×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح

المكتبة المقروءة / محاضرات / تأملات في السيرة النبوية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، أحمده حق حمده، أحق من ذكر وأعظم من حمد وأثني عليه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله أيها الإخوة الكرام في هذا اللقاء المبارك، في هذه البقعة الطاهرة المباركة، في هذا اليوم العظيم، في ليلة عرفة من منى، أسأل الله عز وجل أن يبارك لي ولكم في حجنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيننا وإياكم على تحقيق الحج المبرور الذي به تبلغ الأماني وتدرك المطالب، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. أيها الإخوة الكرام، عندما يتحدث الإنسان عنن شخص له مكانة ومنزلة، تعجز الألفاظ وتضيق أوجه البيان في بيان مكانته ومنزلته. هذا فيما إذا كان يتحدث عن شخص ذي تأثير ومكانة في الأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالصحابة الكرام رضي الله عنهم، والأئمة العظام، على تعاقب الليالي والأيام، في تاريخ الأمة المجيد. تعجز الألفاظ عن أن توفي أولئك الأبرار وأولئك الأعلام ما لهم من مكانة، وأن توفي ما لهم من مزايا، وأن توفي ما قدموه للأمة وما تركوه من بصمات مباركة في أمتهم، فكيف إذا كان الحديث عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ كيف إذا كان الحديث عن سيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم؟ وكيف إذا كان الحديث عن صفوة الله من خلقه؟ إن الأمر يختلف تماما، فمهما أوتي الإنسان من البيان، وفتح عليه في أوجه الفصاحة وقوة اللسان، فإنه سيقصر عن توضيح ما كان عليه خير الأنام صلى الله عليه وسلم من المكانة والمنزلة. كيف إذا كان الحديث عن سيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم؟ كيف إذا كان الحديث عن صفوة الله من خلقه؟ إن الأمر يختلف تماما، فمهما أوتي الإنسان من البيان، وفتح عليه في أوجه الفصاحة وقوة اللسان، فإنه سيقصر عن توضيح ما كان عليه خلق الأنام صلى الله عليه وسلم من المكانة والمنزلة. يكفيه فضلا ومكانة أن الله اصطفاه وشهد له بالكمال البشري وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم } +++ القلم: 4---، يكفيه منزلة ومكانة أن الله تعالى رفع قدره، وبلغه منزلة لم يبلغها أحد من الأولين والآخرين، ليس فقط في فضائله وشمائله وخصائصه وما كان عليه من طيب الأخلاق صلى الله عليه وسلم وحسن السجايا، بل الأمر يتعلق بما خصه به من عظيم المكانة والقرب منه جل في علاه، فقد أعلى الله منزلته ورفع مكانته وأدناه منه جل في علاه حتى بلغ مقاما لم يبلغه أحد من الأولين والآخرين؛ بلغ مقاما في ليلة المعراج سمع فيه صرير الأقلام، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. الأقلام التي تجري بأقدار الكريم المنان جل في علاه، الأقلام التي يستنسخ بها ما في اللوح المحفوظ.. وهذه منزله لم يبلغها أحد، وقصر عنها كل خلق الله عز وجل من الإنس والجن والملائكة وغيرهم ممن خصهم الله تعالى بالمزية والمكانة. أيها الإخوة، عندما نتحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحن نتحدث عن الكمال البشري؛ عن الأسوة الذي جعل الله تعالى أخلاقه وشمائله وما كان عليه نجاة للبشرية، ليس في عصر ولا في مصر ولا في مكان ولا في حقبة من الزمان، بل ذلك على تعاقب الليالي والأيام، بل ذلك على مر العصور والدهور. فمحمد بن عبد الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر على مر العصور، لم يأت أحد قبله بمنزلته، كما أنه لا يبلغ أحد ممن بعده منزلته صلى الله عليه وسلم في العلم بالله، وتحقيق التقوى وكمال العبودية لله جل في علاه. «أما والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له» +++أخرجه البخاري (5063)، وأحمد (6/61) واللفظ له، ولفظ البخاري: ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)--- هكذا أخبر صلى الله عليه وسلم، ليس فخرا ولا خيلاء ولا علوا على الخلق، بل ذاك كان بيانا لما حباه الله به وما خصه به من كمال العلم به وكمال تحقيق العبودية لله عز وجل. النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الأسوة والقدوة والخير للأمة في كل باب من الأبواب، لم يستثن في ذلك بابا؛ فإذا نظرت في نفع الناس فهو الإمام المقدم في نصح الناس، وهو السابق الأول في الجهاد، فهو الشجاع المقدام، وفي التعليم والبيان كذلك، وفي القيادة والريادة، وله السبق والتقدم في حسن العشرة مع أهله وضعفاء الناس، وكان نموذجا يحتذي، لفا يشق له غبار صلى الله عليه وسلم، فكمل الله به محاسن الأخلاق في تحقيق العبودية ما بين العبد وربه في صلته بالله وفي صلته بالخلق. عندما نتحدث عن سيرته، نتحدث عن حلقات من النور ومواقف من الهداية، إننا لا نروي قصصا تملأ به المجالس ولا حكايات تسلى بها النفوس، إننا نقص حياة من جعله الله قدوة للأمة عبر الليالي والأيام، على اختلاف العصور والدهور، وعلى اختلاف الأحوال والمواقف، قدوة للصغير والكبير، للذكر والأنثى، للحاكم والمحكوم، في حال السعة والضيق، وفي حال المنشط والمكره، وفي حال الفتنة وفي حال السعة والأمن. إنه إمام الأمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليس هذا تمجيدا له فحسب؛ بل هذا بيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم حتى نعرف أهمية ما نقرؤه، وأهمية ما نسمعه، وأهمية ما نطالعه من أخباره صلى الله عليه وسلم. فأخباره ليست قصصا تروى وتملأ بها المجالس وتشنف بها الأسماع وتعطر بها الاجتماعات، إنها مدرسة، إنها منهج حياة، إنها مخرج من كل ضيق إلى كل سعة، إنها هداية، إنها أسوة كما قال الله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} +++ الأحزاب: 21---. إذن عندما نتعامل مع سيرته صلى الله عليه وسلم على هذا النحو؛ فإن نظرتنا ستختلف، فلن نقرأ سيرته على أنها نموذج من نماذج الإنجاز البشري، كغيرها من سير البشر، وكغيرها من سير الناس، ينتقى منها بعض ما فيها من إضاءات ليكمل ما في النفس من نقص. لا؛ إنه أسوة في كل لحظة، في كل دقيق وجليل، في عبادته وصلته بربه، وفي معاملته للناس وصلته بالخلق.. هذا المعنى ينبغي أن يركز في نفوسنا حتى نعلم أن قراءة سيرته وسماع أخباره ليست للمتعة ولا للابتهاج ولا للتسلية، إنما هي للعلم والعمل. فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعله الله قدوة للأمة، كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} +++الأحزاب: 21---. أيها الإخوة، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أسوة للأمة في حقبة دون حقبة، بل مر صلى الله عليه وسلم بأطوار عديدة؛ مر بهزيمة ونصر، ضعف وقوة، منشط ومكره، إقبال من الناس وإدبار.. كل ذلك كان مدرسة للأمة لتعرف كيف تتناول وتتعامل مع الأحداث على اختلافها وتنوعها، فإنه لا دوام لحال؛ بل الأمة على مر العصور تتقلب في أحوالها بين حال إلى حال. إن التأملات في السيرة ليست موقفا تقرأ فوائده، وتستنبط عظاته وعبره، إنه أكبر من ذلك؛ إننا نحتاج في البداية قبل أن نلج إلى تفاصيل الأحداث وموقف النبي صلى الله عليه وسلم هنا أو هناك، نحتاج إلى أن نعرف كيف نتعامل مع السيرة.. فما هي أهمية التأمل في السيرة؟ إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من المهم لكل مؤمن أن يعلم أنها مفتاح تحقيق الإيمان به صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»+++أخرجه البخاري (25)، ومسلم (20)---، والشهادة له بالرسالة لا تكون عن جهل بحاله، ولا عن معرفة لما جاء به، فلا تكون الشهادة كاملة ولا صادقة ولا وافية، إلا إذا كانت عن علم به صلى الله عليه وسلم؛ فالدراسة لسيرته والوقوف عند أخباره هو مما يتحقق الإيمان به صلى الله عليه وسلم. ولهذا كانت سيرته دليلا على نبوته، وقد قال ذلك جماعات من أهل العلم كما هو واضح من سير الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم أو الذين عاشروه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فسيرته وأخلاقه وأقواله وشريعته كلها من آياته"؛ أي: من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فما كان عليه من سيره، وما كان عليه من خلق، وما كان عليه من شمائل، وما كان عليه من أقوال، وما جاء به من تشريع، كل ذلك دليل على صحة نبوته ورسالته. إننا لم ندرك انشقاق القمر، ولم ندرك نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم ندرك تسبيح الطعام بين يديه، لكننا سمعنا من شمائله وأخباره وصدق ما دل على نبوته، ما تنشرح به صدور أهل الإيمان ويعلمون صدق قول الرحمن: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} +++ فصلت:  53--- والضمير يعود على الرسول في أحد الأقوال التي ذكرها المفسرون؛ أنه الحق الذي جاء بالحق من الله، الحق الذي دل على الحق الذي هو الله جل في علاه. إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قوم في عماء، كما وصف ذلك بقوله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض» ليس إلى العرب فقط، بل إلى أهل الأرض «فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» +++أخرجه مسلم (2865) --- هؤلاء البقايا هم من كانوا على أثرة من علم من النبوات السابقة، وأما عامة الخلق فكانوا في عماء. ولم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه ما يسوءه أو ما يذم به، بل تولى الله عز وجل صناعته بعينه ورحمته حتى كان على أكمل ما يكون البشر دون رسالة؛ في شمائل الأخلاق، وفي البعد عن الرذائل، وفي الصدق وفي الأمانة، وفي سائر الخصال التي تكمل بها خصال الإنسان دون الرسالات؛ من مقتضيات الفطرة ومن مقتضيات ما اجتمعت عليه فطر البشر من قبل الخصال الحميدة والخلال الحسنة. هكذا كان صلى الله عليه وسلم، فبعثه الله عز وجل وأرسل إليه رسولا، فبلغه ما بلغه من الهداية والنور والنبوة، فانتقل إلى السمو، حيث انتقل من كمال بجهد بشري إلى كمال بولاية رب العالمين ونوره وتوفيقه وتسديده ومعيته التي كانت في سمعه وبصره وقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وسلم. فانتقل صلى الله عليه وسلم إلى كمال آخر، هذا الكمال الآخر ذاع في الآفاق وسمع به الناس، فجاء الناس يتحسسون ما عنده، رغم عظم الدعاية المضادة لما كان يدعو إليه من عبادة الله وحده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاء من يتلمس أخباره؛ ليعرف حقيقة ما يدعو إليه، فجاء العرب يعرفون من أحواله وأقواله ما دعاهم إلى الإيمان به دون مرغبات، فلم يكن عنده في أوائل دعوته ما يدعو الناس إلى الإيمان به رغبة في دنيا أو طمعا في تحصيل منفعة، إنما كان القائد لإيمان أولئك الذين آمنوا  به قبل هجرته ما كان عليه من الصدق، وما كان عليه من الهداية، وما جاء به من الهدي ودين الحق، صلى الله عليه وسلم. وتسامع به الناس، فخرج صلى الله عليه وسلم بعد الأذى الشديد إلى المدينة، وكان ما كان بينه وبين قومه من مناوشات بدأت في بدر ثم أعقبتها أحد ثم الأحزاب، ثم كان ما كان من الصلح بينه وبين قومه. في هذه الأثناء ذاع صيته صلى الله عليه وسلم، بل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم إلى الآفاق يدعو العالم للإيمان به وسماع رسالته، فكان ممن بلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم هرقل؛ وهو عظيم الروم؛ أكبر دولة في ذلك الزمان، كتب إليه صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه إلى الإسلام.. وإنما أقص هذا الخبر لنعرف أن العلم بسيرته من أعظم أسباب الإيمان به، ومن أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.. فهرقل لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصل إليه، ولم يعاشره، ولم يخالطه، بل كان بعيدا عنه، وملكه ومكانته تحول دون أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع منه مباشرة. فلما جاءه الكتاب، وكان ذا عقل راجح، دعا من يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك من قومه، فجاء أبو سفيان وهو أقرب الناس من الوفد الذي حضر هرقل، فجعله بين يديه والقوم خلفه، فقال: إن كذب فأعلموني. فسأل هرقل أبا سفيان جملة من المسائل، هذه المسائل مجملها يعود إلى حقيقة ما جاء به النبي: ما هي سيرته؟ ما هي أخباره؟ ما هو حاله؟ فسأله عنه صدقا وكذبا، هل عهدتم عليه كذبا؟ هل له ملك يبحث عنه لآبائه وأجداده، ملك يريد إحياءه؟ جملة من المسائل ذكرها البخاري وغيره في صحيحه في مسائل هرقل+++ صحيح البخاري (7)، ومسلم (1773)---، جملتها تعود إلى أسئلة لاستكشاف حال النبي صلى الله عليه وسلم والنظر في سيرته وفي سيرة من آمن به، فماذا كانت النتيجة؟ إنها المفاجأة أن قال هرقل لأبي سفيان ومن حوله: إنه نبي الله، وإن صدق ما قلت فسيملك ما تحت قدمي هاتين، ولو استطعت أن أخلص إليه لغسلت التراب عن قدميه. من الذي يقول هذا؟ هرقل عظيم الروم يقول هذه الجمل، من أين استخلص هذه النتيجة؟ إنه من التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذن التأمل في السيرة يقود إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويقود إلى تحقيق الإيمان به تكميلا لأهل الإيمان وإيجادا لمن لم يكن مؤمنا به. ولذلك من أعظم وسائل الدعوة في العصر الحديث التي غفل عنها كثير من المسلمين؛ أن يبين للناس سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واسم محمد اسم معروف وشهير في العالم، حتى أصبحت بعض الدول الكافرة في أوربا وغيرها الاسم الأول في البلد للمواليد محمد، أليس حريا بأهل الإسلام أن يقدموا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا مبالغة ولا غلو ولا زيادة؟ ففي سيرته من أنوار رسالته واصطفاء الله له ما يكفي عن أن يجتهد البشر زيادة في مقامه ورفعة في منزلته، فقد بلغه الله منزلة تقصر عنه كل الاجتهادات التي تسعى إلى رفعه صلى الله عليه وسلم. ومن رفعه الله فلا خافض له، وقد رفعه الله وأعلى ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن حقه أيها الإخوة على أمته جماعات وأفرادا أن يبذلوا الجهد في بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فسيرته تأسر القلوب، وعندما تقرأ ما كتبه وما تفوه به عظماء الزمان ممن طالعوا سيرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم تعرف يقينا أن إظهار سيرته على النحو الذي كان عليه دون مبالغة ودون تتبع لشواذ الأخبار وضعيفها، إنما ما صح وثبت من سيرة خير الأنام وما ذكره أصحاب السير عنه صلى الله عليه وسلم، كاف في بيان فضله وعظيم منزلته صلى الله عليه وسلم. إن الإيمان به والتأمل في سيرته هو الطريق الذي يحقق المؤمن به العبودية لله عز وجل. قد يقول قائل: هذه مبالغة! فأقول: لا والله ليست مبالغة؛ إن تحقيق كمال العبودية لله عز وجل مرهون بكمال العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.. عندما نعرف أن السيرة ليست قصصا تروى، ولا حكايات تسرد، إنما هو بيان لما كان عليه قولا وعملا، ظاهرا وباطنا، وفي سره، وفي منشطه ومكرهه صلى الله عليه وسلم، وفي خاصته وبين الناس؛ نعرف أنه لا يمكن أن يحقق الإنسان كمال العبودية لله عز وجل إلا من خلال سيرته صلى الله عليه وسلم. أتعلمون أصح كتاب بعد كتاب الله، ما هو؟ صحيح البخاري.. صحيح البخاري ما حقيقته؟ إنه الجامع لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وسيرته وأيامه، إنه جامع لسيرته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وغزواته وأيامه صلى الله عليه وسلم. وهو كتاب من الكتب العلمية العظمى التي عكف العلماء على دراستها وشرحها وبيان ما فيها من العلوم والكنوز، هذا السفر المبارك هو سيرة رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لأحد أن يحقق العبودية لله عز وجل إلا بمعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.. كيف كان يعبد ربه؟ وكيف كان يعامل الخلق؟ وكيف كان في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وفي سائر أحواله صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا كلما زاد نصيب الإنسان علما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من طيب الأخلاق وكريم الشيم والخصال؛ زاد نصيبه من العلم بالله ومعرفة الطريق الموصل إلى الله جل وعلا. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تبليغ الأمة دقيق الأمر وجليله، حتى لم يترك شيئا تحتاج الأمة إلية إلا وقد بينه ووضحه، وتركنا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ليس فقط في شأن معاملة العبد لله عز وجل وفي شأن العبودية، بل في هذا الشأن وفي كل شأن. يقول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}. ويقول جل في علاه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} +++ الحشر: 7 . ---. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» +++ أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674). --- ، وفي الحج يقول صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم» +++أخرجه مسلم (2877). ---. فلا يمكن لأحد أن يحقق كمال العبودية لله إلا بتحقيق العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم. وهنا نحتاج إلى أن نشيع بين الناس أن السيرة ليست فقط سيرة ابن هشام، وليست فقط سيرة ابن كثير، وليست فقط الرحيق المختوم، وليست فقط ذاك أو ذاك من الكتب التي تناولت غزواته، إنها أوسع من ذلك. إن السيرة تشمل صحيح البخاري وصحيح مسلم ودواوين السنة جميعا، بل وحتى المختصرات، كبلوغ المرام والأربعين النووية وغيرها من كتب الأحكام التي جمعت أصول أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهي من سيرته. وعندها تتسع الرؤية ويتسع الأفق في فهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ليست قصصا للترويح عن النفس والاستئناس بذكره صلى الله عليه وسلم، إنها أبعد من ذلك، إنها إيمان به، إنها دليل على نبوته، إنها الطريق الذي يحقق به المؤمن العبودية لله عز وجل. فكلنا يرجو أن يبلغ ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري +++رقم (15)--- ومسلم +++رقم (44)--- من حديث أنس: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». وفي حديث عمر لما قال: والله يا رسول الله إنك أحب الناس إلي إلا من نفسي، قال: «لا حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال: أنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآن يا عمر» +++ صحيح البخاري (6632) ---. الآن كملت الإيمان، الآن حققت كمال الإيمان به صلى الله عليه وسلم.. وهذا المعنى لا يمكن أن يتحقق لمن كان لا يعرف أخباره صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من كريم الخصال وطيب الأخلاق. إن جزءا من أسباب صلاح الأمة في عهدها الأول هو قربها منه وشهودها له صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كلما كانت الأمة قريبة من سيرته، عارفة بهديه، مطلعة على أخباره؛ كان ذلك من علامات صحتها وسلامة منهجها وطريقها، وخروجها من الأزمات والمضايق. أيها الإخوة، إن الحديث عن السيرة حديث ذو شجون، وهنا يقف الإنسان عند جفاة لا يعرفون من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلا نتفا من أحاديث الأحكام، وغلاة في محبته أهدروا سيرته المتعلقة بمنهج الحياة وعكفوا على أخبار ضعيفة يتناقلونها من كتب السير، والسيرة الحقيقية هي معرفة ما كان عليه في كل شأن؛ في علاقته بربه وفي علاقته بالخلق وفي سائر أيامه ولياليه صلى الله عليه وسلم.. وإن لمحة موجزة في معرفة سيرته في حجه تدعو القلوب إلى محبته.. إن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه من المدينة إلى رجوعه، وهي أيام معدودة، إذا حرص المؤمن على مطالعتها وكيف حج النبي صلى الله عليه وسلم بما أننا في أيام الحج وأعماله، ويمر علينا كثير من أخباره صلى الله عليه وسلم في حجه، كيف كان في عرفة .. وكيف كان في المزدلفة.. وماذا صنع في منى، وكيف كان لما قدم إلى مكة، وماذا قال لأصحابه وكيف ردوا عليه.. ومعاملته العامة للأمة، ومعاملته الخاصة لأفرادها، في شأنه الخاص.. في زوجاته وسائر من احتك به صلى الله عليه وسلم ممن نقل عنه خبر معايشته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ يرى عجبا في هذه البرهة المختصرة التي لا تتجاوز القريب من العشرين يوما أو أقل من ذلك.. ويرى من دلائل نبوته وصدقه ومحبته وتحقيق العبودية لله عز وجل، ما يحقق تلك المعاني كلها. لذلك من المهم أن نستحضره في حجنا، ليس فقط في جانب من الأعمال والأحكام، بل في العمل القلبي قبل العمل الصوري؛ كيف كان قلبه صلى الله عليه وسلم في حجه؛ فهذا معنى يغيب عن كثير منا.. إنه في غاية الذل لله عز وجل، وفي غاية الخضوع له، وانعكس هذا الذل والخضوع القلبي الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم في أخلاقه، فحج صلى الله عليه وسلم على رحل رث وعلى قطيفة يقول الراوي: لا تساوي أربعة دراهم. فهو في غاية التواضع، وفي غاية الذل لله عز وجل، وفي غاية الحرص على نفع الناس، لذلك طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته ليراه الناس ويتأسوا به. ولما وقف في عرفة في ذلك الموقف العظيم لم ينعزل عن الناس في زاوية، وكان قادرا على أن تضرب له أفضل القباب، فهو سيد العرب، وسيد الجزيرة في ذلك الوقت. كل الناس دانوا له صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم على راحلته التي كانت برحل رث، وهي زاملته –يعني التي عليها طعامه وشرابه صلى الله عليه وسلم- ما كان عنده رحل ثان للعفش والمتاع، بل كان رحله ومتاعه على نفس البعير الذي حج عليه صلى الله عليه وسلم. وكان واقفا من بعد الزوال إلى غروب الشمس، وقد تربص بمكان يكون فيه بارزا للناس، فجعل بطن راحلته إلى الصخرات وحبل الناس بين يديه صلى الله عليه وسلم لينفعهم وليأتسوا به، وليقتدوا بما كان عليه صلى الله عليه وسلم، وإن أشكل عليهم شيء أخذوا عنه ورجعوا إليه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}+++ النحل: 43--- . هكذا كان صلى الله عليه وسلم في غاية الذل لله عز وجل والتواضع للخلق وإظهار العبودية لله عز وجل، قولا وعملا، وفي غاية الرأفة والرحمة، فكان يأمر الناس بالهدوء والسكينة: «عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع» +++ صحيح البخاري (1671). ---. إنها كلمات يا إخوان تمثل منهج حياة؛ تختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين لم يشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم طوال السنوات الخالية حجوا معه فأدركوا ما كان عليه من الرحمة والنصح والإخلاص لله عز وجل، والإحسان للخلق، وتحقيق العبودية، والتواضع، والذل لله جل في علاه، وحسن الصحبة للصغير والكبير، فكان لا يردف معه عظماء الناس، بل يردف معه الصغار ترفقا بهم، على خلاف حال الكبراء فإنهم لا يردفون معهم إلا من يشار إليهم بالبنان. هكذا كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فتأمل، وأنا أدعو نفسي وإياكم بما أننا في الحج أن نتأمل سيرته ونسجل أبرز معالم سيرته في حجه، وأجزم أن هذا الذي سنستخلصه من خلال مطالعتنا في سيرته سنجده ملخصا لرسالته وبيانا لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من أخلاق امتدت عبر سنوات اختصرها في أيام معدودات. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنا نسألك باسمك العظيم أن ترزقنا حجا مبرورا وسعيا مشكورا، اللهم يا ربنا اسلك بنا سبيل الرشاد، وأعنا على الطاعة والإحسان، ووفقنا إلى ما تحب وترضى من الأعمال، اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا، اللهم بلغنا فيه الأماني يا حي يا قيوم بفضلك وإحسانك وكرمك وعظيم جودك، اللهم اجعلنا من أوفر عبادك نصيبا من رحمتك وعطائك وإحسانك يا رب العالمين. اللهم اجعلنا ممن يتبعون سنة نبينا محمد ظاهرا وباطنا، اللهم ارزقنا محبته واحشرنا في زمرته، واجعلنا من حزبه وأوليائه.. اللهم يا رب العالمين، ارزقنا شفاعته وارزقنا الذب عن سنته والقيام بحقه ظاهرا وباطنا.. ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. 

المشاهدات:7958

الحمد لله حمدًا كثيـرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حقَّ حمده، أحقُّ من ذُكر وأعظم من حُمد وأُثني عليه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنـى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمـدًا عبد الله ورسوله، وصفيّه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيَّاكم الله أيها الإخوة الكرام في هذا اللقاء المبارك، في هذه البقعة الطاهرة المباركة، في هذا اليوم العظيم، في ليلة عرفة من مِنى، أسأل الله عز وجل أن يبارك لي ولكم في حجنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيننا وإياكم على تحقيق الحج المبرور الذي به تُبلغ الأماني وتُدرك المطالب، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
أيها الإخوة الكرام، عندما يتحدث الإنسان عنن شخص له مكانة ومنزلة، تعجِز الألفاظ وتضيق أوجه البيان في بيان مكانته ومنزلته. هذا فيما إذا كان يتحدث عن شخص ذي تأثير ومكانة في الأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالصحابة الكرام رضي الله عنهم، والأئمة العظام، على تعاقب الليالي والأيام، في تاريخ الأمة المجيد.
تعجز الألفاظ عن أن توفي أولئك الأبرار وأولئك الأعلام ما لهم من مكانة، وأن توفي ما لهم من مزايا، وأن توفي ما قدموه للأمة وما تركوه من بصمات مباركة في أمتهم، فكيف إذا كان الحديثُ عن سيّد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
كيف إذا كان الحديث عن سيرة خير الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم؟
وكيف إذا كان الحديث عن صفوة الله من خلقه؟
إنَّ الأمر يختلف تمامًا، فمهما أُوتي الإنسان من البيان، وفُتح عليه في أوجه الفصاحة وقوة اللسان، فإنه سيقصر عن توضيح ما كان عليه خير الأنام صلى الله عليه وسلم من المكانة والمنزلة.

كيف إذا كان الحديث عن سيرة خير الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم؟
كيف إذا كان الحديث عن صفوة الله من خلقه؟
إنَّ الأمر يختلف تمامًا، فمهما أوتي الإنسان من البيان، وفُتح عليه في أوجه الفصاحة وقوة اللسان، فإنه سيقصر عن توضيح ما كان عليه خلق الأنام صلى الله عليه وسلم من المكانة والمنزلة.
يكفيه فضلًا ومكانةً أن الله اصطفاه وشهد له بالكمال البشري وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } القلم: 4، يكفيه منزلة ومكانة أن الله تعالى رفع قدره، وبلَّغه منزلة لم يبلغها أحد من الأولين والآخرين، ليس فقط في فضائله وشمائله وخصائصه وما كان عليه من طيب الأخلاق صلى الله عليه وسلم وحسن السجايا، بل الأمر يتعلق بما خصه به من عظيم المكانة والقرب منه جل في علاه، فقد أعلى الله منزلته ورفع مكانته وأدناه منه جل في علاه حتى بلغ مقامًا لم يبلغه أحدٌ من الأولين والآخرين؛ بلغ مقامًا في ليلة المعراج سمع فيه صَرير الأقلام، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. الأقلام التي تجري بأقدار الكريم المنان جل في علاه، الأقلام التي يُستنسخ بها ما في اللوح المحفوظ.. وهذه منزله لم يبلغها أحد، وقصر عنها كلُّ خلق الله عز وجل من الإنس والجن والملائكة وغيرهم ممن خصهم الله تعالى بالمزية والمكانة.
أيها الإخوة، عندما نتحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحن نتحدث عن الكمال البشري؛ عن الأسوة الذي جعل الله تعالى أخلاقه وشمائله وما كان عليه نجاةً للبشرية، ليس في عصر ولا في مصر ولا في مكان ولا في حقبة من الزمان، بل ذلك على تعاقب الليالي والأيام، بل ذلك على مر العصور والدهور.
فمحمد بن عبد الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم هو أكمل البشر على مر العصور، لم يأتِ أحد قبله بمنزلته، كما أنه لا يبلغ أحد ممن بعده منزلته صلى الله عليه وسلم في العلم بالله، وتحقيق التقوى وكمال العبودية لله جل في علاه.
«أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» أخرجه البخاري (5063)، وأحمد (6/61) واللفظ له، ولفظ البخاري: ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له) هكذا أخبر صلى الله عليه وسلم، ليس فخرًا ولا خيلاء ولا علوًّا على الخلق، بل ذاك كان بيانًا لِما حباه الله به وما خصه به من كمال العلم به وكمال تحقيق العبودية لله عز وجل.
النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الأسوة والقدوة والخير للأمة في كل باب من الأبواب، لم يستثنِ في ذلك بابًا؛ فإذا نظرت في نفع الناس فهو الإمام المقدَّم في نصح الناس، وهو السابق الأول في الجهاد، فهو الشجاع المقدام، وفي التعليم والبيان كذلك، وفي القيادة والريادة، وله السبق والتقدم في حُسن العشرة مع أهله وضعفاء الناس، وكان نموذجًا يُحتذي، لفا يُشقُّ له غبار صلى الله عليه وسلم، فكمّل الله به محاسن الأخلاق في تحقيق العبودية ما بين العبد وربه في صلته بالله وفي صلته بالخلق.
عندما نتحدَّث عن سيرته، نتحدث عن حلقات من النور ومواقف من الهداية، إنَّنا لا نروي قصصًا تُملأ به المجالس ولا حكايات تُسلى بها النفوس، إننا نقصُّ حياة من جعله الله قدوة للأمة عبر الليالي والأيام، على اختلاف العصور والدهور، وعلى اختلاف الأحوال والمواقف، قدوة للصغير والكبير، للذكر والأنثى، للحاكم والمحكوم، في حال السَّعة والضيق، وفي حال المنشط والمكره، وفي حال الفتنة وفي حال السعة والأمن.
إنه إمام الأمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليس هذا تمجيدًا له فحسب؛ بل هذا بيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم حتى نعرف أهمية ما نقرؤه، وأهمية ما نسمعه، وأهمية ما نطالعه من أخباره صلى الله عليه وسلم.

فأخباره ليست قصصًا تُروى وتُملأ بها المجالس وتُشنَّف بها الأسماع وتُعطر بها الاجتماعات، إنها مدرسة، إنها منهج حياة، إنها مخرج من كل ضيق إلى كل سعة، إنها هداية، إنها أسوة كما قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب: 21.
إذن عندما نتعامل مع سيرته صلى الله عليه وسلم على هذا النحو؛ فإن نظرتنا ستختلف، فلن نقرأ سيرته على أنها نموذج من نماذج الإنجاز البشري، كغيرها من سير البشر، وكغيرها من سير الناس، يُنتقى منها بعض ما فيها من إضاءات ليكمل ما في النفس من نقص.
لا؛ إنه أسوة في كل لحظة، في كل دقيق وجليل، في عبادته وصلته بربه، وفي معاملته للناس وصلته بالخلق.. هذا المعنى ينبغي أن يركز في نفوسنا حتى نعلم أن قراءة سيرته وسماع أخباره ليست للمتعة ولا للابتهاج ولا للتسلية، إنما هي للعلم والعمل.
فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعله الله قدوة للأمة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الأحزاب: 21.
أيها الإخوة، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أسوةً للأمة في حقبة دون حقبة، بل مرَّ صلى الله عليه وسلم بأطوار عديدة؛ مرَّ بهزيمة ونصر، ضعف وقوة، منشط ومكره، إقبال من الناس وإدبار.. كل ذلك كان مدرسة للأمة لتعرف كيف تتناول وتتعامل مع الأحداث على اختلافها وتنوعها، فإنَّه لا دوام لحال؛ بل الأمة على مر العصور تتقلب في أحوالها بين حال إلى حال.
إن التأملات في السيرة ليست موقفًا تُقرأ فوائده، وتُستنبط عظاته وعبره، إنه أكبر من ذلك؛ إننا نحتاج في البداية قبل أن نلج إلى تفاصيل الأحداث وموقف النبي صلى الله عليه وسلم هنا أو هناك، نحتاج إلى أن نعرف كيف نتعامل مع السيرة.. فما هي أهمية التأمل في السيرة؟
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من المهم لكل مؤمن أن يعلم أنها مفتاح تحقيق الإيمان به صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»أخرجه البخاري (25)، ومسلم (20)، والشهادة له بالرسالة لا تكون عن جهل بحاله، ولا عن معرفة لِما جاء به، فلا تكون الشهادة كاملة ولا صادقة ولا وافيةً، إلا إذا كانت عن علم به صلى الله عليه وسلم؛ فالدراسة لسيرته والوقوف عند أخباره هو مما يتحقق الإيمان به صلى الله عليه وسلم. ولهذا كانت سيرته دليلًا على نبوته، وقد قال ذلك جماعات من أهل العلم كما هو واضح من سير الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم أو الذين عاشروه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فسيرته وأخلاقه وأقواله وشريعته كلها من آياته"؛ أي: من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فما كان عليه من سيره، وما كان عليه من خلق، وما كان عليه من شمائل، وما كان عليه من أقوال، وما جاء به من تشريع، كل ذلك دليل على صحة نبوته ورسالته.
إننا لم ندرك انشقاق القمر، ولم ندرك نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم ندرك تسبيح الطعام بين يديه، لكنَّنا سمعنا من شمائله وأخباره وصدق ما دلَّ على نبوته، ما تنشرح به صدور أهل الإيمان ويعلمون صدق قول الرحمن: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فصلت:  53 والضمير يعود على الرسول في أحد الأقوال التي ذكرها المفسرون؛ أنه الحق الذي جاء بالحق من الله، الحق الذي دل على الحق الذي هو الله جلَّ في علاه.
إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قوم في عماء، كما وصف ذلك بقوله: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ» ليس إلى العرب فقط، بل إلى أهل الأرض «فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» أخرجه مسلم (
2865) هؤلاء البقايا هم من كانوا على أثرة من علم من النبوات السابقة، وأما عامَّة الخلق فكانوا في عماء.

ولم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه ما يسوءه أو ما يُذم به، بل تولى الله عز وجل صناعته بعينه ورحمته حتى كان على أكمل ما يكون البشر دون رسالة؛ في شمائل الأخلاق، وفي البعد عن الرذائل، وفي الصدق وفي الأمانة، وفي سائر الخصال التي تكمل بها خصال الإنسان دون الرسالات؛ من مقتضيات الفطرة ومن مقتضيات ما اجتمعت عليه فطر البشر من قبل الخصال الحميدة والخلال الحسنة.

هكذا كان صلى الله عليه وسلم، فبعثه الله عز وجل وأرسل إليه رسولًا، فبلغه ما بلغه من الهداية والنور والنبوة، فانتقل إلى السمو، حيث انتقل من كمال بجهد بشري إلى كمال بولاية رب العالمين ونوره وتوفيقه وتسديده ومعيته التي كانت في سمعه وبصره وقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وسلم.
فانتقل صلى الله عليه وسلم إلى كمالٍ آخر، هذا الكمال الآخر ذاع في الآفاق وسمع به الناس، فجاء الناس يتحسسون ما عنده، رغم عِظم الدعاية المضادة لما كان يدعو إليه من عبادة الله وحده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاء من يتلمس أخباره؛ ليعرف حقيقةَ ما يدعو إليه، فجاء العرب يعرفون من أحواله وأقواله ما دعاهم إلى الإيمان به دون مرغبات، فلم يكن عنده في أوائل دعوته ما يدعو الناس إلى الإيمان به رغبة في دنيا أو طمعًا في تحصيل منفعة، إنما كان القائد لإيمان أولئك الذين آمنوا  به قبل هجرته ما كان عليه من الصدق، وما كان عليه من الهداية، وما جاء به من الهدي ودين الحق، صلى الله عليه وسلم.
وتسامع به الناس، فخرج صلى الله عليه وسلم بعد الأذى الشديد إلى المدينة، وكان ما كان بينه وبين قومه من مناوشات بدأت في بدر ثم أعقبتها أحد ثم الأحزاب، ثم كان ما كان من الصلح بينه وبين قومه. في هذه الأثناء ذاع صيته صلى الله عليه وسلم، بل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم إلى الآفاق يدعو العالم للإيمان به وسماع رسالته، فكان ممن بلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم هرقل؛ وهو عظيم الروم؛ أكبر دولة في ذلك الزمان، كتب إليه صلى الله عليه وسلم كتابًا يدعوه إلى الإسلام.. وإنما أقصُّ هذا الخبر لنعرف أن العلم بسيرته من أعظم أسباب الإيمان به، ومن أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.. فهرقل لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصل إليه، ولم يعاشره، ولم يخالِطه، بل كان بعيدًا عنه، وملكه ومكانته تحول دون أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ليستمعَ منه مباشرة.
فلما جاءه الكتاب، وكان ذا عقلٍ راجح، دعا من يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك من قومه، فجاء أبو سفيان وهو أقرب الناس من الوفد الذي حضر هرقل، فجعله بين يديه والقوم خلفه، فقال: إن كذب فأعلموني. فسأل هرقل أبا سفيان جملة من المسائل، هذه المسائل مجملها يعود إلى حقيقة ما جاء به النبي: ما هي سيرته؟ ما هي أخباره؟ ما هو حاله؟ فسأله عنه صدقًا وكذبًا، هل عهدتم عليه كذبًا؟ هل له مُلكٌ يبحث عنه لآبائه وأجداده، ملك يريد إحياءه؟
جملة من المسائل ذكرها البخاري وغيره في صحيحه في مسائل هرقل صحيح البخاري (7)، ومسلم (1773)، جملتها تعود إلى أسئلة لاستكشاف حال النبي صلى الله عليه وسلم والنظر في سيرته وفي سيرة من آمن به، فماذا كانت النتيجة؟
إنها المفاجأة أن قال هرقل لأبي سفيان ومن حوله: إنه نبي الله، وإن صدق ما قلت فسيملك ما تحت قدمي هاتين، ولو استطعت أن أخلص إليه لغسلت التراب عن قدميه. من الذي يقول هذا؟
هرقل عظيم الروم يقول هذه الجمل، من أين استخلص هذه النتيجة؟
إنه من التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذن التأمل في السيرة يقود إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويقود إلى تحقيق الإيمان به تكميلًا لأهل الإيمان وإيجادًا لمن لم يكن مؤمنًا به.
ولذلك من أعظم وسائل الدعوة في العصر الحديث التي غفل عنها كثير من المسلمين؛ أن يبين للناس سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واسم محمد اسم معروف وشهير في العالم، حتى أصبحت بعض الدول الكافرة في أوربا وغيرها الاسم الأول في البلد للمواليد محمد، أليس حريًّا بأهل الإسلام أن يقدموا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا مبالغة ولا غلو ولا زيادة؟ ففي سيرته من أنوار رسالته واصطفاء الله له ما يكفي عن أن يجتهد البشر زيادة في مقامه ورفعة في منزلته، فقد بلغه الله منزلة تقصر عنه كل الاجتهادات التي تسعى إلى رفعه صلى الله عليه وسلم.
ومن رفعه الله فلا خافض له، وقد رفعه الله وأعلى ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن حقِّه أيها الإخوة على أمته جماعاتٍ وأفرادًا أن يبذلوا الجهد في بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فسيرته تأسر القلوب، وعندما تقرأ ما كتبه وما تفوَّه به عظماء الزمان ممن طالعوا سيرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم تعرف يقينًا أن إظهار سيرته على النحو الذي كان عليه دون مبالغة ودون تتبع لشواذ الأخبار وضعيفها، إنما ما صح وثبت من سيرة خير الأنام وما ذكره أصحاب السير عنه صلى الله عليه وسلم، كافٍ في بيان فضله وعظيم منزلته صلى الله عليه وسلم.
إن الإيمان به والتأمل في سيرته هو الطريق الذي يحقق المؤمن به العبودية لله عز وجل.

قد يقول قائل: هذه مبالغة!
فأقول: لا والله ليست مبالغة؛ إن تحقيق كمال العبودية لله عز وجل مرهون بكمال العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.. عندما نعرف أنَّ السيرة ليست قصصًا تُروى، ولا حكايات تُسرد، إنما هو بيان لما كان عليه قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وفي سرِّه، وفي منشطه ومكرهه صلى الله عليه وسلم، وفي خاصته وبين الناس؛ نعرف أنه لا يمكن أن يحقق الإنسان كمال العبودية لله عز وجل إلا من خلال سيرته صلى الله عليه وسلم.
أتعلمون أصحَّ كتاب بعد كتاب الله، ما هو؟
صحيح البخاري.. صحيح البخاري ما حقيقته؟
إنه الجامع لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وسيرته وأيامه، إنه جامع لسيرته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وغزواته وأيامه صلى الله عليه وسلم. وهو كتاب من الكتب العلمية العظمى التي عكف العلماء على دراستها وشرحها وبيان ما فيها من العلوم والكنوز، هذا السِّفر المبارك هو سيرة رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لأحد أن يحقق العبودية لله عز وجل إلا بمعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم..
كيف كان يعبد ربه؟
وكيف كان يعامل الخلق؟
وكيف كان في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وفي سائر أحواله صلى الله عليه وسلم؟
ولهذا كلما زاد نصيب الإنسان علمًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من طيب الأخلاق وكريم الشيم والخصال؛ زاد نصيبه من العلم بالله ومعرفة الطريق الموصل إلى الله جل وعلا.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على تبليغ الأمة دقيق الأمر وجليله، حتى لم يترك شيئًا تحتاج الأمة إلية إلا وقد بيَّنه ووضحه، وتركنا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ليس فقط في شأن معاملة العبد لله عز وجل وفي شأن العبودية، بل في هذا الشأن وفي كل شأن.
يقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.
ويقول جل في علاه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر: 7 . .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674). ، وفي الحج يقول صلى الله عليه وسلم: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أخرجه مسلم (2877). .
فلا يمكن لأحد أن يحقق كمال العبودية لله إلا بتحقيق العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم.

وهنا نحتاج إلى أن نُشيع بين الناس أن السيرة ليست فقط سيرة ابن هشام، وليست فقط سيرة ابن كثير، وليست فقط الرحيق المختوم، وليست فقط ذاك أو ذاك من الكتب التي تناولت غزواته، إنها أوسع من ذلك.
إن السيرة تشمل صحيح البخاري وصحيح مسلم ودواوين السنة جميعًا، بل وحتى المختصرات، كبلوغ المرام والأربعين النووية وغيرها من كتب الأحكام التي جمعت أصول أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهي من سيرته.
وعندها تتسع الرؤية ويتسع الأفق في فهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ليست قصصًا للترويح عن النفس والاستئناس بذكره صلى الله عليه وسلم، إنها أبعد من ذلك، إنها إيمان به، إنها دليل على نبوته، إنها الطريق الذي يحقق به المؤمن العبودية لله عز وجل.

فكلنا يرجو أن يبلغ ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري رقم (15) ومسلم رقم (44) من حديث أنس: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وفي حديث عمر لما قال: والله يا رسول الله إنك أحب الناس إليَّ إلا من نفسي، قال: «لَا حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، قال: أنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآنَ يَا عُمَرُ» صحيح البخاري (6632) . الآن كملتَ الإيمان، الآن حققت كمال الإيمان به صلى الله عليه وسلم..

وهذا المعنى لا يمكن أن يتحقق لمن كان لا يعرف أخباره صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من كريم الخصال وطيب الأخلاق.
إنَّ جزءًا من أسباب صلاح الأمة في عهدها الأول هو قربها منه وشهودها له صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كلما كانت الأمة قريبة من سيرته، عارفة بهديه، مطلعة على أخباره؛ كان ذلك من علامات صحتها وسلامة منهجها وطريقها، وخروجها من الأزمات والمضايق.
أيها الإخوة، إنَّ الحديث عن السيرة حديث ذو شجون، وهنا يقف الإنسان عند جفاة لا يعرفون من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلا نتفًا من أحاديث الأحكام، وغلاةٍ في محبته أهدروا سيرته المتعلقة بمنهج الحياة وعكفوا على أخبار ضعيفة يتناقلونها من كتب السير، والسيرة الحقيقية هي معرفة ما كان عليه في كل شأن؛ في علاقته بربه وفي علاقته بالخلق وفي سائر أيامه ولياليه صلى الله عليه وسلم.. وإن لمحة موجزة في معرفة سيرته في حجه تدعو القلوب إلى محبته.. إن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه من المدينة إلى رجوعه، 
وهي أيام معدودة، إذا حرص المؤمن على مطالعتها وكيف حج النبي صلى الله عليه وسلم بما أننا في أيام الحج وأعماله، ويمرُّ علينا كثير من أخباره صلى الله عليه وسلم في حجه، كيف كان في عرفة .. وكيف كان في المزدلفة.. وماذا صنع في منى، وكيف كان لما قدم إلى مكة، وماذا قال لأصحابه وكيف ردُّوا عليه.. ومعاملته العامة للأمة، ومعاملته الخاصة لأفرادها، في شأنه الخاص.. في زوجاته وسائر من احتكَّ به صلى الله عليه وسلم ممن نقل عنه خبر معايشته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ يرى عجبًا في هذه البرهة المختصرة التي لا تتجاوز القريب من العشرين يومًا أو أقل من ذلك.. ويرى من دلائل نبوته وصدقه ومحبته وتحقيق العبودية لله عز وجل، ما يحقِّق تلك المعاني كلها.

لذلك من المهم أن نستحضرَه في حجِّنا، ليس فقط في جانب من الأعمال والأحكام، بل في العمل القلبي قبل العمل الصوري؛ كيف كان قلبه صلى الله عليه وسلم في حجه؛ فهذا معنى يغيب عن كثير منا.. إنه في غاية الذل لله عز وجل، وفي غاية الخضوع له، وانعكس هذا الذل والخضوع القلبي الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم في أخلاقه، فحج صلى الله عليه وسلم على رحل رثٍّ وعلى قطيفة يقول الراوي: لا تُساوي أربعة دراهم. فهو في غاية التواضع، وفي غاية الذل لله عز وجل، وفي غاية الحرص على نفع الناس، لذلك طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته ليراه الناس ويتأسَّوا به.
ولما وقف في عرفة في ذلك الموقف العظيم لم ينعزل عن الناس في زاوية، وكان قادرًا على أن تُضرب له أفضل القباب، فهو سيد العرب، وسيد الجزيرة في ذلك الوقت.
كل الناس دانوا له صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم على راحلته التي كانت برحل رث، وهي زاملته –يعني التي عليها طعامه وشرابه صلى الله عليه وسلم- ما كان عنده رحل ثان للعفش والمتاع، بل كان رحله ومتاعه على نفس البعير الذي حج عليه صلى الله عليه وسلم.

وكان واقفًا من بعد الزوال إلى غروب الشمس، وقد تربَّص بمكان يكون فيه بارزًا للناس، فجعل بطن راحلته إلى الصخرات وحبلُ الناس بين يديه صلى الله عليه وسلم لينفعهم وليأتسوا به، وليقتدوا بما كان عليه صلى الله عليه وسلم، وإن أشكل عليهم شيء أخذوا عنه ورجعوا إليه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل: 43 .
هكذا كان صلى الله عليه وسلم في غاية الذل لله عز وجل والتواضع للخلق وإظهار العبودية لله عز وجل، قولًا وعملًا، وفي غاية الرأفة والرحمة، فكان يأمر الناس بالهدوء والسكينة: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ» صحيح البخاري (1671). .

إنها كلمات يا إخوان تمثل منهج حياة؛ تختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين لم يشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم طوال السنوات الخالية حجُّوا معه فأدركوا ما كان عليه من الرحمة والنصح والإخلاص لله عز وجل، والإحسان للخلق، وتحقيق العبودية، والتواضع، والذل لله جل في علاه، وحسن الصحبة للصغير والكبير، فكان لا يردف معه عظماء الناس، بل يردف معه الصغار ترفُّقًا بهم، على خلاف حال الكبراء فإنهم لا يردفون معهم إلا مَن يُشار إليهم بالبنان.

هكذا كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فتأمل، وأنا أدعو نفسي وإياكم بما أننا في الحج أن نتأمل سيرته ونسجل أبرز معالم سيرته في حجه، وأجزم أن هذا الذي سنستخلصه من خلال مطالعتنا في سيرته سنجده ملخصاً لرسالته وبيانًا لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من أخلاق امتدَّت عبر سنوات اختصرها في أيام معدودات.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنا نسألك باسمك العظيم أن ترزقنا حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، اللهم يا ربَّنا اسلك بنا سبيل الرشاد، وأعنَّا على الطاعة والإحسان، ووفقنا إلى ما تحب وترضى من الأعمال، اللهم اجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، اللهم بلغنا فيه الأماني يا حي يا قيوم بفضلك وإحسانك وكرمك وعظيم جودك، اللهم اجعلنا من أوفر عبادك نصيبًا من رحمتك وعطائك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا ممن يتبعون سنة نبينا محمد ظاهرًا وباطنًا، اللهم ارزقنا محبته واحشرنا في زمرته، واجعلنا من حزبه وأوليائه.. اللهم يا رب العالمين، ارزقنا شفاعته وارزقنا الذبَّ عن سنته والقيام بحقه ظاهرًا وباطنًا..
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين، ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا، ربَّنا إنك رءوف رحيم.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد. 

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات85990 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80480 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74767 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات61831 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56369 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53355 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات50919 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50644 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46025 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45573 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف