.. وَهُنا نَعْرِفُ مِفْتاحًا مِنْ مَفاتِيحِ تَحْقِيقِ الموَدَّةِ: أَلَّا تَكُونَ شَحِيحًا في التَّعْبِيرِ عَنْ مَشاعِرِكَ، وَذَلِكَ بِالنَّسْبَةِ لِلرَّجُلِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلمَرْأَةِ، فَعِنْدَما تَفِيضُ في قَلْبِكَ مَشاعِرُ إِيِجابِيَّةٌ تِجاهَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَبادِرْ إِلَى إِخْبارِهِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ مَنْ تُصْبَحُ وَتُمْسِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مَنْ يَكُونُونَ أَلْصَقَ النَّاسِ بِكَ، فَإِنَّ صُحْبَةَ هَؤُلاءِ أَوْلَى بِالبِرِّ وَالاسْتِقامَةِ وَالإِحْسانِ مِنَ البَعِيدَيْنِ، وَلِذَلِكَ لما سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (5971)، وَمُسْلِمٌ (2548) وَفِي رِوَايَةَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2548/ 2) .
إِنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ المشاعِرِ ضَرُورَةٌ، لا سِيَّما في زَمَنٍ أَصْبَحَ اصْطِيادُ النَّاسِ مِنْ خِلالِ الكَلِماتِ المعْسُولَةِ المحْبُوبَةِ لِلنُّفُوسِ، سَواءٌ الرِّجالُ أَوِ النِّساءُ، وَأَنا لا أَتَكَلَّمُ عَنْ جانِبِ الرِّجالِ فَقَطْ، بَلْ حَتَّى النِّساءَ أَحْيانًا، فَفِي عُرْفٍ اجْتِماعِيِّ وَوَضْعٍ مُعَيَّنٍ تَشِحُّ بِكَلِماتٍ تُعَبِّرُ بِها عَنْ مَشاعِرِها لِزَوْجِها، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ هُناكَ جَفافٌ في الصِّلَةِ وَالعَلاقَةِ، وَإِذا جَفَّتِ الصِّلَةُ وَالعَلاقَةُ فَمَهْما كانَ الإِنْسانُ عَلَى مَحَبَّةٍ في قَلْبِهِ، سَيَجِدُ أَنَّ هَذا الجَفافَ مُؤَثِّرٌ في عَلاقَتِهِ بِزَوْجِهِ.
وَلِذَلِكَ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، أَوِ القَوْلُ الحَسَنُ، هُوَ مِفْتاحٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ المشاعِرِ، وَاللهُ تَعالَى يَقُولُ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} سُورَةُ البَقَرَةُ، الآيَةُ: 83 . وَهَذا يَتَفاوَتُ بِتَفاوُتِ النَّاسِ؛ فَالقَرِيبُ لَهُ مِنَ الحُسْنِ ما لَيْسَ لِلبَعِيدِ، وَكَذَلِكَ لَهُ مِنَ الحَقِّ في التَّعْبِيرِ عَنِ المشاعِرِ ما يَسْتَحِقُّهُ، مِمَّا يُدِيمُ الصِّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ.
وَلِهَذا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أَخْبَرَهُ رَجَلٌ مِنْ أَصْحابِهِ فَقالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلَمْتَهُ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «أَعْلِمْهُ» قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (5125) . .
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنا وَوَجَّهَنا إِلَى أَنْ نُبْدِي المشاعِرَ الحَسَنَةَ تِجاهَ إِخْوانِنا، وَكَذَلِكَ البُعَداءُ، الَّذِينَ لا تَرْبِطُنا بِهِمْ صِلَةُ قَرابَةٍ وَلا أَيُّ صِلٍَة غَيْرُ حُبِّ شَخْصٍ في اللهِ، لِطاعَتِهِ وَإِحْسانِهِ وَصَلاحِهِ، وَما تَراهُ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ، فَتُخْبِرُهُ، وَإِخْبارُكَ لَهُ سُنَّةٌ تُدِيمُ الوُدَّ بَيْنَ المؤْمِنِينَ، وَتُحَقِّقُ مَعْنَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات: 10 ..
