الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مُضِلَّ له ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرَّحمن الرَّحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله، صفيُّه وخليله، خِيرته من خلقه، أرسله الله بالهدى ودين الحقِّ بين يدي السّاعة بشيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع سُنَّته بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد،
فاتَّقوا الله أيُّها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى، فإنَّ تقوى الله -جلَّ في علاه- سببُ كل سعادة في الدنيا والآخرة، وتخلُّف التَّقوى، وغيابها سبب كلِّ شقاء في الدنيا والآخرة، قال -جلَّ في علاه-: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} سورة الزمر : آية 61 . ينجِّيهم من كلِّ ما يخافون، يقيهم شرَّ ما يحذرون، يُبلِّغُهم ما يؤمِّلون، يُوصلهم إلى طمأنينة وسعادة وبهجة في الدُّنيا قبل الآخرة.
أيُّها المؤمنون عباد الله! إنَّ الله -جلَّ في علاه- بعث الرسل جميعًا ليعبدوه وحده لا شريك له, ويدعوا الناس لعبادة الله وحده لا شريك له، وإن هذه العبادة قوامها الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، وما يتبع ذلك من أركان الإيمان وأصوله؛ فإنّه لا يتحقق إيمانٌ إلا باجتماع وائتلاف؛ فإنّ الإيمان إنَّما يتحقَّق بائتلاف المؤمنين واجتماعهم, ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ » صحيح مسلم: باب بَيَانِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الإِيمَانِ وَأَنَّ إِفْشَاءَ السَّلاَمِ سَبَبٌ لِحُصُولِهَا, حديث رقم 203
إنَّ السلام الذي أمر النبي -صلي الله عليه وسلم- بإفشائه بين الناس ليس هو كلماتٍ تُلقى، دون أن يكون لها رصيد في القلوب، دون أن يكون لها رصيد في المعاملة، دون أن يكون لها رصيد في المسلك والممارسة.
إنَّ السلام معنى شامل لإيصال كلِّ خير، وكفِّ كلِّ شرٍّ، وبذل كل إحسان، وكفِّ كل أذى وإساءة، لذلك ذكر النبي -صلي الله عليه وسلم- وصفًا مجملًا للمسلم يَقيس به مدى ما معه من الإسلام، فقال -صلي الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» صحيح البخاري: باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, حديث رقم: 10 , صحيح مسلم: باب بَيَانِ تَفَاضُلِ الإِسْلاَمِ وَأَيِّ أُمُورِهِ أَفْضَلُ, حديث رقم: 171.
فبقدر ما يسلم الناس من أذية بلسانك وبيدك وبقلبك فإنك تحقق من خصال الإيمان والإسلام ما يكون أعلى من غيرك, لذلك ينبغي للمؤمن أن ينظر في نفسه ومدى تحقُّق هذه الخصال في مسلكه ليقيس إسلامه، وليعرف قدر ما معه من الإسلام.
أيُّها المؤمنون! إن النبي -صلي الله عليه وسلم- جاء برسالة مليئة بالنور والهدى, عنوانها الأعظم وشعارها الأكبر، ومنطلقها الذي لا يتخلَّف في حكم من أحكامها قولُ الله -جلَّ وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء : آية 107 . فالنبي -صلي الله عليه وسلم- جاء رحمة للناس, لا يتخلّف في ذلك موافِق ولا مخالف, فهو رحمة لمن آمن به, وهو رحمة لمن عارضه وخالفه ولم يؤمن به, وهذه الرَّحمة قوامها إيصال الخير وتحقيق العدل.
عباد الله!
