تفسير سورة الليل
وهي مكية.
تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: "فهلا صليت ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " ؟ ".
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة: أنه قدم الشام فدخل مسجد دمشق، فصلى فيه ركعتين وقال: اللهم، ارزقني جليسًا صالحًا. قال: فجلس إلى أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ؟ قال علقمة: "والذكر والأنثى". فقال أبو الدرداء: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال هؤلاء حتى شككوني. ثم قال: ثم ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره، والذي أجير من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم؟.
وقد رواه البخاري هاهنا ومسلم، من طريق الأعمش، عن إبراهيم قال: قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم، فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلنا، قال: أيكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة، فقال: كيف سمعته يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ قال: "والذكر والأنثى". قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوني أن أقرأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} والله لا أتابعهم.
هذا لفظ البخاري: هكذا قرأ ذلك ابن مسعود، وأبو الدرداء -ورفعه أبو الدرداء-وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو مُثبَت في المصحف الإمام العثماني في سائر الآفاق: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى}
فأقسم تعالى بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: إذا غَشيَ الخليقةَ بظلامه، {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: بضيائه وإشراقه، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} كقوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} النبأ: 8 ، وكقوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} الذاريات: 49 .
ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان القسم عليه أيضا متضادا؛ ولهذا قال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضًا ومتخالفة، فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا.
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أي: أعطى ما أمر بإخراجه، واتقى الله في أموره، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالمجازاة على ذلك -قاله قتادة، وقال خَصِيف: بالثواب. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، وزيد بن أسلم: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالخلف. وقال أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بلا إله إلا الله. وفي رواية عن عكرمة: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بما أنعم الله عليه. وفي رواية عن زيد بن أسلم: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} قال: الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرة: وصدقة الفطر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زُهَير بن محمد، حدثني مَن سَمِع أبا العالية الرياحي يُحدث عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال: "الحسنى: الجنة".
وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قال ابن عباس: يعني للخير. وقال زيد بن أسلم: يعني للجنة.
وقال بعض السلف: من ثواب الحسنةُ الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئةُ بعدها؛