إِنًّ ما يُحَقِّقُ الموَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَدَمَ البُخْلِ بِالمشاعِرِ، وَالإِخْبارِ بِحَقِيقَةِ ما تَجِدُهُ في نَفْسِكَ إِذا كُنْتَ تُحِبُّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُحِبُّ فَلا مانِعَ أَنْ تُخْبِرَ بِمشاعِرَ طَيِّبَةٍ لا تُخالِفُ الواِقعَ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَقْرِيبُ وَشَحْنُ هَذِهِ العَلاقَةِ بِما يَكُونُ سَبَبًا لاسْتِصْلاحِها وَدَوامِها وَاسْتِقامَتِها.. إِنَّ مِنْ فَوائِدِ الإِخْبارِ بِالمشاعِرِ الطَّيِّبَةِ إِضافَةً إِلَى تَحْقِيقِ الموَدَّةِ الإِشباعَ العاطِفِيَّ، وَأَنا أَقُولُ يا إِخْوَةَ ويا أَخَواتِ: إِشْكِالِيَّةٌ كُبْرَى يُعانِي مِنْها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الفَراغُ العاطِفِيُّ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ مَعَ زَوْجَتِهِ، وَالمرْأَةُ مَعَ زَوْجِها، يَأْكلانِ وَيَشْرَبانِ، وَلَيْسَ هُناكَ نَقْصٌ لا في مَسْكَنٍ وَلا في مَشْرَبٍ، وَلا في مَلْبَسٍ، لَكِنْ هُناكَ أَمْرٌ غائِبٌ بَيْنَهُما، وَهُوَ الإِشْباعُ العاطِفِيُّ، بِمَعْنَى أَنَّ المرْأَةَ تَشْعُرُ بِأَنَّ زَوْجَها لا يُعْطِيها كُلَّ ما تَحْتاجُ إِلَيْهِ مِنَ المشاعِرِ، في المقابِلِ الرَّجُلُ يَجِدُ أَنَّ امْرَأَتَهُ تَهْتَمُّ بِمَلْبَسِهِ، وَتَهْتَمُّ بِمَشْرَبِهِ، وَتَهْتَمُّ بِمَأْكَلِهِ، لَكِنْ لا تُعْطِيهِ ما يَحْتاجُهُ نَفْسِيًّا، فَالحاجةُ لِلإِشْباعِ العاطِفِيِّ أَمْرٌ نَفْسِيِّ، لا يَتَعَلَّقُ بِالملْبَسِ وَالمأْكَلِ وَالمشْرَبِ، وَإِنَّما تَتَعَلَّقُ بِالسَّكَنِ، الَّذِي قالَ فِيهِ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} سُورَةُ الرُّومِ، الآية: 21 . ، فَلا بُدَّ مِنَ السَّكَنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَالسَّكَنُ طُمَأْنِينَةٌ، وَالسَّكَنُ انْشِراحٌ، وَالسَّكَنُ كِفايَةٌ، وَلا يَتَحَقَّقُ هَذا إِلاَّ بِبَذْلِ كُلِّ سَبَبْ مِنَ الأَسْبابِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ لِتَحْقِيقِ الإِشْباعِ العاطِفِيِّ..
وَهَذا الكَلامُ بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ عِنْدَما يَسْمَعُهُ: ما عَهِدْناهُ في آبائِنا، وَما سَمِعْناهُ في أَهْلِنا، فَنَقُولُ: غَيْرُ صَحِيحٍ، إِنَّا نَتَحاكَمُ إِلَى النُّصُوصِ الشَّرِعِيَّةِ فِيما نَعْرِفُه وَفِيما عِشْناهُ، وَفِيما أَدْرَكْنا عَلَيْهِ آباءَنا، قَدْ يَكُونُ هُناكَ خَطَأٌ ناتِجٌ عَنْ طَبِيعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، قَدْ يَكُونُ هُناكَ ما جَدَّ في حَياةِ النَّاسِ، مِمَّا يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُعِيدَ النَّاسُ النَّظَرَ في طَرِيقَةِ تَعامُلِهِمْ، وَفِي طَرِيقَةِ تَعاطِيهِمْ مَعَ أَهْلِيهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَزَوْجاتِهِمْ لِتَحْسِينِ العَلاقَةِ، لا سِيَّما أَنَّ اليَوْمَ مَلِيءٌ بِالمصائِبِ الَّتِي تُخْتَطَفُ فِيها مَشاعِرُ النَّاسِ مِنَ الرِّجالِ وَمِنَ النِّساءِ، فَشَبَكاتُ التَّواصُلِ عَلَى سَيِبلِ المثالِ، وَهِيَ نَمُوذَجٌ مِنَ النَّماذِجِ، الَّتِي لا يَخْلُو مِنْها الإِنْسانُ في الغالِبِ، هِيَ مِنَ البِيَئةِ الخَصْبَةِ الَّتِي يَجِدُ فِيها بَعْضُ النَّاسِ إِشْباعًا عاطِفِيًّا مِنْ خِلالِ عَلاقاتٍ مُحَرَّمَةٍ، تَكُونُ ناتِجَةً عَنْ فَراغٍ عِنْدَ الرَّجُلِ، وَعَدَمِ إِشْباعٍ عِنْدَ المرْأَةَ في الجانِبِ العاطِفِيِّ، وَهُوَ ما يُسَبِّبُ هَذا الِإشْكالَ.
وَأَنا أَقُولُ بِالتَّجْرِبَةِ، وَكَلامِ المخْتَصِّينَ مِنَ الخُبَراءِ: إِنَّ 90% مِنَ المشاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ تَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ القَضِيَّةِ، قَضِيَّةِ عَدَمِ الإِشْباعِ العاطِفِيِّ، وَلَكِنْ لما كانَ الأَمْرُ يَصْعُب التَّعْبِيرُ عَنْهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ، وَقَدْ لا يَسْتِطِيعُونِ تَشْخِيصَ المشْكِلَةِ، وَقَدْ لا يَسْتَطِيعُونَ التَّحْدِيدُ الصَّحِيحُ لما يُعانُونَهُ، تَذْهَبُ المشاكِلُ في فُرُوعٍ وَظَواهِرَ وَأَعْراضٍ، وَتَغْفَلُ عَنِ الجَوْهَرِ وَالأَساسِ، فَتَجِدُ المرْأَةَ تَشْكُو مِنْ زَوْجِها أَنَّهُ كَثِيرُ الخُرُوجِ، وَتَجِدُ الرَّجُلَ يَشْكُو مِنْ زَوْجَتِهِ أَنَّها لا تَهْتَمُّ بِهِ، وَالَّذِي يَشْغَلُها الذَّهابُ وَالمجِيءُ وَكَثِيرٌ مِنَ المشاكِلِ الَّتِي هِيَ في الحَقِيقَةِ أَعْراضٌ وَلَيْسَتْ مَشاكِلُ أَساسِيَّةٌ.
وَإِذا فَتَّشْتَ وَجَدْتَ أَنَّ ثَمَّةَ إِشْكالٍ في العَلاقَةِ الخاصَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لَكِنْ لما كانَ النَّاسُ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يُتَرْجِمُوا وَأَنْ يُفْصِحُوا عَنْ تِلْكَ الإِشْكالاتِ، تَذْهَبُ تِلْكَ التَّفْسِيراتُ وَالتَّبْرِيراتُ إِلَى المشاكِلِ بِالأَوْلادِ، بِالأَهْلِ، بِالوالِدَيْنِ، لِتَقْصِيرِ الزَّوْجِ في نَفَقَةٍ... وَما إِلَى ذَلِكَ مِمَّا تُعْتَبَرُ مَشاكِلُ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ قَدْ تَكُونُ مُعاناةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَلافاها الزَّوْجانِ، فَإِذا أَقاما بَيْنَهُما الموَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ اسْتَطاعَ الزَّوْجانِ أَنْ يَخْتَصِرا كثِيرًا مِنَ الإِشْكالاتِ، وَأَنْ يَتَجاوَزا كَثِيرًا مِنَ المعاناةِ الَّتِي تُعانِيها أَكْثَرُ الأُسَرِ، الَّتِي قَدْ يَظْهَرُ أَنَّها لَيْسَ عِنْدَها مُشْكِلَةٌ، وَهِيَ تَعِجُّ بِأَنْواعٍ مِنَ المشاكِلِ، وَتَعْصِفُ بِها أَنْواعٌ مِنَ الاضِّطراباتِ الَّتِي تَنْعَكِسُ عَلَى الأَطْفالِ، وَعَلَىَ الأُسْرَةِ، وَبِالتَّالِي عَلَى المجْتَمَعِ كَكُلٍّ.
إِنَّ مِنْ أَسْبابِ تَحْقِيقِ الموَدَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنَ تَقْوَىَ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَقَدْ يَقُولُ قائِلٌ: ما صِلِتَهُ بِتَحْقِيقِ الموَدَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؟
أَقُولُ: التَّقْوَىَ مِنْ أَعْظَمَ ما يُحَقِّقُ الموَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لأَنَّ تَقْوَى اللهِ تَعالَى مِفْتاحُ صَلاحِ الدُّنْيا، وَاسْتِقامَةُ الآخِرَةِ، وَلِهَذا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ التَّقْوَى في أَوَّلِ آيَةٍ في سُورَةِ النِّساءِ، فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سُورَةُ النِّساءِ، الآيَةَ: 1 . فَأَعادَ الأَمْرَ بِالتَّقْوَىَ لِضَرُورَتِهِ وَأَهِمِيَّتِهِ مَرَّتَيْنِ.
إِنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ لِوُجُودِ مُراقِبٍ خارِجِي؛ شُرَطِيٌّ يُتابِعُ أَوْ أَبٌ يُراقِبَ، أَوْ أُمٌّ تُتابِعُ وَتَنْظُرُ وَتُشاهِدُ.. إِنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَسْتَقِيمُ بِأَنْ يَسْتَشْعِرَ كُلُّ طَرَفٍ مِنْ هَذِهِ العَلاقَةِ بِرَقابَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ اللهُ تَعالَى هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وَرِقابَةُ اللهِ جَلَّ وَعَلا تُوجِبُ التَّقْوَى، وَلِذَلِكَ انْظُرُوا إِلَى الآياتِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعالَى فِيها الطَّلاقَ، فَلَيْسَ هُناكَ آيَةٌ ذَكَرَ اللهُ فِيها الطَّلاقَ إِلَّا ذَكَرَ فِيها مِنْ أَسْمائِهِ وَصِفاتِهِ ما يُوجِبُ خَوْفَهُ وَخَشْيَتَهُ وَمُراقَبَتَهُ في شَأْنِ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَلِذَلِكَ يا إِخْوَتِي تَقْوَى اللهِ تَعالَى سَبَبٌ لاسْتِقامَةِ العَلاقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذا اتَّقَىَ الزَّوْجانِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، فُتِحَتْ لَهُما أَبْوابُ الصَّلاحِ، وَلِهَذا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَتِهِ في صَحِيحِ الإِمامِ مُسْلِمٍ رَقَم (1218) عَنْ جابِرٍ؛ خُطْبَةُ الوَداعِ، قالَ: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» يَذْكُرُ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الصِّلَةِ ابْتَداؤُها وَانْتِهاؤُها وَدَوامُها هُوَ في مُراقَبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَجِبُ أَنْ يُراقَبَ اللهُ جَلَّ وَعَلا في الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِتَسْتَقِيمَ الحالُ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَّدَ هَذا المعْنَى، وَأَكَّدَهُ القُرْآنُ، وَلِذَلِكَ تَقْوَى اللهِ سَبَبٌ لِلسَّعادَةِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سُورَةُ الأَعْرافِ، الآيَة:ُ 96 ، كَما أَنَّ هَذا في صَلاحِ الأُمَّةِ وَمَجْمُوعِها، كَذَلِكَ هُوَ في صَلاحِ الأَفْرادِ، فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اتَّقَوُا اللهَ حَقَّ تَقْواهُ، لاسْتَقامَتِ الصِّلَةُ بَيْنَهُمْ، فَلا تَجِدُ مُعاناةٍ، وَلا تَجِدُ إِسْرافًا، وَلا تَجِدُ أَذَى، وَلا تَجِدُ بَغْيًا، وَلا تَجِدُ عُدْوانًا، فَتَجِدُ إِمَّا إِمْساكًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْريحًا بِإِحْسانٍ، هَكَذا تَدُورُ الصِّلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذا اتَّقَيا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِنْ أَسْبابِ الموَدَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ذِكْرُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النِّساءِ، وَهَذا الخِطابُ مَوَجَّهٌ لِلرِّجالِ ابْتدَاءً؛ لأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ زِمامَ المبادَرَةِ في الإِصْلاحِ، وَهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمْ حَلُّ العَقْدِ أَوْ إِبقاؤُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ القَوامَةَ عَلَى هَذِهِ الرَّابِطَةُ لإِصْلاحُها، وَلِذَلِكَ جاءَتِ التَّوْجِيهاتُ في أَكْثَرِ الآياتِ إِلَى الرِّجالِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ».
وَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في خُطْبَتِهِ أَيْضًا في يَوْمِ عَرَفَةَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (1163) . .
كُلُّ ذَلِكَ لِكَوْنِ الرَّجُلِ عَلَيْه ِمَسْئُولِيَّةٌ زائِدَةٌ عَنِ المرْأَةِ في إِصْلاحِ الأُسْرَةِ وَإِقامَتِها، وَالمحافَظَةِ عَلَيْها، وَتَحْقِيقِ الوُدِّ وَالصَّلاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالنَّبْيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ خَيْرِيَّةَ الرَّجُلِ مَقْرُونَةً بِخَيْرِيَّتِهِ لأَهْلِهِ، وَهَذا مِنْ وَصِيَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّساءِ، وَهُوَ ما يُحَقِّقُ الموَدَّةَ، أَنْ جَعَلَ المعْيارِ الَّذِي يُقاسُ بِهِ فُلانٌ: وَنِعْمَ فُلانُ، فُلانٌ جَيِّدٌ، فُلانُ طَيِّبٌ، هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى عَلاقَتِهِ بِأَهْلِهِ.. وَأَنا أَسْأَلَكُ الآنَ: نَحْنُ في مِيزانِ الثَّناءِ عَلَىَ النَّاسِ، هَلْ يَحْضُرُ في أَذْهانِنا صِلَةِ الرَّجُلِ بِأَهْلِهِ كَمِعْيارٍ مِنْ مَعايِيرِ تَقْييمِ النَّاسِ؟ ما يَحْضُرُ في أَكْثِرِ أَذْهانِ النَّاسِ عَلاقَةُ الرَّجُلِ بِأَهْلِهِ، فَهِيَ غائِبَةٌ تَمامًا عَنْ أَنْ تَكُونَ حاضِرَةً، وَلَوْ بِنِسْبٍَة يَسِيرَةٍ في مِعْيارِ الخَيْرِيَّةِ، فَالمعْمُولُ بِهِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مِعْيارَ الخَيْرِيَّةِ بِالأَشْياءِ الظَّاهِرَةِ؛ مِثْلِ الصَّلاةِ، وَهِيَ كُلُّها مَعايِيرِ، لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ المعايِيرَ الكَافِيَةَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْها في التَّقْوِيمِ الإِجْمالِي، النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ثُمَّ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (4682)، وَالتِّرْمِذِيُّ (1162) . . وَإِذا كانَ الرَّجُلُ خَلُوقاً مَعَ المرْأَةِ، حَسَنَ الصِّلَةِ بِها وَيُراعِيها، فَقَدْ يَكُونُ مَحَلاًّ لِلاسْتِهْزاءِ أَوْ التَّهَكُّمِ أَوِ النَّيْلِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِقَوْلِهِمْ: امْرِأَتُه مُسَيْطِرَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ ما إِلَى ذَلِكَ، مِمَّا يُنَفِّرُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَْن أَنْ تَكُونَ العَلاقَةُ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الخَيْرِيَّةِ، وَالخَيِرِيَّةُ لا تَعْنَِي أَنْ يَتْرُكَ الحَبْلَ عَلَى غارِبِهِ، وَالخَيْرِيَّةُ لا تَعْنِي أَنْ تُهْمِلَ المرْأَةَ، وَالخَيْرِيَّةُ لا تَعْنِي أَلَّا تَقِي أَوْلادَكَ وَزَوْجَكَ وَأَهْلَكَ النَّارَ، فَهَذا مَفْهُومٌ غَلَطٌ، فالخَيْرِيَّةُ مَعْناها أَنْ تَكُونَ لَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ ما تَسْتَطِيعُ، مِنْ خُلُقٍ وَمِنْ مُعامَلَةٍ وَمِنْ رِعايَةٍ، وَصِيانَةٍ وَقِيامٍ بِما أَوْجَبَ اللهُ تَعالَى عَلَيْكَ تِجاهَهُمْ، هَذِهِ هِيَ الخَيْرِيَّةُ الَّتِي قال فيها صلى الله عليه وسلم: «وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ».
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى هَذا المعْيارَ حَثًّا لِلرِّجالِ عَلَى بَذْلِ كُلِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبابِ العِشْرَةِ وَالموَدَّةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كانَ يَتَلَطَّفُ مَعَ أَزْواجِهِ بِكَلامِهِ وَبِفِعالِهِ، وَبِمُعامَلَتِهِ، وَبِسائِرِ ما يَكُونُ مِنْهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، علَى وَجْهٍ تَعْجَبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجُلٍ في دَرَجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهامِّ وَالانْشِغالِ وَالوِصايَةِ، فَعائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها لما سُئِلَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ كانَ في بَيْتِِه؟ قالَتْ: كانَ يَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (6039) . يَعْنِي فيَ أَعْمالِ البَيْتِ؛ مِنْ غُسْلٍ، وَتَهْيِئَةٍ ما يَحْتاجُ إْلَى تَهْيِئَةٍ، وَرَقْعِ ما يَحْتاجُ إِلَى رَقْعٍ، وَتْنِظِيفٍ ما يَحْتاجُ إِلَى تَنْظِيفِ، هَكَذا كانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، سَيِّدُنا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَنا أَقُولُ: مَنَ مِنَّا يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ، هُناكَ وَلا شَكَّ رِجالٌ أَخْيارٌ تَجِدُهُمْ في مِهْنَةِ أَهْلِهِمْ، يُباشِرُونَ العَمَلَ وَيَكُونُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لأَهْلِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ، لَكِنَّ الغالِبَ العامَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّجالِ يَرَىَ اشْتِغالَ الرَّجُلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَعْمالِ الطَّبِيعِيَّةِ العادِيَّةِ الَّتِي يَقْتَرِبُ بِها مِنْ أَهْلِهِ وَيُعايِشُهُمْ وَيُعاشِرُهُمْ، يَرَى أَنَّها مَنْقَصَةٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ النُّزُولِ عَمَّا يَنْبَغِي، وَعَمَّا يُؤَمِّلُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الصِّلَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ.
إِنَّ مِنْ أَسْبابِ حُسْنِ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ التَّواصِي بِالطَّاعَةِ وَالعِبادَةِ، فَاللهُ تَعالَى يَقُولُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سُورَةُ المائِدَةِ، الآيَةُ: 2 . .
وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} سورة التوبة، الآية: 71 . .
فَهَذِهِ في الصِّلَةِ العامَّةِ بَيْنَ جِنْسِ المؤْمِنِينَ وَجِنْسِ المؤْمِناتِ، وَفِيما بَيْنَ المؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَفِيما بَيْنَ المؤْمِناتِ بَعْضِهِنَّ مَعَ بَعْضٍ، يَقُولُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} يَعْنِى بَعْضُهُمْ يُحِبُّ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَنْصُرُ بَعْضًا، {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة، الآي ة: 71 . .
وَلِذَلِكَ قالَ تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} سورة الروم: الآية 21 . ، وَالرَّحْمَةُ ثَمْرَةُ الموَدَّةِ، وَهُنا لما ذَكَرَ اللهُ تَعالَى الوِلايَةَ بَيْنَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِناتِ في صُورةٍ مِنْ صُوَرِ الوِلايَةِ بَيْنَ أَهْلِ الإِيمانِ، قالَ: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}. فالموَدَّةُ تُثْمِرُ الرَّحْمَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتُظْهِرُ صَلاحَ الصِّلَةِ بَيْنَ الأَزْواجِ إِذا اتَّقَوُا اللهَ تَعالَى، وَحَقَّقُوا أَمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاوَى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ في التَّواصِي بِالبِرِّ، وَالتَّواصِي بِالخَيْرِ، وَإِلَيْكَ هَذا الحَدِيثَ الَّذِي رَواهُ أَصْحابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ (1308)، وَالنَّسائِيُّ (1610)، وَابْنُ ماجَهْ (1336) . .
والنَّضْحُ هُوَ الرَّشُّ اليَسِيرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّنْبِيهُ.
وَهَذا تَعاوُنٌ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ مِنْ ثِمارِ الموَدَّةِ، وَهِيَ ما يُوَطِّدُ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.. الآنَ بَعْضُ الأَزْواجِ تُوقِظُهُ امْرَأَتُهُ لِلفَرْضِ الواجِبِ في صَلاةِ الفَجْرِ، أَوْ في غَيْرِها مِنَ الصَّلَواتِ فَيَقُولُ: ما عَلَيْكِ مِنِّي، فارِقِي، تَرَى إِنْ فَعَلْتِ أَوْ أَمَرْتِ، أَوْ أَيْقَظْتِني، أَوْ أَزْعَجْتِنِي، فَأَنْتِ طالِقٌ، أَوْ ما أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ الموَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى هَذا النَّحْوِ؟ إِنَّ كُلَّ نَقْصٍ في صِلَةِ العَبْدِ بِرَبِّهِ لا بُدَّ أَنْ يَنْعَكِسَ عَلَى صِلَتِهِ بِأَهْلِهِ وَبِمَنْ حَوْلِهِ. وَلِهَذا كانَ السَّلَفُ يَرَوْنَ ثِمارَ مَعاصِيهِمْ في عَلاقاتِهِمْ بِزَوْجاتِهِمْ، وَفِي عَلاقاتِهِمُ العامَّةِ وَفِي حَياتِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: إِنِّي لأَرَى أَثَرَ مَعْصِيَتيِ في عَثْرَةِ دابَّتِي وَسُوءِ خُلُقِ زَوْجَتِي.
إِذَن التَّقْوَى، وَتَحْقِيقُ العُبُودِيَّةِ، وَالتَّعاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالاجْتِماعِ عَلَى الخَيْرِ، هُوَ مِمَّا يُصْلِحُ الصَّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَتَى ما حَصَلَ مَعْصِيَةٌ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَىَ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعالَى يُوقِعْ بَيْنَهُمْ مِنَ البَغْضاءِ وَالسُّوءِ وَالنَّكَدِ وَالشَّرِّ ما يُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ، وَلَكِنْ هَذا قَدْ يَتَأَخَّرُ في الدُّنْيا، لَكِنَّهُ يَظْهَرُ جَلِيًّا في الآخِرَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} سُورَةُ الزُّخْرُفِ، الآية: 67 . .
وَالأَخِلَّاءُ هُمُ الَّذِينَ كانَتْ بَيْنَهُمْ وَشائِجُ الحُبِّ وَالخُلَّةِ وَالموَدَّةِ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، هَذا في يَوْمِ القِيامَةِ، إِلَّا المتَّقِينَ.
إِذَن التَّقْوَى سَبَبُ دَوَامِ الموَدَّةِ، وَالتَّقْوَى سَبَبُ اسْتِمْرارِ صَلاحِ الحالِ بَيْنَ النَّاسِ، فَكُلَّما ازْدَادَتِ العَلاقَةُ تَحْقِيقًا لِلتَّقْوَى، كانَتْ سَبَبًا لِدَوامِ الصِّلَةِ بَيْنَ الأَزْواجِ وَصَلاحِها.
إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهُ الرِّجالُ وَالنِّساءُ أَنَّ مِنْ أَسْبابِ الموَدَّةِ أَنْ يُدْرِكَ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ طَبِيعَةَ الآخَرِ، لكن الرجل ينبغي له أن يعتني بهذا الجانب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أبرزه في صلة الرجل بامرأته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ» والضلع هو كالأضلاع التي في الصدر، ثم ذكر كيف يتعامل الناس مع الضلع، فإذا أردت أن تقيمه، فلا بد لك أن تكسره، فلا يمكن أن يستقيم ضلع إلا بالكسر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» أخرجه البخاري (3331)، ومسلم (1468). .
فابْتَدَأَ بِالوَصِيَّةِ بِالنِّساءِ، وَخَتَمَ بِالوَصِيَّةِ بِالنِّساءِ، وَنَبَّهَ إِلَى طَبِيعَةِ المرْأَةِ، وَأَنَّ ما يَجِدُهُ الرَّجُلُ مِنْ تَغَيُّرٍ في حالِ المرْأَةِ هُوَ مِنْ نَقْصِ في حالِ المرِأَةِ، فَهُوَ بِطَبِيعَتِها.
فالآنَ حِينَما يَتَكَلَّمُ النَّاسُ عَنِ المرْأَةِ بِقَوْلِهِمْ: المرْأَةُ خُلَقِتْ مِنْ ضَلْعٍ أَعْوَجَ، فَعَلَى أَيْ أَساسِ يَذْكُرُونَ هَذا الكَلامَ؟ يَذْكُرُونَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنَقُّصِ بِالمرْأَةِ، وَالاسْتِهْزاءِ بِها، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: ناقِصاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ.. وَهَذا كَلامٌ حَقٍّ جاءَ في سِياقٍ باطِلٍ، فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ هَذا لِتَنَقُّصِ المرْأَةِ مُطْلَقًا، حاشاهُ أَنْ يَتَنَقَّصَ أَحَدًا مِنَ الخَلْقِ، إِنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ في سِياقِ الاعْتِذارِ لِلمَرْأَةِ عَمَّا يَكُونُ مِنْ قُصُورٍ، أَوْ نَقْصٍ، فَشَتَّانَ بَيْنَ هَذا وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ هَذا الكَلام وَيَسْتَحْضِرُهُ لأَجْلِ أَنْ يَتَنَقَّصَ المرْأَةَ، فَهَذا جاءَ بِخِلافِ مَقْصُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَنْ وَضَعَ الكَلِمَ، وَتَحْرِيفِ الكَلِمِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَمَّا ذَاكَ الَّذِي يَقُولُ هَذا الكَلامَ لِيُذَكِّرَ بِضَرُورَةِ رِعايَةِ المرْأَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْها، وَمُراعاةِ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ مُوافِقٌ لِلمَقْصُودِ النَّبَوِيِّ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ».
وَلِذَلِكَ مِنَ الضَّرُوراتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعِيَها الرِّجالُ، أَنَّ حَقَّ القَوامَةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَهُمْ، هُوَ في حُسْنِ إِدارَةِ هَذِهِ الرَّابِطَةِ، وَفِي حُسْنِ إِدارَةِ هَذِهِ الصِّلَةِ، لِتُحْفَظَ مِنَ الخَلَلِ، أَوْ ما يَكُونُ سَبَبًا لانْفِصامِها، وَعَدَمِ قِيامِها.
وَلِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّجَ الرِّجالَ في حَقِّ المرْأَةِ، فَقالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ» أَخْرَجَهُ النَّسائِيُّ في الكُبْرَى (9104)، وَابْنُ ماجَه (3678). .
وَالتَّحْرِيجُ هُوَ إِلْحاقُ الِإثْمِ وَالتَّذْكِيرِ بِخُطُورَةِ ما يَقَعُ فِيهِ الإِنْسانُ مِنْ ضِيقٍ إِذا أَضاعَ هَذا الحَقَّ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَّرَ بِالميثاقِ، وَهَذا مِنْ دَواعِي إِقامَةِ الوُدِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَنْ يَتَذَكَّرَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما أَنَّ هَذا الميثاقَ الَّذِي بَيْنَهُما مِيثاقٌ غَلِيظٌ، وَقالَ تَعالَى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}سُورَةُ النِّساءِ، الآيَةُ: 21، وَهُوَ ما أَمَرَ اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ العِشْرَةِ بِالمعْرُوفِ.
وَلِذا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ أَنْ يُراعِيا هَذا الميثاقَ، وَأَنْ يَحِفَظاهُ بِإقامَةِ الحُقُوقِ الَّتِي بِها تَصْلُحُ الأَحْوالُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» أخرجه مسلم، رقم (1218) .
إِنَّ مِمَّا يُقِيمُ الوُدَّ بَيْنَ النَّاسِ عُمُومًا، وَبَيْنَ الأَزْواجِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ، أَنْ تُبْنَى العَلاقَةُ بَيْنَ الزَّوْجِيَنْ عَلَى التَّسامُحِ، وَعَلَى التَّغافُلِ، وَعَلَى التَّصافُحِ، وَعَلَى العَفْوِ، وَعَلَى التَّنازُلِ عَنِ الحُقُوقِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِتَجاوُزِ العَثْرَةِ، وَتَجاوُزِ المشْكَلَةِ، وَذاكَ بِهِ تَسْتَقِيمُ الصِّلاتُ.
وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ النَّظِرِ في السَّلْبِيَّاتِ، وَهَذا أيضًا سَبَبٌ مِنْ أَسْبابِ حُصُولِ الموَدَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَنْ يَتَذَكَّرَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما الإِيجابِيَّاتِ في الشَّخْصِ الآخَرِ، وَلِذَلِكَ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً» أَيْ: لا يَكْرِهُ «إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أخرجه مسلم (1469) .
وَهَذا التَّوازُنُ في الصِّلاتِ، فَلا يُوجَدُ إِنْسانٌ كامِلٌ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَلا بُدُّ مِنْ نَقْصٍ في السُّلُوكِ وَالمعامَلَةِ، لا سِيَّما الشَّيْءُ الدَّائِمُ، وَعَلَى قَوْلِ العَوامِّ: الدَّائِمُ شَدِيدٌ صَعْبٌ. فَدَوَامُ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي نَوْعاً مِنْ وُجُودِ الهَفَواتِ، وَعَدَمِ التَّحَفُّظِ أَحْيانًا، وَالمرُورُ بِظُرُوفٍ قَدْ يَخْرُجُ بِها الإِنْسانُ عَنْ حالِ الاسْتِقامَةِ.
إِنَّ بِناءَ العَلاقاتِ عَلَى بَذْلِ الحُقُوقِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى اسْتِقامَةِ الحالِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذا بَنَيْتُ عَلاقَتِي مَعَ زَوْجَتِي، وَبَنَتْ زَوْجَتِي عَلاقَتَها مَعِي، عَلَى المطالَبَةِ بِالحُقُوقِ حَصَلّ التَّشاحُّ، لَكِنْ إِذا بُنِيَتِ العَلاقَةُ عَلَى الإِحْسانِ، وَأَنْ أَنْظُرَ إِلَى ما الَّذِي يَجِبُ عَلَيَّ، قَبْلَ أَنْ أَنْظُرَ ما الَّذِي يَجِبُ لِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصْلُحُ العَلاقَةُ.
وَلِهَذا لما ذَكَرَ اللهُ تَعالَى حَقَّ المرْأَةِ، لَمْ يَبْدَأْ بِذِكْرِ الحَقَّ الَّذِي لِلرَّجُلِ، إِنَّما بَدَأَ بِذِكْرِ الحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَقالَ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيةُ: 228 .
وَهَذا تَذْكِيرٌ لِلرَّجُلِ؛ لأَنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَثَرُ بالِغٌ في إِقامَةَ المقْصُودِ مِنَ الزَّواجِ، وَإِصْلاحِ الحالِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
كانَ سَلَفُنا الصَّالِحُ عَلَى وَعْيٍ بَهَذا الأَمْرِ، حَتَّى فِيما يَتَعَلَّقُ بِقضايا العِنايَةِ بِالمظْهَرِ وَالشَّكْلِ، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ حَبْرُ الأُمَّةِ، وَتَرْجُمان القُرْآنِ: ((إِنِّي لأَتَزَيَّنُ لامْرَأَتِي، كَما تَتَزَيَّنُ لِي، وَما أُحِبُّ أَنْ أَسْتَوْفِيَ كُلَّ حَقِّيَ الَّذِي عَلَيْها لِي، فَتَسْتَوْفِيَ كُلَّ حَقِّها الَّذِي لَها عَلَيَّ)) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في المصَنَّفِ (1469) وَنَصُّهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنْظِفَ جَمِيعَ حَقِّي عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] .
هَكَذا تُبْنَى العَلاقاتُ، عَلَى التَّغاضِي وَالتَّسامُحِ، وَعَلَى أَنْ أُبادِرَ بِما يَجِبُ عَلَيَّ.
فَلَوْ نَظَرْنا إِلَى وَضْعِ التَّجَمُّلِ في الرِّجالِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّساءِ، فَقَلَّ مَنْ يَعْتَنِي بِهَذا الجانِبِ لِزَوْجَتِهِ، إِنَّما يَتَجَمَّلُ إِذا خَرَجَ أَوْ الْتَقَى أَصْحابَهُ، وَهَذا طَبِيعِيٌّ، لَكِنْ هِيَ تَسْتَحِقُّ أَنْ تَعْتَنِيَ بِنَفْسِكَ، كَما هِيَ تَعْتَنِي لَكَ، لا سِيَّما في زَمَنٍ الصُّورَةِ أَصْبَحَتْ فِيهِ مُتاحَةٌ، وَتَظْهَرُ خِلافَ الواقِعِ بِالنِّسْبَةِ لِلَّرجُل،ِ وَبِالنِّسْبَةِ لِلمَرْأَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ المرْأَةُ تُشاهِدُ مِنْ صُوَرٍ في التِلْفازِ، وَفِي وَسائِلِ الاتِّصالِ، ما يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَها، فَتَرَىَ بَهاءً وَجَمالًا وَحُسْنًا، في حِينِ تَرَىَ في زَوْجِها نَوْعًا مِنَ التَّفْرِيطِ، وَنَوْعًا مِنْ عَدَمِ الاهْتِمامِ، بَلِ الدَّمامَةُ أَحْيانًا، بِسَبَبِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها زَوْجَتِي لماذا أَتَجَمَّلُ لَها، وَيُبَلِّغُنا مِنَ القَصَصِ وَشَكْوَى بَعْضُ النِّساءِ في أُمُورٍ يَسْتَحِي الإِنْسانُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِها. وِلِذَلِكَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَعِيَ الرَّجُلُ أَنَّ لِلمَرْأَةِ مِنَ الحُقُوقِ كَما لِلرَّجُلِ عَلَيْها، وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِالحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ كَما يَعْتَنِي بِالحَقِّ الَّذِي لَهُ، بَلْ يُقَدِّمُ الحَقَّ الَّذِي لَها أَكْثَرَ مِنَ الحَقِّ الَّذِي لَهُ.
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ القَضايا أَوِ الوَقَفاتِ، وَالوَقْتُ ضاقَ، وَكُنْتُ أَرْغَبُ في أَنْ أَسْتَعْرِضَ بَعْضَ القَصَصِ في سِيَرِ الصَّالِحينَ، ابْتِداءً بِسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِيَرِ أَصْحابِهِ في مُعامَلاتِهِمْ لأَزْواجِهِمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ في لِقاءِ آخِرَ.
وَصَلِّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ.