بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيْم الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابهِ أجمعين. أمَّا بعد. فإنَّ من أعظم الطُّرق التي يُحَصَّلُ بها العلمُ، وتُسْتَفْتحُ بها أبوابه، وتُدرك بها مقاصدُه، وتُنال بها أعلى المراتبِ، دوامُ القراءةِ والمطالعةِ في الكتب النَّافعة، فقد قيل: « كانَ العلمُ في صدورِ الرِّجال، ثمَّ انتقل إلى بطونِ الكتب، وصارت مفاتحُه بأيدي الرِّجال» من أقوال الإمام الشَّاطبيِّ رحمه الله.، ولذلك بقدر ما يكونُ معك من القِراءةِ والاطِّلاعِ والفهمِ لما تقرأُ، بقدر ما تنالُ من العلم وتُدرك. وإنَّ مما درجَ عليه أهلُ العِلم وتواصَوا به في قراءاتهم ومطالعاتهم: تقييدُ الفوائدِ وتدوينها، فإنَّ الكتابةَ والتدوين، قيدٌ يوثِّق به القارئُ ما وقفَ عليه من الفوائدِ والمعارف. العِلمُ صَيدٌ والكِتابةُ قَيدُهُ*** قَيِّدْ صيودكَ بالحِبالِ الواثِقَة. فَمِن الحَماقَةِ أَنْ تَصيدَ غَزالَةً*** وتَترُكها بَينَ الخَلائقِ طالِقةَ يُنسب هذان البيتان إلى الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله. فينبغي على طالبِ العلمِ الحِرصُ على تقييدِ الفوائدِ، وإن قلَّت، وألا يغترَّ بذكره لها وحضورِها في ذهنه، فسَرعان ما يعتريها النِّسْيانُ ويُغيِّبُها طولُ الزَّمان، فيطلبُها ولا يجِدُها، قال النَّوويُّ رحمه الله (ت:676هـ) في وصيَّته : "ولا يَحتقِرنَّ فائدةً يراها أو يسمعُها، في أيِّ فنٍّ كانت، بل يُبادر إلى كتابتِها، ثم يُواظب على مطالعةِ ما كتبه".اهـ"المجموع" (1/39). وقد منَّ الله تعالى عليَّ بقراءة "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله (ت:728هـ) عدَّة مراتٍ، وكنت أقيِّد ما يمرُّ عليَّ من فوائدَ في غلاف الكتاب، فاجتمع لي فوائدُ كثيرةٌ لم أكن أعرف قيمةَ تقييدها، إلا عندما راجعتُها وطالعتُها بعد زمنٍ من تدوينها، فوجدتُ فيها كنوزاً من العلم، وخُلاصَاتٍ من القواعد، وفرائدَ من المسائل، وقد اطَّلَع عليها بعضُ المحبِّين، فرغِبوا إليَّ في إخراجها ليُنتفع بها ، فقمتُ باستخلاصِ تلك الفوائدِ من أغلفة الكتب وجمعها، وقد رتبتُها حسب تسلسُل ورودها ضمنَ "مجموع الفتاوى". فالحمدُ للهِ على ما وفَّق، وأسألُه -جلَّ وعلا- أن ينفعَ بها من طالعها، وأن يجعلَها خالصةً لوجهِهِ الكَريم، وصَلَّى اللهُ وسلَّم على خاتم المرسَلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ الطَّيِّبينَ وأصحابهِ أجمعين. كتبه خالد بن عبد الله المصلح 39- كلما كان أشد افتقارا إلى الله كان أعظم قدرا عند الخلق. "كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له : كان أقرب إليه ، وأعز له ، وأعظم لقدره ، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله . وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ، ولقد صدق القائل : بين التذلل والتدلل نقطة * * * في رفعها تتحير الأفهام ذاك التذلل شــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرك * * * فافــــــــــــــــهم يا فتى بالخلف فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق : إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم : كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ، ليكون الدين كله لله ، ولا يشرك به شيء" "مجموع الفتاوى ( 1/39 ). 51 - السعادة في معاملة الخلق. "السعادة في معاملة الخلق : أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله ، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم . كما جاء في الأثر : " ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله " أي : لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم لا رجاء مدحهم ولا خوفا من ذمهم بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه . وفي الحديث : ﴿إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله أو تذمهم على ما لم يؤتك الله﴾ فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا ، فيترك القيام فيهم بأمر الله ؛ لما يرجوه منهم . وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم ؛ وذلك من ضعف اليقين وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك : فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ؛ لكن من حمده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المحمود ومن ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو المذموم . ولما قال بعض وفد بني تميم : يا محمد أعطني فإن حمدي زين وإن ذمي شين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :» ذاك الله عز وجل » . وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم « من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا » هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف : " من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما " هذا لفظ المأثور عنها وهذا من أعظم الفقه في الدين . والمرفوع أحق وأصدق فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه ، وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كاف عبده ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ . فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب وأما كون الناس كلهم يرضون عنه : فقد لا يحصل ذلك لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا كالظالم الذي يعض على يده يقول : ﴿يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾ وأما كون حامده ينقلب ذاما : فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة فإن العاقبة للتقوى لا يحصل ابتداء عند أهوائهم وهو سبحانه أعلم" "مجموع الفتاوى (1 /51 - 52 ).