إنه لا يتحقق سلام ولا تتحقق رحمة، ولا يمكن أن يتحقق عدل ولا يمكن أن يُدرك الناس شيئًا من مصالح دنياهم أو أُخراهم إلا بأمن يأمنون فيه على أنفسهم, يأمنون فيه على أموالهم, يأمنون فيه على عقولهم، يأمنون فيه على ما يحتاجونه من مصالحهم, لذلك اختصر النبي -صلى الله عليه وسلم- قيمة الأمن في تحقيق الحياة الهنيئة, فقال كما في الترمذي من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: ((من أصبح منكم معافىً في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)) سنن الترمذي (2346)،وابن ماجه (4141)، وابن حبان(2/445)، ح(671)،وقال الترمذي حسن غريب. أي كأنما جُمع له كل مُتَع الدنيا, كلُّ نعيمها في تحقيق هذه الأمور الثلاثة, الأمن في النفس والجماعة، الأمن الصحي، الأمن الغذائي، فحياة الناس لا يمكن أن يتحقق فيها شيء من مصالح الدين، أو مصالح الدنيا، إلا بتحقيق الأمن, ولا يمكن أن يُحقِّقوا الأمنَ، إلا بالأخذ بشريعة الله عز وجل, والقيام بحدوده؛ فإنَّ الله تعالى جعل الأمن جزاء لأوليائه وعباده، فمتى حقق الناس الإيمان وقاموا بالشرائع فُتحت لهم أبواب الأمن، لا يعني ألا يصيبهم أذى أو ألا ينزل بهم ما يكرهون, فالناس لابد أن يذوقوا من حصائد أعمالهم ما يكون سبباً لرجوعهم وإفاقتهم, قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة الروم : آية 41 ، لكن شتَّان بين أن يكون الاختلالُ للأمن في أحوال وأحداث خاصة؛ وبين أن يكون اختلال الأمن على الجميع وسمةً للأمة, فعندها يكون الأمر مختلفاً غاية الاختلاف؛ لذلك من أعظم ما ينبغي أن يستشعر الناس نعمته, وأن يدركوا فضله ما أنعم به عليهم من الأمن, فإنه نعمة يتبعها كلُّ خير, وكلُّ النعم تنبثق عن الأمن، فمتى غاب الأمن كان ذلك مدعاةً لحصول فساد كبير وشرٍّ عريض, والله تعالى يجري على الناس في سلامة دينهم وإقامة شعائر إسلامهم في حال أمنهم ما لا يدركونه في حال الفرقة والنزاع والخوف والشقاق.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
الخطبة: الثانية.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًِّا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله, اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد.
أما بعد.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى تُستجلب الخيرات, اتقوا الله تعالى حق التقوى تستدفعوا النقم والبليَّات, اتقوا الله تعالى حق التقوى تدركوا سعادة الدنيا, وفوز الآخرة.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين, وحزبك المفلحين, وأوليائك الصالحين يا ربّ العالمين.
أيها المؤمنون!
إنَّ الناظر في أحوال الناس، يرى ممن فقدوا الأمن ما يكون له عبرة, وما يكون فيه عبرة؛ فإنَّ الإنسان إذا نظر لأحوال الأمم وما أصابها من فقد الأمن، وكيف حياتهم بعد أن فقدوا الأمنَ، يكون هذا من داوعي إفاقته, ويدعوه إلى التدبر والاستيعاب, بأسباب ذلك ونتائجه، ويكون حريصاً غاية الحرص على أن لا يصيبه ما أصابهم, وألا ينزل به ما نزل بهم, وإنَّ فَقْد الأمن الذي نُشاهده فيمن حولنا يوجب اتعاظنا واعتبارنا, فإن فقد الأمن في تلك البلدان عبرة وعظة, فلا دنيا تكون حال غياب الأمن, ولا دين تصلح حال غياب الأمن, ولهذا كانت المحافظة على الأمن ضرورة يشترك فيها الجميع, ليست خاصة لفئة أو لجهة بل مسؤولية الجميع, مسؤولية كل واحد منا أن يحافظ على أمنه الذي يعيش فيه, وأمن بلده, وأمن مَن حوله, فإن ذلك من الإحسان الذي يجب على كل واحد منَّا أن يشارك فيه قدر طاقته واستطاعته، وما يجري من تربص الأعداء بنا ومحاولتهم النيل منا في تسليط بعض أبناء هذه البلاد, سواء كان تسليطًا كلاميًّا, بإشاعة الشر والشقاق والفتنة وبذر الفرقة بين الناس, أو كان ذلك بالعمل المسلح الذي يحمل بعض أبناء هذه البلاد على زعزعة الأمن بحوادث متفرقة, لا يمكن أن يجمعها إلا جامع واحد، وهو استهداف بلادنا بكل سوء وشرٍّ لزعزعة أمنها والنيل من وحدتها.
