الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ كَما يُحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صِفِيِّهُ وَخَلِيلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ اللهَ تَعالَى قَصَّ في كِتابِهِ الحكيمِ مِنَ القَصَصِ ما فِيهِ عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}يوسف: 111 .
وَإِنَّ أَحْسَنَ ما قَصَّهُ اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ، وَأَعْظَمُ ما ذَكَرَهُ مِنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ ما قَصَّهُ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعَثَهُ اللهُ تَعالَى إِلَى هَذا الملِكِ المتَجَبِّرِ الغاشِمِ المسْتَكْبِرِ حَيْثُ اسْتَضْعَفَ طائِفَةً مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ، وَيَسْتَحِيي نِساءَهُمْ، فَيَذْبَحُ الأَبْناءَ وَيُبْقِى البَناتِ لِلخِدْمَةِ وَسائِرِ ما يُنْتَفِعُ بِهِ مِنْ النِّساءِ.
فَكانَ أَنْ بَعَثَ اللهُ تَعالَى مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ لِيُخْرِجَ هَؤُلاءِ مِنَ الظُّلُماتِ إلِىَ النُّورِ، وَلِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كَذِبَ هَذا المتَجَبِّرَ المتَكَبِّرَ، فَأَتاهُ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ مُبَيِّنًا ما للهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الحُقُوقِ في العُبُودِيَّةِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. فَقالَ فِرَعَوْنُ مُسْتَكْبِرًا مُعانِدًا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} الشعراء: 23 ؟ فَأَجابَهُ مُوسى جَوابَ الواثِقِ العالمِ بِرَبِّهِ: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}الشعراء:24 ، فَنَزَلَ ذَلِكَ عَلَى فِرْعَوْنَ صَاعِقًا قَوِيًّا؛ إِذْ إِنَّهُ أَنْكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ وَهُوَ الَّذِي قالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} النازعات: 24 . فَقالَ لِقَوْمِهِ: أَلا تَسْمَعُونَ؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ مُوسَى مُعَرِّفًا بِاللهِ، مُبَيِّنًا بِكَمالاتِهِ، وَأَنَّهُ لا رَبَّ سِواهُ، فَقالَ: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}الشعراء:26 ، قالَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} الشعراء: 27 ، فَأَجابَهُ مُوسَى مُعْرِضًا عَنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ مُبَيِّنًا مَنِ الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، مَنِ الرَّبُّ الَّذي يَعْبُدُهُ، فَقالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}الشعراء:28 ، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}طه:53 ، هَذا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى، هَذا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ القُلُوبُ، وَتَدِينُ لَهُ الفِطَرُ، وَتُقْبِلُ عَلَيْهِ النُّفُوسُ.
فَلَمَّا انْقَطَعَتْ حُجَّةُ فِرْعَوْنَ وَبانَ كَذِبُهُ فِيمَ ادَّعاهُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالإلهِيَّةِ، قالَ مُعادِيًا مُخاصِمًا مُكَذِّبًا، قالَ لموسَىَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}الشُّعراء:29 ، قالَ لَهُ مُوسَى لِيَقْطَعَ حُجَّتَهُ وَيُقِيمُ لَهُ البُرْهانَ عَلَى صِدْقِ ما جاءَ بِهِ، قالَ: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}الشعراء:30 ؛ أَيْ: تَفْعَلَ هَذا مِنْ سَجْنِي وَإِيقاعِ الأَذَى بِي، وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ بَيِّنٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ ما أَخْبَرْتُكَ بِهِ وَما دَعَوْتُكَ إِلَيْهِ؟ فَقالَ فِرْعَوْنُ لموسَى: ائْتِ بِما عِنْدَكَ، فَأَراهُ آيةً كُبْرَى، فَلَمْ يُطِقْ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ، لَمْ يُطِقْ فِرْعَوْنُ ما جاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الآياتِ وَالبَيِّناتِ، وَكانَ السَّحْرُ فاشِيًا في فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَقالَ: {هَذَا سِحْرٌ مُبِين} النمل: 13 ؛ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}النمل:14 .
ثُمَّ لمَّا تَبَيَّنَ الحَقُّ وَجَلْجَلَ، وَظَهَرَ الباطِلُ بِأَصْغَرِ صُوُرِهِ، وَتَبَيَّنَ كَذِبُ فِرْعَوْنَ وَضَلالِهِ قالَ فِرْعَوْنُ لموسَى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين} الأعراف: 132 ، أَصَرَّ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَقَوْمُهُ اسْتِكْبارًا عَظِيمًا فَأَغْضَبَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، َفأَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} الشعراء:52 ، اخْرُجْ مِنْ مِصْرَ، سِرْ ليلًا أَنْتَ وَقَوْمُكُ.
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}الشعراء:53 ، في كُلِّ مُدُنِ مِصْرَ الَّتِي كانَتْ تَحْتَ سُلْطانِهِ وَمَمْلَكَتِهِ، أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المدائِنِ حاشِرينَ، {إِنَّ هَؤُلاءِ} يَعْنِي مُوسَى وَقَوْمَهُ? {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ 54 وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ 55 وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} الشعراء:54-56 . يَسْتَنْهِضُهُمْ وَيْسَتَحِثُّهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتالِ مُوسَى، وَيُغْرِيهِمْ بِقِلَّةِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَبِقُوَّتِهِ وَحَذَّرَهُ وَعَظِيمَ سُلْطانِهِ.
فَخَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ تَعالَى وَمَعَهُ بَنُو إِسْرائِيلَ، لَيْسَ مَعَهُمْ عُدَّةٌ لِقِتالٍ، وَلَمْ يَتَجَهَّزُوا لِنِزالٍ خَرَجُوا مُمْتَثِلِينَ أَمْرَ اللهِ لمَا قالَ: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} الشعراء:52 ، فَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَيْتَبْعُونَهُ، وَمَعَ هَذا خَرَجُوا مُسْلِمينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ. قالَ أَصْحابُ مُوسَى لما تَدارَكَ القَوْمُ، وَقَرَّبَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، قالَ أَصْحابُ مُوسَى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}الشعراء:61 أَيْ: سَيُدْرِكُنا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَيُنْزِلُونَ بِنا ما يُنْزِلُونَ مِنَ الوَعِيدِ، فَماذا كانَ لِسانُ الواثِقِ؟ لِسانُ المصَدِّقِ؟ لِسانُ المتَيَقِّنِ بِوَعْدِ اللهِ؟ {قَالَ كَلَّا}، وَمَنْ مَعَكَ؟ ما دَلِيلُكَ؟ ما الَّذِي يُطَمْئِنُكَ؟ قالَ: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الشعراء:62 ، لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ اللهُ، وَمَنْ كانَ مَعَهُ اللهُ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِ، هَكَذا يَتَبَيَّنُ اليَقِينُ، وَصِدْقُ الإيمانِ، وَعَظِيمُ التَّسْلِيمِ لِرَبِّ العالمينَ، كَلاَّ لَنْ يَكُونَ هَذا، لَنْ يُدْرِكَنِي فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، ما سِلاحُكَ؟ ما قُوَّتُكَ الَّتي تَمْنَعُ وُقُوعَ ذَلِكَ؟ {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، فَجاءَهُ الوَحْيُ مِنْ رَبِّ العالمينَ، {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}الشعراء:63 فِرْقٍ يَعْنِي طَرِيق، فانْشَقَّ البَحْرُ لمِوسَى وَقَوْمِهِ طُرُقًا يَسِيرُونَ فِيها، وَدَخَلَ مُوسَى وَقَوْمُهُ في تِلْكَ الطُّرُقِ فَرارًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَسارَ فِيما فَتَحَ اللهُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ، لَمْ يَرْتَدِعْ فِرْعَوْنُ مَعَ عَظِيمِ ما رَأَى مِنَ الآياتِ وَالبَيِّناتِ، فَإِنَّ هَذا الفِرْقَ لا يَكُونُ سِحْرًا، وَلا يَكُونُ ضَلالًا، وَلَوْ كانَ سِحْرًا لما خاضَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، لَكِنَّهُ اسْتِكْبارُهُمْ، وَتَكْذِيبُهُمْ، فَدَخَلُوا حَيْثُ دَخَلَ مُوسَى وَقَوْمُهُ، فَكانُوا بَيْنَ جِبالِ الماءِ.
فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى وَقَوْمُهُ أَطْبَقَ اللهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الماءَ فَأُغْرِقُوا أَجْمَعِينَ. هَكَذا كَما قالَ رَبُّ العالمينَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}الدخان:29 ، {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}غافر:45 بِما كانُوا يَكْفُرُونَ، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}غافر:46 . يَقُولُ اللهُ تَعالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}الزخرف:76 لَمْ تَكُنْ تِلْكَ العُقُوبَةُ عَنْ ظُلْمٍ، فاللهُ حاشاهُ بِأَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا؛ فاللهُ تَعالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلعَبِيدِ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}النحل:118 ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}هود:101 ، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}هود:102 .
فَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الملِكُ الحَقُّ المبينُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَنْصُرُ عِبادَهُ وَأَوْلِياءَهُ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالمينَ المكَذِّبينَ، فَلَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
***
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى وَاعْتَبِرُوا بِمَصارِعِ الغابِرِينَ، وَبِحُسْنِ عَواقِبِ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ، فَإِنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْكُمْ القَصَصَ لِتَتَفَكَّرُوا وَلِتَتَّعِظُوا وَلِتَعْتَبِرُوا وَلِيَكُونَ لَكُمْ فِيهِمْ آيَةٌ، وَعِبْرَةٌ، وَعِظَةٌ، وَفِكْرَةٌ، فَكُونُوا أَصْحابَ قُلُوبٍ مُعْتَبِرَةٍ مُتَّعَظَةٍ، وَالسَّعِيدُ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ؛ إِنَّ نَصْرَ اللهِ لأَوْلِيائِهِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ إِذا جاءَ أَجَلُهُ وَتَوْقِيتُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}محمد:7 ، وَقَدْ قالَ جَلَّ وَعَلا في بَيانِ ما يَحْصُلُ بِهِ النَّجاةُ مِنْ كُلِّ خَسارٍ في صُورَةٍ مُخْتَصَرَةٍ: {وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}العصر .
فَهَذِهِ صِفاتُ أَرْبِعِ، خِلالٍ أَرْبَعُ، شُعَبٍ أَرْبَعُ، صِفاتٍ أَرْبَعٌ، مَنْ تَحَقَّقَ بِها نالَ نَصْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. الإِيمانُ بِهِ وَهَذا عَمَلُ القَلْبُ، بِصِدْقِ المحَبَّةِ لَهُ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، وَخَوْفِهِ، وَرَجائِهِ، والإقْبالِ عَلَيْهِ جَلَّ في عُلاهُ، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ وَبَحَمْدِهِ، هَذا أَوَّلُ شُرُوطِ النَّصْرِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ العَمَلِ الصَّالِحِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}العَصْر:3 فَجِدُّوا في الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ، وَلَيْسَ العَمَلُ الصَّالِحُ مَقْصُورًا فَقَطْ عَلَى صُورَةٍ مِنْهُ أَيْ عَلَى صُورَةٍ مِنَ العَمَلِ، بَلْ يَشْمَلُ صَلاحَ كُلِّ ما يَصْدُرُ عَنْكَ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ تَصَرُّفٍ مِنْ ظاهِرٍ أَوْ باطِنٍ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ أَوْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الخَلْقِ، فَلَيْسَ العَمَلُ الصَّالِحُ مَقْصُورًا عَلَى صَلاةٍ وَصَوْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَعْمالِ الَّتِي بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، بَلْ تِلْكَ مَفاتِيحُ الصَّلاحِ، فَإِذا صَدَقَ فِيها العَبْدُ نَتَجَ عَنْهُ صَلاحُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَلْقِ.
}إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}النساء:58 فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَصْلُحَ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ إِلَّا بِصَلاحِ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ الخَلْقِ، ثُمَّ قالَ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} العَصْر وَالتَّواصِي بِالحَقِّ هُوَ القِيامُ بِهِ في نَفْسِكَ، وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ بِما اسْتَطَعْتَ، بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُمْكِنَةٍ وَالنَّاسُ عَلَى ذَلِكَ في مَراتِبَ وَدَرَجاتٍ: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكراً فَلْيغيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطعْ فبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلبهِ وَذَلَكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ»مُسْلِم(49)، هَكَذا مَراتِبُ التَّواصِي بِالحَقِّ في إِقامَةِ المعْرُوفِ، وَالابْتِعادِ عَنِ المنْكَرِ في النَّفْسِ وَفِيمَنْ حَوْلَكَ.
ثُمَّ كُلُّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِصَبْرٍ، وَلِذَلِكَ قالَ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} العصر . فالصَّبْرُ لابُدَّ مِنْهُ في إِقامَةِ كُلِّ خَيْرٍ في الدُّنْيا، بَلْ لا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ الإِنْسانُ خَيْرًا في دِينِهِ أَوْ في دُنْياهُ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَلِذَلِكَ قالَ: «وما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطاءً خَيْرًا وَلا أَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ«البخاري(1469), ومسلم(1053).
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِذا حَقَّقَتِ الأُمَّةُ أَفْرادًا هَذا المعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ في سُورَةِ العَصْرِ الَّتي قالَ عَنْها الشَّافِعِيُّ: «لَوْ لَمْ يُنْزِلُ اللهُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا هَذِهِ السُّورَةُ لَكَفَتْهُمْ»تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير(1/203), وَلَطائِفِ المعارِفِ لابْنِ رَجَبٍ ص(300), وَلَمْ أَجِدْهُ مُسْنَدًا، في بَيانِ طَرِيقِ النَّجاةِ، وَطَرِيقِ الخُروجِ مِنْ الخَسارِ إِذا حَقَّقَها الإِنْسانُ في نَفْسِهِ، وَسَعَى إِلَى تَحْقِيقِها في مُجْتَمَعِهِ فَإِنَّهُ سَيُحَقِّقُ نَصْرَ اللهِ الَّذِي يُسْتَنْزَلُ بِهِ نَصْرُهُ. وَلا تَنْظُرْ إِلَى عُدَّةٍ، وَلا إِلَى قُوَّةٍ، وَلا إِلَى قُدْرَةٍ فَكُلُّ ذَلِكَ أَسْبابٌ، كُلُّ تِلْكَ الأَشْياءِ أَدَواتٌ، وَإِنَّما القُوَّةُ الحَقِيقِيَّةُ قُوَّةَ ما في الصَّدْرِ مِنْ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ بِاللهِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، مُحِبٌّ للهِ، مُبادِرٌ لِكُلِّ ما يُرْضِيهِ جَلَّ في عُلاهُ، عِنْدَ ذَلِكَ لَنْ تَقُومَ أَمامَكَ مَهْما كانَ العَدُوُّ في قُوَّةٍ وَتَمكُّنٍ لَنْ يَقُومَ لَكَ وَلَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ هَزِيمَتِكَ.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا يا رَبَّ العالمينَ.
صامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذا اليَوْمَ الَّذِي نَصَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَسَمَّاهُ :"يَومًا صالحًا"البُخاري(2004)، وَهُوَ يَوْمٌ صالِحٌ؛ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَ فِيهِ الحَقَّ عَلَى الباطِلِ، وَهُوَ يَوْمٌ صالِحٌ لأَنَّ اللهَ عَزَّ أَوْلِياءَهُ، وَأَذَلَّ أَعْداءَهُ، وَهُوَ يَوْمٌ صالِحٌ تَفْرَحُ بِهِ الأُمَّةُ لأَنَّ نَصْرَ أَوَّلِ المرْسَلِينَ هُوَ نَصْرٌ لآخِرِهِمْ.
فَهَذِهِ أُمَّةٌ واحِدَةٌ كَما قالَ تَعالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} الأَنبياء:92 ، فَكُلُّ نَصْرٍ لِكُلِّ مُسْلِمٍ في كُلِّ زمانٍ أَوْ في كُلِّ مَكانٍ، أَوْ في كُلِّ رِسالَةٍ، وَفي كُلِّ جِيلٍ هُوَ نَصْرٌ لِلمُؤْمِنِ حَيْث ُكانَ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, صامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ العاشِرَ مِنْ مُحَرَمٍّ وندب إلى صيامه، وقال: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»مسلم(1162)، فاحْرِصُوا عَلَى صِيامِهِ، وَتَتَحَقَّقُ السُّنَّةُ بِصِيامِ اليَوْمِ العاشِرِ، فَإِذا أَضافَ إِلَيْهِ اليَوْمَ التَّاسِعَ كانَ ذَلِكَ مُحَقِّقًا لِلسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِ الكَمالِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:« لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» مُسْلِمٌ(1134). يَعْنِي مَعَ اليَوْمِ العَاشِرِ، فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ، لَكِنَّ الفَضِيلَةَ وَهِيَ تَكْفِيرُ السَّنَةِ الماضِيَةِ، وَشُكْرِ اللهِ عَلَى نَصْرِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ يَتَحَقَّقُ بِصَوْمِ اليَوْمِ العاشِر،ِ وَإِضافَةِ يَوْمٍ آخَرَ هُوَ لمخالَفَةِ اليَهُودِ.
وَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَنا البَصِيرَةَ في الدِّينِ، وَالعَمَلِ بِالتَّنْزيلِ، وَأَنْ يَجْعَلَنا مِنْ حِزْبِهِ وَأَوْلِيائِهِ، وَأَنْ يُقِرَّ أَعْيُنَنا بِنَصْرِ أَهْلِ الإِسْلامِ حَيْثُ كانُوا فَوْقَ كُلِّ أَرْضٍ وَتَحْتَ كُلِّ سَماء. اللَّهُمَّ إِنا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى.
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ وَفَّقْ وُلاةَ أُمُورَ المسْلِمينَ في كُلِّ مَكانٍ إِلَى ما فِيهِ خَيْرُ العِبادِ وَالبَلادِ. خُذْ بِنَواصِيهِمْ إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، اجْعَلْهُمْ رَحْمَةً لِرَعاياهُمْ يُقِيمُونَ الحَقَّ وَيَنْصُرُونَهُ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى، اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوانَنا المسْتَضْعَفِينَ في سُورِيَّا وَالعِراقِ وَفي سائِرِ البُلْدانِ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ مَنْ نَصَرَ الدِّينَ يا رَبَّ العالمينَ، وَأَذِلَّ مَنْ حارَبَهُ وَعاداهُ حَيْثُ كانَ إِنَّكَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى يا حَيُّ يا قَيُّومُ.
اللَّهُمَّ خُذْ بِنواصِينا إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، اصْرِفْ عَنَّا السُّوءَ وَالفَحْشاءَ، أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ انْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنا، اللَّهُمَّ آثِرْنا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ اهْدِنا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا لَكَ ذاكِرينَ، شاكِرينَ، رَاغِبينَ، رَاهِبينَ، أَوَّاهِينَ، مُنِيبينَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، وَثَبِّتْ حُجَّتَنا، واغْفِرْ زَلَّتنا، وَأَقِلْ عَثَرَتنا رَبَّنا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ إِيمانًا صادِقًا، وَيَقِينًا رَاسِخًا، اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنا بِخَيْرٍ، وَأَعِنَّا عَلَى الطَّاعاتِ وَالصَّالحاتِ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.