إنَّ ما جرى في رمضان الماضي من اعتداء فئة على بعض أطراف البلاد, وما جرى بالأمس القريب من اعتداء فئة على جماعة من المواطنين بقتل بعضهم، كله يجري في مساقٍ واحد, إنه لا يقيم حقًّا، ولا يسعى إلى إصلاح، ولا يمكن أن يبرِّرَه مبرِّر، إنه فساد في الأرض, كل واحد منا مستهدف بهذه الحادثة، وبتلك الحوادث المتوالية التي تتابع للنيل من أمننا, إننا نصبح ونمسي في نِعَم لا يعلمها إلا الله, قَلَّ شكرنا فنسأل الله أن يغفر لنا ما قصرنا فيه, لكن هذه النِعَم إذا لم نتنبّه إلى ضرورة المحافظة عليها وقطع الطريق على المفسدين تحت أي شعار وتحت أي تبرير؛ فإننا على خطر عظيم, إن هؤلاء يسعون إلى زعزعة قبلة المسلمين, نحن نسير ونجوب الفيافي والقفار الواحد منا يركب سيارته ويمشي آلاف الكيلو مترات لا يخاف إلا الله, أترون أنَّ هذه النعمة ستكون لو اختل الأمن؟! والله لن تدوم ولن يتحرك الواحد إلى عمله لا إلى بلد آخر بعيد! إلا و هو قد اصطحب سلاحه، ولم يأمن على نفسه حتى مع ما معه من سلاح.
فالواجب علينا أن نستشعر أن المستهدف هو ديننا، هو أمننا، هو مكتسباتنا, فلذلك يجب علينا أن نفيق.
إن حفظ الأمن ليس مسؤولية لرجال الأمن فحسب, إنهم يقومون بما يقومون به من واجبات لكن ذلك لا يكفي في تحقيق الأمن, إذا لم نكن عونًا, التعاطف مع هؤلاء أو التبرير لهم أو البحث عن مسوِّغات، كل ذلك مشاركة في الجريمة, فمن برر لهؤلاء الأشرار االفجار الذين اعتدوا على المواطنين في الأحساء, والذين قتلوا رجال الأمن في القصيم, فقد شاركهم في الدم الذي أُريق بغير حق, وله نصيب من وزر قبيح أعمالهم وفسادهم في الأرض.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يرفع عنا وعنكم البلاء, وأن يحمي هذه البلاد من المتربِّصين بها, اللهمَّ اجمع كلمتنا على الحق والهدى, اللهم ألِّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا, اللهمَّ من سعى بيننا بشر أو فساد أو فرقة أو شقاق، اللهم اجعل كيده في نحره, اللهم اجعل كيده في نحره, اللهم افضح أمره, اللهم أفسد سعيه, اللهم أفشل مخططاته, اللهم اجعل دائرة السوء عليه يارب العالمين, اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين, اللهم آمِنَّا في أوطاننا, وأصلح أئمتنا ولاة أمورنا, وأجعل ولايتنا فيمن خافك, واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين, اللهم وفِّق رجال الأمن إلى ما فيه خير العباد والبلاد, اللهم أعِنهم وسدِّدهم، اللهمَّ أعنهم وسدِّدهم، اللهمَّ أعِنهم وسدِّدهم، اللهم ارزقهم البصيرة، واحمهم ممن يتربص بهم يا ربَّ العالمين, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين .