الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا، طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، كَما يُحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَىَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أَمَّا بَعْدُ:
في هَذِهِ اللَّيْلَةِ - لَيْلَةِ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ شَعْبانَ، عامَ أَلْفٍ وَأَرْبِعِ مِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ لِلهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ - يَسُرُّنِي الالْتِقاءُ بِكُمْ في هَذِهِ الصَّالَةِ، فِي هَذا المكانِ، فِي مُؤَسَّسَةِ شَيْخِنا مُحَمَّدِ بْنِ صالِحِ العُثَيْمِينِ الخَيْرِيَّةِ.
حَدِيثُنا في هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَدِيثٌ حِرْتُ في كَيْفِيَّةِ التَّعاطِي مَعَهُ، ذَاكَ أَنِّي سَأَتَكَلَّمُ عَنْ عَلَمٍ مِنْ أَعْلامِ الأُمَّةِ، وَهُوَ شَيْخُنا مُحَمَّدُ بْنُ صالِحِ العُثَيْمِينُ رَحِمَهُ اللهُ، وَعِنْدَما تَتَحَدَّثُ عَنْ شَخْصٍ بَهَذِهِ القامَةِ، يُمَثِّلُ تارِيخًا يَمْتَدُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قَرْنٍ في العَطاءِ، وَالبَذْلِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالنَّفْعِ وَالخَيْرِ، تُوقِنُ وَتَجْزِمُ يَقِينًا أَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَسْتَوْعِبَ جَوانِبَ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ في مُحاضَرَةٍ، أَوْ في كَلِمَةٍ في دَقائِقَ تَنْقَضِي، فَتَأَمَّلْتُ في كَيْفِيَّةِ التَّناوُلِ لِهَذِهِ المحاضَرَةِ.. وَسَبَقَ أَنْ أَلْقَيْتُ مُحاضَرَةً قَرِيبَةً مِنْ هَذا الموْضُوعِ، لَكِنَّها مِنْ زاوِيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ شَيْخُنا ابْنُ عُثَيْمِينَ كَما عَرَفْتُهُ، وَاليَوْمَ لَسْتُ مُتَحَدِّثًا عَنْ مَعْرِفَتِي الشَّخْصِيَّةِ بِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَإِنَّما أَتَحَدَّثُ عَنْ عَلَمٍ مِنْ أَعْلامِ الأُمَّةِ، في هَذِهِ القُرُونِ المظْلِمَةِ، الَّتِي يَفْتَقِرُ النَّاسُ فِيها إِلَى الهِداياتِ، وَإِلَى أَنْوارِ النُّبُوَّةِ.. وَالحَدِيثُ عَنْ شَيْخِنا مُحَمَّدِ بْنِ صالِحِ العُثَيْمِينَ حَدِيثٌ صَعْبٌ حَقِيقَةً، ذاكَ أَنَّهُ عالِمٌ جَلِيلٌ امْتَدَّ عُمُرُهُ في حِقْبَةٍ زَمَنِيَّةٍ امْتازَتْ بِجُمْلَةٍ مِنَ الممَيِّزاتِ، لِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَخُوضَ في الحَدِيثِ عَنْ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِضَ المحاوِرَ الَّتِي مِنْ خِلالِها سَأَتَناوَلُ سِيرَةَ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ، وَهِيَ مَحاوِرُ مَعْدُودَةٌ لَكِنَّها تُمَثِّلُ إِضاءاتٍ في سِيرَةِ هَذا العَلَمِ، مِنْ خِلالِها نَسْتَجْلِي مَسْيرَتَهُ، وَمِنْ خِلالِها نَسْتِطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّةِ هَذا العالِمِ، لا سِيَّما وَأَنَّ شَيْخَنا مُحَمَّدَ بْنَ صالِحِ العُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ تَحْظَ سِيرَتُهُ بِتَأْلِيفٍ يَسْتَوْعِبُ ذِكْرَ الجَوانِبِ المهَمَّةِ في حَياتِهِ، وَما يَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ المقَدِّماتِ وَكَثِيرٌ مِنَ العَرْضِ الَّذِي يُكْتَبُ عَنْ سِيَرِ العُلَماءِ هُوَ في الحَقِيقَةِ تَرْجَمَةٌ لِلمُتَكَلِّمِ أَكْثَرُ مِنْها لِلشَّخْصِ المتَرْجِمِ لَهُ، فَيَقُولُ الشَّخْصُ: رَأَيْتُ الشَّيْخَ وَجَلَسْتُ مَعَهُ وَقُلْتُ لَهُ وَقالَ لِي، فَهِيَ جَوانُبُ شَخْصِيَّةٌ في الحَقِيقَةِ، لا تُبيِّنُ المنْهَجَ وَالمسِيرَةَ وَالطَّرِيقَةَ الَّتِي انْتَهَجَها هَذَا العالِمُ، لِهَذا حَرِيٌّ بِشَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ أَنْ يُعْنَى طُلَّابُهُ وَمُحِبُّوهُ، وَالمؤْسَّسَةُ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ، بِدَراسِةٍ تُبْرِزُ جَوانِبَ شَخْصِيَّةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صالِحِ العُثَيْمِينِ، لا فِي الجانِبِ الشَّخْصِي فَقَطْ، بَلْ في المسِيرَةِ كَكُلٍّ، وَسَأَتَناوَلُ سِيرَةَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صالِحِ العُثَيْمِينِ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ خِلالِ النِّقاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: النَّشْأَةُ وَالبِيئَةُ.
ثانِيًا: ابْنُ عُثَيْمِينَ مُتَعَلِّمًا وَعالِمًا وَمُعَلِّمًا.
ثالِثًا: مَسْيرَتُه الحياتِيَّةِ (يَوْمِيَّاتُهُ رَحِمَهُ اللهُ وَحَياتُهُ اليَوْمِيَّةُ).
رَابِعًا: حَياتُهُ الأُسَرِيَّةُ وَالاجْتِماعِيَّةُ.
خامِسًا: ابْنُ عُثَيْمِينَ إِمامًا.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفاتُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
هَذِهِ نِقاطٌ رَئِيسَةٌ، تَحْتَها العدِيدُ مِنَ القَضايا الَّتِي تَحْتاجُ إِلَى إِيضاحٍ وَتَجْلِيَةٍ.
ابْتِداءً: لماذا نَقْرَأُ سِيَرَ العُلَماءِ؟
سِيَرُ العُلَماءِ هِيَ حَياةُ الأَرْواحِ، وَهِيَ طِيبُ القُلُوبِ، وَهِيَ البَهْجَةُ الَّتِي تُغْمُرُ نَفْسَ القارِئِ؛ لما يَراهُ مِنْ نَماذِجَ نَيِّرَةٍ، مِنْ خَلالِها تُشْرِقُ نَفْسُهُ، وَيَسْتَفِيدُ مِنْها عِبْرَةً وَعِظَةً، وَلِهَذا كانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ يَحْرِصُونَ عَلَى قِراءَةِ السِّيَرِ، بَلِ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ في مُحْكَمِ كِتابِهِ، وَهُوَ أَطْيَبُ كَلامٍ وَأَصْدَقُ حَدِيثٍ، يَقُولُ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يوسف:111، فَقِراءَةُ سِيَرِ العُلَماءِ وَالصَّالِحِينَ وَالأَئِمَّةِ تَبْعَثُ النُّفُوسَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَلَى العَمَلِ الجادِّ، وَعَلَى التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الخَيْرِ، وَعَلَى الاهْتِداءِ بِهَدْيِهِمْ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى بَعْدَ أَنْ قَصَّ خَبْرَ مَنْ قَصَّ مِنَ النَّبِيِّينَ؛ قالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ الأنعام:90.
فَتَشَبَّهُوا إنْ لم تَكُونوا مِثْلَهُمْ *** إنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرامِ فَلاحُ
إنَّ قِراءَةَ سِيَرِ الصَّالِحِينَ هِيَ التَّرْجَمَةُ العَمَلِيَّةُ لِما حَوَتْهُ صُدُورُهُمْ مِنَ المعارِفِ وَالعُلُومِ، وَمِنَ المعانِي وَالخِصالِ، وَلِذَلِكَ يَنْجَذِبُ الإِنْسانُ لِقَراءَةِ السِّيرَةِ؛ لَما فِيها مِنَ التَّرْجَمَةِ العَمَلِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ.. فَقَدْ تَسْمَعُ مَنْ يُثْنِي عَلَى الكَرَمِ بَيانًا وَاضِحًا جَلِيًّا طَوِيلًا، لَكِنْ عِنْدَما تَقْرَأُ قِصَّةً في الكَرَمِ سَيَكُونُ لَها مِنَ الوَقْعِ في نَفْسِكَ وَالتَّأْثِيرِ فَيَكُ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ قِراءَتِكَ لِمَدْحِ الكَرَمِ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ، ذاكَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ العَمَلِيَّةَ لَها مِنَ التَّأْثِيرِ ما لَيْسَ لِغَيْرِها، وَلِهَذا امْتازَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَنْ بَقِيَّةِ طَبَقاتِ الأُمَّةِ؛ لأَنَّهُمْ شَهِدُوا التَّنْزِيلَ، وَشَهِدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَقَوْا بِهِ، وَأَخَذُوا عَنْهُ، فَكانَ ذَلِكَ مَيْزَةً لا تَحْصُلُ لِفِئَةٍ وَلا لِطَبَقَةٍ مِنْ طَبَقاتِ الأُمَّةِ عَبْرَ القُرُونِ.
وُلِدَ شَيْخُنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ في السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، عامَ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلاثَ مِئَةٍ وَأَلْفٍ لِلهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَوُلِدَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ بِبَيْتٍ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ البَلْدَةِ "عُنَيْزَةَ" بَبِيْتٍ مُتَواضِعٍ مِنْ أَبَوَيْنِ نَحْسَبُهُما صالِحِينَ، فَتَرَعْرَعَ وَنَشَأَ في كَنَفِ وَالِدَيْهِ، في صَلاحٍ وَخَيْرٍ.
وَقَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْ مَراحِلِهِ التَّعْلِيمِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ، وَما مَرَّ بِهِ مِنْ أَطْوارٍ في التَّعَلُّمِ فَإِنَّنا نُشِيرُ إِلَى أَنَّ الوَقْتَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّيْخُ تَمَيَّزَ بِسِماتٍ، فَقَدْ تَوالَتْ أَحْداثٌ إِبَّانَ حَياتِهِ، وَمِنْ أَبْرَزِ ذَلِكَ: احْتِلالُ فَلَسْطِينَ، وَإِعْلانُ الممْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ دَوْلَةً بِهَذا المسْمَّىَ، وَاجْتَماعُ النَّاسِ عَلَىَ الملِكَ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ، بَعْدَ أَنْواعٍ مِنَ الاضِّطِراباتِ وَالخِلافاتِ، الَّتِي كانَتْ نَهايَتُها في سَنَّةِ وِلادَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَحُصُولُ عِدَّةِ انْتِكاساتٍ لِلعَرَبِ في قِتالِهِمْ وَمُحارَبَتِهِمْ لِليَهُودِ، وَوُجُودُ مُتَغَيِّراتٍ كَثِيرَةٍ في حَياةِ النَّاسِ، مِنْ أَبْرَزِها فِيما يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ المباشِرِ لِحَياةِ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ هُوَ التَّطَوُّرُ الَّذِي شَهِدَتْهُ البِلادُ، فَتَزامَنَتْ نَشْأَتُهُ بِاكْتِشافِ البِتْرُولِ، الَّذِي كانَ سَبَبًا لانْفِتاحِ الدُّنْيا عَلَى النَّاسِ، وَتَغَيُّرِ أَحْوالِ النَّاسِ، وَلاحَظَ أَنَّ هَذا التَّغَيُّرَ لَهُ تَأْثِيرٌ، فَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ أَوَّلُ حَجٍّ حَجَّهُ -وَهُوَ حَجُّ الفَرِيضَةِ- سافَرَ في سَيَّاراتِ اللَّوارِي القَدِيمَةِ، الَّتِي كانَ يَرْكَبُ فِيها النَّاسُ في العَراءِ وَيَتَكَبَّدُونَ المشاقَّ في الوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَيْسَ هُناكَ طُرُقٌ مُعَبَّدَةٌ، فَهِيَ نَشْأَةٌ في بِدايَتِها شَهِدَتِ الحالَ الأُولَى الَّتِي كانَ عَلَيْها النَّاسُ في وَسَطِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، الَّتِي يَقُولُ بَعْضُ العارِفِينَ بِالتَّارِيخِ: إِنَّها تُشْبِهُ المجْتَمَعَ المدَنِيَّ في كَثِيرٍ مِنَ النَّواحِي، مِنْ حَيْثُ المدَنِيَّةِ، فَالنَّاسُ يَسْكُنُونَ في بُيوتٍ مِنْ طِينٍ، وَيَشْتَغِلُونَ وَيَمْتَهِنُونَ الزِّرَاعَةَ، وَأَرْزاقُهُمْ مَحْدُودَةٌ بِالتِّجارَةِ وَبِالرَّعْيِ، وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كانَتْ مَعْهُوَدَةً في زَمانِ النُّبَوَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ هُناكَ نَقْلَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ ذَلِكَ الحالِ الَّتِي كانَ عَلَيْها النَّاسُ في حاضِرَةِ وَسَطِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ "نَجْد"، وَبَيْنَ ما كانَ عَلَيْهِ الحالُ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَحَصَلَ التَّغَيُّرُ بِانْفِتاحِ كُنُوزِ الأَرْضِ عَلَى النَّاسِ.
فَواكَبَ الشَّيْخُ هَذا التَّغَيُّرَ، فَشَهِدَ مَجِيءَ المخْتَرَعاتِ بِشَتَّى صُوَرِها في بِداياتِها.. وَطَبْعًا هَذا التَّغَيُّرُ الَّذِي كانَ في أَوَّلِ الوَقْتِ كانَ لَهُ تَبِعاتٌ مِنْ حَيْثُ القُبُولُ وَالرَّفْضُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَعدَّ ذَلِكَ نَوْعًا مِنَ الإِحْداثِ وَالخُرُوجِ عَمَّا كانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَبَعْضُهُمْ تَقَبَّلَ، وَأَخَذَ مِنْ هَذِهِ المنْتَجاتِ وَالمخُتْرَعاتِ وَالمبْتَكَراتِ ما يُناسِبُ العَصْرَ، وَما يُناسِبُ الحَياةَ، وَما يَخْدُمُ الدِّينَ.
وَالحَوادِثُ في هَذا كَثِيرَةٌ؛ مِثِلُ: المكَبِّراتِ؛ لَواقِطُ الصَّوْتِ في المسْاجِدِ، وَالتَّكْييفُ، وَالرَّادْيُو، وَالسَّياراتُ، وَأَشْياءُ كَثِيرَةٌ كانَتْ في أَوَّلِ حَياةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ حادِثَةً جَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، وَهَذا بِالتَّأْكِيدِ سَيُلْقِي نَوْعًا مِنَ التَّأْثِيرِ فِيمَنْ يَعِيشُ في هَذا العَصْرِ، مِنْ حَيْثُ تَقَبُّلُ التَّغَيُّرِ.
وَهَذا ما يَتَّصِلُ بِالحالَةِ الاجْتَماعِيَّةِ وَالمدَنِيَّةِ في زَمانِهِ رَحِمَهُ اللهُ، فَإِذا نَظَرْنا أَيْضًا إِلَى الجانِبِ الفِكْرِيِّ وَالمذاهِبِ وَالأَفْكارِ فَإِنَّنا نَقُولُ: كانَتْ مَرْحَلَةً عاصِفَةً، حَيْثُ شاعَتِ الأَفْكارُ بِشَتَّى صُوَرِها المنْحَرِفَةِ (اشْتِراكِيَّةً، شُيُوعِيَّةً، وُجُودِيَّةً، رَأْسِمالِيَةٍ)، وَكانَ لَها حُضُورٌ وَتَأْثِيرٌ في الشَّبابِ، وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ مِنَ الشَّبابِ في تِلْكَ الفَتْرَةِ، فَعَصَمَهُ اللهُ تَعالَى مِنْ تِلْكَ النَّوازِعِ المتَعَدِّدَةِ، لَكِنَّهُ عايَشَها وَرآها، وَكانَ مُهْتَمًّا بِالإِجابَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الإِشْكالِيَّاتِ الَّتِي أَفْرَزَتْها تِلْكَ الأَفْكارُ في أَذْهانِ الشَّبابِ.
هَذا ما يَتَّصِلُ بِالبِيئَةِ وَالنَّشْأَةِ البِدائِيَّةِ الَّتِي كانَ عَلَيْها رَحِمَهُ اللهُ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ في مَسِيرَتِهِ العِلْمِيَّةِ بَدَأَ تَلَقِّي العِلْمِ بِالقِراءَةِ، كَسائِرِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَالمشْتَغِلِينَ بِالعِلْمِ في زَمانِهِ، يَبْدَءُونَ بِالكَتاتِيبِ وَقِراءَةِ القُرْآنِ، فَقَرَأَ عَلَىَ جَدِّهِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمانَ الدَّامِغِ، فَحَفِظَ عَلَيْهِ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ، وَتَلَقَّى شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الحِسابِ، وَطالَعَ بَعْضَ النُّصُوصِ الأَدَبِيَّةِ في مَدْرَسَةِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صالِحِ الدَّامِغِ، ثُمَّ الْتَحَقَ بِالشَّيْخِ عَلَيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ الشِّحِيتانِ، وَكانَ إِمامًا لِمَسْجِدٍ مِنْ مَساجِدِ عُنَيْزَةَ، يَشْتَغِلُ بِتَعْلِيمِ العِلْمِ، وَجُلُّ اهْتِمامِهِ في تَحْفِيظِ القُرْآن، لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ العُلَماءِ، وَقَدْ حَدَّثَنِي عَنْهُ شَيْخُنا الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ البَسَّامُ رَحِمَهُ اللهُ، أَنَّهُ كانَ مُهْتَمًّا بِالتَّحْفِيظِ فَقَطْ، لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ المعْرِفَةِ بِالتَّفْسِيرِ، وَما إِلَى ذَلِكَ، لَكِنْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ الأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذا الأَمْرِ.. المهَمِّ أَنَّهُ كانَ مَعْرُوفًا بِتَحْفِيظِ القُرْآنِ وَتَجْوِيدِهِ، وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ طَلَبَةُ العِلْمِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْخُنا مُحَمَّدُ بْنُ صالِحِ العُثَيْمِينُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ البَسَّامُ، وَمَجْمُوعَةٌ مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ كانُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ القُرْآنَ؛ لِحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ.
وَفِي هَذِهِ المرْحَلَةِ الأُولَى، وَهِيَ مَرْحَلُةُ التَّأْسِيسِ وَالتَّكْوِينِ وَالتَّأْصِيلِ فِيما يَتَعْلَقُّ بِالقُرْآنِ، أَتَمَّ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ حِفْظَ القُرْآنِ وَعُمُرُهُ أَرْبِعَةُ عَشْرَ عامًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى الدِّراسَةِ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ المطَوِّعُ، وَهُوَ مَنْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مُعَلِّمًا وَمُدَرِّسًا لِصِغارِ الطَّلَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الرَّحْمَنَ السَّعْدِيَّ كانَ في تَعْلِيمِهِ مُقْسَّمًا الطَّلَبَةَ إِلَى صِغارٍ وَكِبارٍ، فَصِغارُ الطَّلَبَةِ وَهُمْ المبْتَدِئُونَ الَّذِينَ أَتَمُّوا حِفْظَ القُرْآنِ، وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَصِيلَةٌ عِلْمِيَّةٌ، يَبْدَءُونَ بِالقِراءَةِ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ المطَوِّعِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ عَلِيِّ الصَّالِحِيِّ، فَكانَ شَيْخُنا رَحِمَهُ اللهُ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ المطَوِّعِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ في التَّوْحِيدِ وَالفِقْهِ وَالنَّحْوِ، ثُمَّ تَرَقَّىَ بِهِ الحالُ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِحَلْقَةِ الشَّيْخِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.َ
وَقَدْ سِمِعْتُهُ رَحِمَهُ اللهُ يُجِيبُ مَنْ سَأَلَهُ: مَتَى بَدَأْتَ القِراءَةَ عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ؟ فَقالَ: وَعُمْرِي قَرِيبٌ مِنْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَالفَتْرَةُ بَيْنَ حِفْظِ القُرْآنِ وَبَيْنَ القِراءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِ رَحِمَهُ اللهُ سَبْعُ سَنَواتٍ تَقْريبًا، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُنْقَطِعَةً عَنِ التَّعَلُّمِ، وَإِنَّما قَرَأَ خِلالَها عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ المطَوِّعِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ وَتَرَقَّىَ بِهِ الحالُ انْتَقَلَ لِلقِراءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِ رَحِمَهُ اللهُ. وَكانَ مِنَ الملازِمِينَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ طُوالَ حَياتِهِ، لَكِنَّهُ انْقَطَعَ مُدَّةَ عامَيْنِ لِلدِّراسَةِ النِّظامِيَّةِ في الرِّياضِ، فَقَدْ أَشارَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَلِي الصَّالِحِيُّ لما فَتَحَ المعْهَدَ العِلْمِيَّ باِلرِّياضِ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهِ، فَذَهَبَ في سَنَةِ أَلْفٍ وَثَلاثِمائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ لِلقِراءَةِ في الرِّياضِ، وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ مُغْتَمًّا بِتَرْكِهِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحَمَنِ السَّعْدِيِ،ِّ فَيُحَدِّثُنِي الشَّيْخُ نَفْسُهُ وَيَقُولُ: عِنْدَما ذَهَبْتُ لِلرِّياضِ وَبَدَأْتُ بِالدِّراسَةِ، وَأَصْبَحَ يَأْتِي أَنْواعٌ مِنَ المعَلِّمِينَ، وَقَدْ تَرَكْتُ عالِمًا جِهْبَذًا كَبِيرَ الشَّأْنِ في المعارِفِ وَالعُلُومِ، وَجاءَ إِلَى عُلَماءَ وَأَفاضِلَ وَمَشايِخَ لَكِنْ يُقَصِّرُونَ كَثِيرًا عَمَّنْ عَهِدَهُمْ وَعَرَفَهُمْ في بَلْدَتِهِ، فَكانَ يَتَحَسَّرُ، يَقُولُ: فَدَخَلَ عَلَيْنا شَيْخٌ رَثَّ الهَيْئَةِ، فَصَغُرَ في نَفْسِي هَذا الَّذِي دَخَلَ، وَما كانَ يَعْرِفُهُ الشَّيْخُ، فَبَدَأَ بِالتَّفْسِيرِ، يَقُولُ: فَانْبَهَرْتُ مِنْ شِدَّةِ اسْتِحْضارِهِ، وَقُوَّةِ عِلْمِهِ، وَرُسُوخِ قَدَمِهِ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَفي الاسْتِشْهادِ، فَإِذا هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ المخْتارُ الشِّنْقِيطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ صاحِبُ أَضْواءِ البَيانِ، فَحَمَدْتُ اللهَ أَنَّ اللهَ سَكَّنَ ما فِي نَفْسِي مِنْ حُزْنٍ لِفِراقِ الشَّيْخِ، بِأَنْ وَجَدْتُ مَنْ آخُذُ عَنْهُ العِلْمَ في الرِّياضِ مُدَّةَ وَقْتِهِ فِيها، فَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في المعْهَدِ، وَقَرَأَ عَلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ المشايِخِ، إِلَّا أَنَّ أَبْرَزَ مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ في أَثْناءِ إِقامَتِهِ بِالرِّياضِ شَيْخُنا الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنِ بازٍ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ في العَقِيدَةِ، وَفِي الفِقْهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ في جُمْلَةٍ مِنَ الرَّسائِلِ، وَكانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ في أَوْقاتٍ خاصَّةٍ، إِضافَةً إِلَى القِراءَةِ العامَةِّ.
بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى "عُنَيْزَةَ"، وَعادَ إِلَى قِراءَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ، وَيُحَدِّثُنا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ في آخِرِ زَمَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ إِلَّا نَذْرٌ يَسِيرٌ، ذَاكَ أَنَّ طَلَبَةَ العِلْمِ جاءَتْ الوَظائِفُ وَالبَلَدُ في بِدايَتِها، وَفِي أَوَّلِ تَأْسِيسِها وَنَشْأَتِها بِحاجَةٍ إِلَى التَّعْلِيمِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ رُقْعَةُ البَلَدِ، فَكانَ المشايِخُ وَطَلَبَةُ العِلْمِ إِذا آنَسُوا مِنَ الشَّخْصِ ضَبْطًا لِلقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةً لِلمُهِمَّاتِ، بَعَثُوُهُ شَيْخًا إِلَى القُرَى وَالهَجَرِ في شَرْقِ البَلَدِ وَجَنُوبِها وَشَمالِها، وَفِي سائِرِ جِهاتِها، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ إِلَّا قَلِيلٍ، حَتَّى قالَ رَحِمَهُ اللهُ: إِنِّي كُنْتَ أَقْرَأَ عَلَيْهِ في الضُّحَى في قَواعِدِ ابْنِ رَجَبٍ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا أَنا، فَأَخْرُجُ أَنا وَهُوَ مِنَ المسْجِدِ وَما مَعَهُ إِلَّا أَنا، وَهَذا يُفِيدُنا أَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللهُ اسْتَمَرَّ في التَّلَقِّي عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ إِلىَ أَنْ تُوُفِيِّ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ وَهُوَ مُلازِمٌ لَهُ. وَهَذِهِ المعْلُومَةُ تُفِيدُنا في مَسْأَلَةِ سَتَأْتِي إِنْ شاءَ اللهُ تَعالَى في خِصالِ الشَّيْخِ وَصِفاتِهِ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، وَتَقَلَّدَ مَكانَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صالِحِ العُثَيْمِينُ، بِاتِّفاقٍ مِنْ جَماعَةِ الجامِعِ وَأَهْلِ البَلَدِ، وَتَوَلَّى مُهِمَّتَيْنِ: المهَمَّةُ الأُولَى: التَّدِرِيسُ، وَالمهَمَّةُ الثَّانِيَةُ: الإِمامَةُ في الفُرُوضِ وَالجُمَعِ وَالأَعْيادِ، وَالتَّدْرِيسِ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا بِوَفاةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ، بَلِ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ نَدَبَهُ إِلَى تَعْلِيمِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ قَبْلَ وَفاتِهِ بِقَرِيبٍ مِنْ سِتِّ سَنَواتٍ، حَيْثُ بَدَأَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ يُعَلِّمُ عامَ أَلْفٍ وَثَلاثَمائَةٍ وَسَبْعِينِ لِلهِجْرَةِ، وَهَذِهِ مُدَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَعُمْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوِ مِنْ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ بِدايَةُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ بِالتَّعْليِمِ المباشِرِ في الجامِعِ "جامِعِ ابْنِ عُثَيْمِينَ"، الجامعِ الَّذِي كانَ يُدَرِّسُ فِيهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ وَالمعْرُوفُ الآنَ بِاسْمِ جامِعِ ابْنِ عُثَيْمِينَ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَمَرَّ يُعَلِّمُ فِيهِ إَلَى أَنْ تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ، فَإِذا حَسَبْتَ مِنْ عامِ أَلْفٍ وَثَلاثِ مِئٍَة وَخَمْسِينَ إِلَى وَفاتِهِ عامَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ وَوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ، فَهَذِهِ وَاحِدٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ يُدَرِّسُ في هَذا الجامِعُ، نَسْأَلُ اللهُ أَنْ يَعْمُرَهُ بِالعِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.
نَقِفُ بَعْدِ هَذِهِ المرْحَلَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّتِي رَأَى الشَّيْخِ فِيها جُمْلَةٌ مِنَ الأَكابِرِ وَمِنْ عُلَماءِ عَصْرِهِ، كالشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مَنْ كانَ لَهُ أَثَرٌ في عِلْمِ الشَّيْخِ، وَسِيرَتِهِ، وَسُلُوكُهُ، وَتَكْوِينُهُ العِلْمِيُّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنِ بازٍ كَذَلِكَ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَفِيفِي، وَجُمْلَةٌ مِنَ المشايِخِ الَّذِينَ اخْتَلَطَ بِهِمْ وَأَخَذَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مَعارِفَ جَدِيدَةً، وَمَناهِجَ رَصِينَةً، أَثْمَرَتْ تَمُيَّزًا في مَنْهَجِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَلِهَذا مِنَ المهِمِّ أَنْ نَقِفَ عَلَى عَجَلٍ في إِبْرازِ أَبْرَزِ سِماتِ عِلْمِ ابْنِ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ، ما الَّذِي يُمَيِّزُ عِلْمَهُ؟ ما الَّذِي يُمَيِّزُ ابْنَ عُثَيْمِينَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ العُلَماءِ فِيما كانَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ؟ فَأَنْتَ مِنَ الممْكِنِ أَنْ تَقْرَأَ أَوْ تَسْمَعُ لِعُلَماءَ شَتَّى، ثُمَّ تَجِدُ أَنَّ هُنا شَيْئًا مُمَيَّزًا، فَما الَّذِي مَيَّزَ الشَّيْخَ ابْنَ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ؟
مِنْ أَبْرَزِ ما مَيَّزَ الشَّيْخَ ابْنَ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ في عِلْمِهِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا في المساجِدِ، أَوْ كانَ ذَلِكَ تَأْلِيفًا، أَوْ كانَ ذَلِكَ إِفْتاءً، أَوَّلًا: اعْتِمادُهُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَتَعْظِيمُهُ لِلدَّلِيلِ؛ الكتابُ وَالسُّنَّةُ، فَقَدْ كانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مُعَظِّمًا لِلنُّصُوصِ، مُقَدِّمًا لِلدَّلِيلِ. وَنَحْنُ هُنا نَحْتاجُ إِلَى أَنْ نُلَمِّحَ إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ نَشَأَ في بِيئَةٍ مَذْهَبِيَّةٍ، إِذِ المذْهَبُ الشَّائِعُ في عامَّةِ "نَجْدٍ" هُوَ المذْهَبُ الحَنْبَلِيُّ، وَالخُرُوجُ عَنْهُ مِنْ أَشَقِّ ما يَكُونُ، وَمِنْ أَصْعَبِ ما يَكُونُ، لا سِيَّما الخُرُوجُ عَنْهُ في الإِفْتاءِ، وَفي الرَّأْيِ، وَفِي القَوْلِ، لَيْسَ في الاخْتِيارِ الشَّخْصِيِّ، فَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهُ في الاخْتِيارِ الشَّخْصِيِّ وَلا نَعْلَمُ بِهِ، لَكِنْ في الإِفْتاءِ وَالرَّأْيِ كانَ مِنْ أَشَقِّ ما يَكُونُ الخُرُوجُ عَمَّا سادَ وَانْتَشَرَ، لِشُيوعِ الأَخْذِ بِقَوْلِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ، وَقِلَّة المجْتَهِدِينَ، وَأَبْرَزُ مَنْ خَرَقَ هَذا التَّعَصُّبَ لِلمَذْهَبِ وَعدَمَ الخُرُوجِ عَنْهُ؛ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ شَيْخُ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ، ثُمَّ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنِ بازٍ، فَأَظْهَرَ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ بَيانًا جَلِيًّا في مَسْلَكِهِ وَإِفْتائِهِ وَعِلْمِهِ، وَلَقِيَ في ذَلِكَ رَحِمَهُ اللهُ ما هُوَ مَعْرُوفٌ في سِيرَتِهِ ما لا نَحْتاجُ إِلَى إِشارَةٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَيْخُنا مُحَمَّدُ بْنُ صالِحِ العُثَيْمِينُ رَحِمَهُ اللهُ جَرَىَ عَلَى هَذِه الطَّرِيقَةِ مِنْ شَيْخَيْهِ، فَكانَ مُعَظِّمًا لِلدَّلِيلِ حَتَّى وَلَوْ خالَفَ ما هُوَ مَعْهُودٌ وَما هُوَ سائِدٌ، وَحَتَّى يَتَّضِحَ لَكَ عَظِيمُ تَأْثِيرِ المذْهَبِ وَالتَّعَصُّبِ لَهُ في الزَّمَنِ الذِّي نَشَأَ فِيهِ الشَّيْخُ، وَكَيْفَ كانَ يَلْقَى صُعُوبَةً في الخُرُوجِ.
يُحَدِّثُنِي بَعْضُ زُمَلاءِ الشَّيْخِ، وَمَنْ تَلَقَّوا العِلْمَ مَعَهُ، وَتَلَقَّوْا العِلْمَ عَنْهُ، يَقُولُ لِي: كَيْفَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ يُخالِفُ المذْهَبَ فِي هَذِهِ المسْأَلَةِ؟ قُلْتُ: يا أَخِي هُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ، هَكَذا لاحَ لَهُ الدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِ، قالَ: لَوْ يَأْتِي -قَدْ يَكُونُ هَذا غَيْرُ دَقِيقٍ، وَلا يُرِيدُهُ، وَلَكِنْ هَذا ما قالَهُ لِي بِالحَرْفِ- لَوْ جاءَنِي النَّصُّ مِثْلُ الشَّمْسِ يُخالِفُ المذْهَبَ، ما أَخَذْتُ إِلا بِالمذْهَبِ.
وَهَذا يُبَيِّنُ لَنا كَيْفَ أَنَّ الخُرُوجَ عَنِ المأْلُوفِ المذْهَبِيِّ الفِقْهِيِّ في ذَلِكَ الوَقْتِ في عُسْرٍ وَمَشَقَّةٍ، قَدْ يَقُولُ قائِلٌ: الأَمْرُ سَهْلٌ، هُوَ اخْتِيارٌ وَلَيْسَ بِالأَمْرِ العَسِيرِ، وَأَنْتَ لا تَنْظُرْ إِلَى ابْنِ عُثَيْمِينَ في نِهايَتِهِ لما صارَ إِمامًا يُقْتَدَى بِهِ، بَلِ انْظُرْ إِلَى ابْنِ عُثَيْمِينَ يَوْمَ كانَ فَرْدًا يُقالُ: قالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ وَخالَفَ بِذَلِكَ المشايِخَ وَالعُلَماءَ وَالأَجِلَّاءَ وَالكُبَراءَ مِنْ عُلَماءِ وَقْتِهِ وَمِنَ العُلَماءِ المتَقَدِّمِينَ، بِالتَّأْكِيدِ أَنَّهُ سَيَكُونُ في ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَصُعُوبَةٌ لا نُدْرِكُها نَحْنُ، لَكِنْ يُدْرِكُها مَنْ خَرَجَ عَنِ المأْلُوفِ بِاخْتِيارِهِ، وَضَغْطِ الواقِعِ عَلَيْهِ، كَيْفَ يَكُونُ مُحْتاجًا إِلَى قُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَقَناعَةٍ بِصَحَّةِ المسْلَكِ، حَتَّى يَثْبُتَ عَلَى هَذا الطَّرِيقِ.
وَهَذِهِ سِمَةٌ مُشْتَرَكَةٌ في كُلِّ مَنْ كانَ لَهُمْ تَأْثِيرٌ عَبْرَ القُرُونِ، فَعُلَماءُ الأُمَّةِ الممَيَّزُونَ هُمُ العُلَماءُ الَّذِينَ يَكُونُ عِنْدَهُمْ الحَقُّ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ مَأْلُوفٍ، سَواءٌ كانَ المأْلُوفُ قَوْلًا فِقْهِيًّا شَهِيرًا، أَوْ كانَ المأْلُوفُ عادَةً، أَوْ كانَ المأْلُوفُ عُرْفًا، أَوْ كانَ المأْلُوفُ وَضْعًا سِياسِيًّا مُعَيَّنًا أَوِ اجْتِماعِيًّا أَوِ اقْتِصادِيًّا، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذا أَنَّهُ مَفْرُوضٌ أَنْ يَخْرُجَ الإِنْسانُ عَنِ المأْلُوفِ، لَكِنَّ المفْرُوضَ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ الإِنْسانُ بِما دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَأَذْكُرُ هَذِهِ القَضِيَّةَ حَتَّى لا يَقُولُ قائِلٌ: هَذا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ، كُلُّ العُلَماءِ يُعَظِّمُونَ الكِتابَ وَالسُّنَّةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقِفَ عِنْدَها حَتَّى تَتَمَيَّزُ وَيَسْتَفِيدُ مِنْها طَلَبَةُ العِلْمِ، وَيُعَلِّمُ أَنَّ تَعْظِيمَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الاسْتِمْساكُ بِما دَلَّا عَلَيْهِ، مَهْما كانَ مُخالِفًا لما عَهِدَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ.
ثانِي ما يَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ في الجَوانِبِ العِلْمِيَّةِ عِنايَتُهُ بِالحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ، فَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ ذا اهْتِمامٍ بِالحِكَمِ وَالتَّعْلِيلِ وَأَسْرارِ الشَّرِيعَةِ وَالغاياتِ بِشَكْلٍ واضِحٍ، وَلِهَذا كانَ يُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ العِنايَةِ بِمَعْرِفَةِ أَسْرارِ الشَّرِيعَةِ وَإِدْراكِها وَإِظْهارِها في الأَحْكامِ؛ حَتَّى يَعْرِفُها النَّاسُ وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْها طَلَبَةُ العِلْمِ، يَقُولُ شَيْخُنا رَحِمَهُ اللهُ: فَما مِنْ حِكَمٍ مِنْ أَحْكامِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا وَلَهُ حِكْمَةٌ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ قَدْ تَظْهَرُ لَنا بِالنَّصِّ أَوْ بِالإِجْماعِ أَوْ بِالاسْتِنْباطِ، وَقَدْ لا تَظْهَرُ لِقُصُورِنا أَوْ تَقْصِيرِنا في طَلَبِ الحِكْمَةِ.
ثُمَّ يَذْكُرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ ثَلاثَ فَوائِدَ لِلعِنايَةِ بِالحِكْمَةِ، وَهِيَ تُبَيِّنُ هَذِهِ الحَفاوَةَ الَّتي تَمَيَّزَ بِها رَحِمَهُ اللهُ لماذا كانَتْ، قالَ في الفَوائِدِ: التَّأْكِيدُ عَلَى الحِكَمِ وَالآثارِ وَالغاياتِ في الأَحْكامِ تَزِيدُ المسْلِمَ طُمَأْنِينَةً، وَإِنَّها تُبَيِّنُ سُمُوَّ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّها تُمَكِّنُ العالِمَ المجْتَهِدَ مِنَ القِياسِ.
وَمِنْ سِماتِ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ في مَسِيرَتِهِ العِلْمِيَّةِ، وَمِمَّا مَيَّزَ مَنْهَجَهُ: الاحْتِفاءُ بِالاسْتِدْلالِ العَقْلِيِّ، فَكانَ رَحِمَهُ اللهُ كَثِيرًا ما يُرَدِّدُ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ وَالدَّلِيلَ النَّظَرِيَّ؛ الدَّلِيلُ مِنَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ، وَالدَّلِيلُ العَقْلِيُّ.. وَهَذا لَيْسَ خارِجًا عَنْ نَسَقِ الأَئِمَّةِ وَالعُلَماءِ، لَكِنَّهُ أَكَّدَ عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ في تَعْلِيمِهِ، وَفِي إِفْتائِهِ، لِحاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَشارَ إِلَى أَنَّ القُرْآنَ احْتَفَى بِالتَّعْلِيلِ وَذِكْرِ الحُكْمِ لِلأَحْكامِ، حَتَّى يُقِْبلَ النَّاسُ عَلَيْها.
وَيَتَأَكَّدُ هَذا الاهْتِمامِ في هَذا الزَّمانِ؛ لأَنَّ النَّاسَ في هَذا الزَّمانِ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَعْفِ الإِيمانِ ما يُحْتاجُ مَعَهُمْ في إِقْناعِهِمْ إِلَى أَنْ تُبْرِزَ الأَدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ عاضِدًا لِلدَّلِيلِ النَّصِيِّ.
مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ ضَبْطُهُ لِلعِلْمِ بِالقَواعِدِ وَالأُصُولِ، فَعِلْمُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ لَيْسَ عِلْمًا أُفُقِيًّا، بَلْ كانَ عِلْمًا رَأْسِيًّا فِيهِ رُسُوخٌ، وَالعِلْمُ الأُفُقِيُّ هُوَ العِلْمُ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ هَذا العِلْمِ نُتْفَةً وَمِنْ هَذا العِلْمِ نُتْفَةً، وَيَكُونُ عِنْدَكَ مَعارِفُ شَتَّى، لَكِنْ لَيْسَ لَدَيْكَ رُسُوخٌ، وَهَذا كَثِيرٌ في طَلَبَةِ العِلْمِ، لَكِنَّ الَّذِي مَيَّزَ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ عِلْمَهُ كانَ عِلْمًا رَاسِخًا، مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ وَقَواعِدَ، فَلِذَلِكَ تَمَيَّزَ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَكانَ دَقِيقًا في رَأْيِهِ وَاخْتِيارِهِ وَإِفْتائِهِ وَنَقْدِهِ، بِسَبَبِ رُسُوخِ عِلْمِهِ، عَلَى قِلَّةِ المصادِرِ الَّتِي كانَتْ مُتَوَفِّرَةً في أَيْدِيهِمْ، َواليَوْمَ ما شاءَ اللهُ الكُتُبُ تَمْلَأُ كُلَّ مَكانٍ وَفِي يَدِ طَلَبَةِ العِلْمِ، وَالَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْتَنِي الكِتابَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ خِلالِ وَسائِلِ الاتِّصالِ الحَدِيثَةِ والإِنْتَرْنِتْ وَما أَشْبَهَ وَذَلِكَ، وَيَصِل إِلَى مَخْطُوطاتٍ في أَقْصَى الدُّنْيا، فَتَيسُّرُ المعْلُومَةِ بِالتَّأْكِيدِ أَنَّهُ يُكْسِبُ مَلَكَةً، لَكِنْ في زَمانِهِ رَحِمَهُ اللهُ في أَوَّلَ سِني تَدْرِيِسِهِ لَمْ تَكُنِ الكُتُبُ مَطْبُوعَةً، إِنَّما طُبِعَتْ الكُتُبُ لاحِقًا، فَكانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى أَهَمِّيَّةِ التَّرْكِيزِ وَالتَّأْصِيلِ في العِلْمِ حَتَّي يَتَمَكَّنَ مِنَ الإِجابَةِ عَنْ كُلِّ ما يُمْكِِنُ أَنْ يَجِدَ وَيُحَدِّثْ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ طَيِّبَ الصِّلَةِ بِزُمَلائِهِ، مُتعاوِنًا في تَعْلِيمِهِ وَفي صِلَتِهِ بِالمشايِخِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذا جانِبٌ مِنَ الجَوانِبِ الَّذِي يُمَثِّلُ أَنْ مِمَّا مَيَّزَ شَيْخَنا في عِلْمِهِ سَلامَةُ الصَّدْرِ، فَلَمْ يَكُْنِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مُنافِسًا عَلَى مَنْزِلَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ مَنْزِلَةٍ يَسْبِقُ بِها غَيْرَهُ، إِنَّما كانَ رَحِمَهُ اللهُ حَرِيصًا عَلَى بَذْلِ العِلْمِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَمِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِغاءَ ما عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَكُنْ رَحِمَهُ اللهُ يُنافِسُ أَحَدًا، وَأَنا أَذْكُرُ مَرَّةً مِنَ المرَّاتِ قُلْتُ لَهُ: زارَنا أَحَدُ المشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الحَدِيثِ (أَحَدُ المشايِخِ وَطَلَبَةُ العِلْمِ) فَكانَ يَقُولُ: هَؤُلاءِ الفُقَهاءِ ما عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَالعِلْمُ عِنْدَ المحَدِّثِينَ، وَيَذْكُرُ في هَذا شَيْئًا كَثِيرًا حَوْلَ هَذِهِ النُّقْطَةِ بِالذَّاتِ. وَمَسْأَلَةُ خِلافِ المحَدِّثينَ مَعَ الفُقَهاءِ مَعْهُودَةٌ وَمَعْرُوفَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يا شِيخُ، ما رَأْيُكَ في هَذِهِ المقُولَةِ، فَقالَ: لَوْ أَنَّنا نَسْتَشْعِرُ أَنَّنا خُدَّامٌ لِلشَّرِيعَةِ؛ لَفَرِحَ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا بِعَمَلِ الآخَرِ الَّذِي فِيهِ رِفْعَةُ الشَّرِيعَةِ وَنَشْرِها.
وَهَذا المعْنَى يَغِيبُ عَنْ طُلَّابِ العِلْمِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيانِ، وَتَجِدُهُمْ يَتَنافَسُونَ عَلَى المنازِلِ، وَعَلَى اكْتِسابِ القُبُولِ عِنْدَ النَّاسِ، في حِينِ أَنَّ الشَّأْنَ لَيْسَ فِيما تَكْسِبُ عِنْدَ النَّاسِ، إِنَّما الشَّأْنُ فِيما تَكْسَبُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ تَضِيقُ المنازِلُ عِنْدَهُمْ، فَلا تَتَّسِعُ قُلُوبُهُمْ لِكَثِيرِينَ، لَكِنْ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ وَعَطاؤُهُ وَمَنُّهُ يَتَّسِعُ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ جَلَّ في عُلاهُ.
فَهَذِهِ النَّفْسِيَّةُ كانَ لَها تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ وَانْعَكَسَتْ في طَرِيقَتِهِ في التَّعْلِيمِ، وَفِي مَحَبَّتِهِ لِنَشْرِ العِلْمِ، وَفِي كَراهِيَتِهِ لِلنَّيْلِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ في مَجْلِسِهِ مِنْ طَلَبَةِ عِلْمٍ أَوْ مَشايِخَ، فَكانَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ أَحَدًا حَتَّى في نِسْبَةِ الأَقْوالِ، وَلَوْ قُلْتَ: ما رَأْيُكَ في القَوْلِ الفُلانِيِّ؟ وَما قالَ بِهِ فُلانٌ؟ قالَ: اتْرُكْ فُلانًا، فَلا يَعْتَنِي بِالقائِلِينَ طَلَبًا لِسَلامَةِ الصَّدْرِ، وَتَرْبِيَةً لِلنَّشْءِ وَطَلَبِةِ العِلْمِ عَلَى الاعْتِناءِ بِالأَقْوالِ دُونَ القائِلِينَ، وَبِالأَفْكارِ دُونَ أَصْحابِها، وَهُنا تَمَيَّزَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ، وَكانَ لَهُ مِسْحَةٌ ظاهِرَةٌ في هَذا الجانِبِ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ هَوِيَ التَّعْلِيمَ هِوايَةً، بِمَعْنَى أَنَّ التَّعْلِيمَ كانَ يَجْرِي في دَمِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَهَذا مِنْ أَسْرارِ تَمَيُّزِهِ، ذَلِكَ أَنَّهُ مُنْذُ أَنْ بَدَأَ رَحِمَهُ اللهُ مَسِيرَتَهُ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالتَّعْلِيمِ، فَبَدَأَ مُتَعَلِّمًا مُعَلِّمًا، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ خاصَّتِهِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ هَذا رَافَقَهُ مُنْذُ أَنْ كانَ صَغِيرًا، فَكانَ وَهُوَ طِفْلٌ يُمارِسُ دَوْرَ المعَلِّمِ في الكُتَّابِ فِي وَقْتِ الَّلعِبِ، فَيَصِفُ الأَشْياءَ أَوْ يُلْقِي عَلَيْهِمْ وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمِهْنَةِ التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيِس، هَكَذا حَدَّثَنِي بَعْضُ خاصَّتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَهُوَ ما اتَّضَحَ في طَرِيقَةِ تَعْلِيمِهِ شَرْقَ الدُّنْيا وَغَرْبَها، فَإِذا سَأَلَتْهُمْ: أَيُّ شَرْحٍ أَيْسَرُ لَكُمْ لِفَهْمِ العِلْمِ، قالُوا: شَرْحُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ العُثَيْمِينِ، رَغْمَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ يَشْرَحُ مُتُونًا تُفَكُّكُ بِأَصْعَبَ ما يَكُونُ مِنْ وَسائِلِ التَّفْكِيكِ، وَأَدَقِّ وَأَصْعَبِ العِباراتِ، لَكِنَّ اللهَ طَوَّعَ لَهُ البَيانَ، وَكانَ مِنْ هَمِّهِ تَقْرِيبُ العِلْمِ، فَبَلَّغَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ.
وَلِهَذا الآنَ يَتَسابَقُ النَّاسُ عَلَى مُؤَلَّفاتِهِ؛ وَمِثالُ ذَلِكَ الشَّرْحُ الممْتِعُ، فَلَوْ ذَكَرْتَ مِنْ ذَكَرْتَ في الكُتُبِ وَالمؤْلَّفاتِ الَّتِي خَدَمَتْ زَادَ المسْتَقْنِعِ لَنْ تَجِدَ ما يَشْفِي طَلَبَةَ العِلْمِ وَيُقَرِّبُ لَهُمْ المعْلُومَةَ أَكْثَرُ مِنْ هَذا الكِتابِ، رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيفًا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ؛ لأَنَّ التَّأْلِيفَ يَخْتَلِفُ عَنِ التَّدْرِيسِ، فَالتَّأْلِيفُ لَهُ نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيرِ وَالدِّقَّةِ لَيْسَتْ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالإِلْقاءِ وَالتَّدْرِيسِ الَّذِي يَكُونُ مُشافَهَةً لِلطَّلَبَةِ، فَشَيْخُنا ابْنُ عُثَيْمينَ رَحِمَهُ اللهُ بَذَلَ عَبْرَ نِصْفِ قَرْنٍ جُهْدًا مُضْنِيًا، وَعَمَلًا دَءُوبًا في التَّعْلِيمِ بِشَتَّى الصُّوَرِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سَبِيلًا وَلا طَرِيقًا إِلَّا وَسَلَكَهُ في التَّعْلِيمِ، وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ مُبادِرًا، وَهَذِهِ خَصْلَةٌ تَخْفَى عَلَىَ بَعْضِ النَّاسِ، وَالشَّيْخُ لَمْ يَكُنْ مُتَوارِيًا أَوْ مُتَوانِيًا في تَقْدِيمِ العِلْمِ، فَكانَ يُجِيبُ السَّائِلِينَ عَبْرَ الكِتاباتِ وَالاسْتِفتاءاتِ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِ، وَيُخَصِّصُ لِذَلِكَ وَقْتًا، وَهَذا لَيْسَ في آخِرِ وَقْتِهِ فَقَطْ، بَلْ مِنْ أَوائِلِ وَقْتِهِ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى تَحْريراتِ دَقِيقَةٍ بالِغَةٍ في العُمْقِ العِلْمِيِّ مِنْ أَوائِلِ الثَّمانِينيَّاتِ، وَهَذا الَّذِي رَأَيْتَهُ قَدْ يَكُونُ أَمْرًا قَبْلَ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذا ما رَأَيْتُهُ، وَهُناكَ أَشْياءُ لَمْ أَشْهَدْها، وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ في بَعْضِ فَتاوَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ، كُلُّها كانَتْ إِجابَةَ سائِلِينَ، وَأَنْتَ في هَذا الحِينِ تَقْرَأُ هَذا التَّحْرِيرَ العِلْمِيَّ وَهَذِهِ الدِّقَّةُ، هَلْ لأَنَّها تَنْشُرُ في صَحِيفَةٍ أَوْ في مَجَلَّةٍ؟ هِيَ وَسائِلُ خاصَّةٌ، إِذَنْ هُوَ مَنْهَجٌ وَلَيْسَ أَمْرًا لأَجْلِ أَنْ يُنْشَرَ. وَالآنَ عِنْدَما أَقُولُ لَكَ: أَلْقِ كَلِمَةً في مَسْجِدٍ، وَأَلْقِ كَلِمَةً عَبْرَ مَوْقِعٍ سَيَنْقُلُ صَوْتًا وَصُورَةً إِلَى العالَمِ، بِالتَّأْكِيدِ بَيْنَهُما فَرْقٌ في الإِعْدادِ وَالتَّهْيِئَةِ وَطَرِيقَةِ العَرْضِ وَالاهْتِمامِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللهُ كانَ لا يَفْرُقُ فِيما يَكْتُبُهُ بَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لمسْتَفْتٍ مُتَخَصِّصٍ، وَبَيْنَ مُسْتَفْتٍ يَأْنَسُ فِيهِ أَنَّهُ طالِبُ عِلْمٍ، طَبْعًا هُناكَ أَجْوِبَةٌ تُناسِبُ عامَّةَ النَّاسِ، لَكِنْ ما شَهِدْتُهُ مِنْ كِتاباتِهِ تَحْريراتٌ عِلْمِيَّةٌ دَقِيقَةٌ، لِمَنْ يَتَوَقَّعُ أَنَّهُ مِنْ طَلَبَةِ ءالعِلْمِ وَبَعْضِهِمْ كانَ مِمَّنْ يُدَرِّسُ وَيَتَلَقَّىَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللهُ، هَذا مِنْ أَوْجُهِ مُبادَرَتِهِ في التَّعْلِيمِ.
وَمِنْ أَوْجِهِ مُبادَراتِهِ وَقْفُهُ نَفْسُهُ لِلتَّدْرِيسِ بِصُورَةٍ لَيْسَ لَها نَظِيرٌ، وَلا أَظُنُّ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ في المشاهِيرِ، وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ عنَ الأَخْفِياءِ، وَلَكِنْ في المشاهِيرِ لا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا بَلَغَ ما بلَغَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ في نَصْبِ نَفْسِهِ للِتَّعْلِيمِ، وَاهْتِمامِهِ بِالتَّدِرِيسِ، وَعِنايَتِهِ بِطَلَبَةِ العِلْمِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ انْشِغالِهِ في آخِرِ الوَقْتِ، لَكِنْ كانَ هَذا جانِبًا بارِزًا في حَياتِهِ رَحِمَهُ اللهُ وَمُهِمًّا، وَيُعْطِيهِ مِنَ الأَوْلَوِيَّةِ ما كانَ مُرافِقًا لَهُ تَمامًا إِلَى آخِرِ حَياتِهِ.
وَلا نَنْسَى أَنْ نَذْكُرَ هَذا النَّمُوذَجَ لِعِنايَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ: وَذَلِكَ في يَوْمِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ شَعْبانَ في عامِ أَلْفٍ وَأَرْبِعِ مِئَةٍ وَواحِدٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى المسْتَشْفَى التَّخَصُّصِي بِالرِّياضِ لإِجْراءِ بَعْضِ الفُحُوصاتِ إِثْرَ تَعَبِهِ رَحِمَهُ اللهُ وَما أَلَمَّ بِهِ مِنَ المرَضِ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ وَكُنْتُ مُرافِقًا لَهُ في تِلْكَ الَّلحْظَةِ في دُخُولِ المسْتَشْفَى، وَوَاللهِ ما أَنْسَى يا إِخْوانِي أَنَّهُ ما إِنْ وَضَعَ الشَّيْخُ ظَهْرَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَكُنْتُ بِجِوارِهِ، أَشارَ بِأَصْبِعِهِ رَحِمَهُ اللهُ قائِلًا: تَرَىَ أَنَّا رَتَّبْنا دُرُوسَ الجامِعِ، اهْتَمُّوا بِالطَّلَبَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالاتِّفاقِ.. شَخْصٌ في مِثْلِ هذا الظرف، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الحالِ، بِالتَّأْكِيدِ أَنَّهُ قَدْ يَنْسَى، لَكِنَّ التَّعْلِيمَ كانَ حاضِرًا مَعَهُ رَحِمَهُ اللهُ في كُلِّ مَراحِلِ حَياتِهِ، وَلِذَلِكَ رَغِبَ أَنْ يُعَلِّمَ رَغْمَ مَرَضِهِ، وَالذَّهابُ إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ فَقَطْ لِشُهُودِ صَلاةٍ، أَوْ شُهُودِ بُقْعَِةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّما لِتَعْلِيمِ العِلْمِ، وَبَذْلِ كُلِّ ما يُمْكِنُ إِلَى آخِرِ رَمَقٍ، إِلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضانَ، عامَ أَلْفٍ وَأَرْبِعِ مِئَةٍ وَواحِدٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تُوَفِّيَ بَعْدَها بِأَرْبَعَةِ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَلَكِنْ كانَ رَحِمَهُ اللهُ يَعْلَمُ، وَهَذا نَوْعٌ مِنَ المبالَغَةِ وَمِنَ الحِرْصِ وَالشَّفَقَةِ في نَشْرِ العِلْمِ، وَإِيصالِ المعارِفِ وَالخَيْرِ إِلَى النَّاسِ.
وَمِنْ مُبادَرَاتِهِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ في المشارَكَةِ في الرَّادْيُو، رَغْمَ وُجُودِ عَدَمِ أُلْفَةٍ في مِثْلِ هَذا في أَوَّلِ الوَقْتِ عِنْدَ بَعْضٍ مِنَ المشايِخِ بِسَبَبِ البِيئَةِ الَّتِي وَصَفْتُها لَكُمْ، حَتَّى في المشارَكَةِ في التِّلْفازِ حَضَرَ رَحِمَهُ اللهُ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ بَرْنامَجٌ إِفْتائِيٌّ في التِّلْفازِ وَقَبِلَ، وَأَرادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَجْاءَهُ مَنْ جاءَهُ في ذَلِكَ الظَّرْفِ الَّذِي كانَ النَّاسُ هُناكَ مِنْ يُعارِضُ مِثْلَ هَذِهِ الأُمُورِ، وَلا يُقْبِلُ مُشارَكَةَ المشايِخِ في مِثْلِ هَذا، فَقالَ لَهُ ما قالَ، فَرَأَى الشَّيْخُ أَنَّ مِنَ المصْلَحَةِ أَنَّ يُنِيبَ غَيْرَهُ في قِراءَةِ اسْتِفْتاءاتِ عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَكانَ الأَصْلُ أَنْ يُقَدِّمَ هُوَ البَرْنامَجُ، لَكِنْ لِمُراعاةِ ظُرُوفٍ مُعَيَّنَةٍ قَبِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ، وَلَمْ يُضَيِّعِ الفُرْصَةَ أَنْ يَقُومَ بِتَقْدِيمِ البَرْنامَجِ أَحَدُ مُحَبِّيهِ، وَأَحَدُ مَنْ كَلَّفَهُمْ بِتَقْدِيمِ السُّؤالِ وَالجَوابِ. وَصَدَرَ في ثَلاثَةِ مُجَلَّداتٍ ما كانَ يُلْقَىَ مِنْ أَسْئِلَةٍ وَأَجْوِبَةٍ فِيما يُعْرَفُ بِمَنارِ الإِسْلامِ، وَهِيَ عِبارَةٌ عَنْ أَسْئِلَةِ ذَلِكَ البَرْنامَجِ الَّذِي شارَكَ فِيهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ.
بَلْ عِنْدَما جاءَ الإِنْتَرْنِتْ وَجاءَتْ المواقِعُ، بادَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ بِتَأْسِيسِ مَوْقِعٍ، وَإِلَى الآنَ المؤْسَّسَةُ تَبُثُّ الخَيْرَ، وَتَنْشُرُ مِنْ عُلُومِ الشَّيْخِ مِنْ خِلالِهِ، وَتُمارِسُ نَشاطَها مِنْ طَرِيقِهِ، إِضافَةً إِلَى القَناةِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَبُثُّ دُرُوسَ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللهُ.
فَكُلُّ هَذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ مُبادِرًا، وَهَذا مِنْ سِماتِ العالِمِ: أَلَّا يَتَرَدَّدُ في بابٍ مِنْ أَبْوابِ الخَيْرِ، يَطْمَعُ مِنْ خِلالِهِ أَنْ يُوصَّلِ المعارِفَ وَيُوَصِّلُ العُلُومَ.
هَذا الجانِبُ الأَوَّلُ مِنْ جَوانِبِ شَيْخِنا رَحِمَهُ اللهُ فِيما يَتَّصِلُ بِجانِبِ العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ.
وَفِيما يَتَّصَلُ بِالجانِبِ الثَّانِي: مَسِيرَتُهُ في حَياتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، فَشَيْخُنا مَحْمَدُّ بْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ صُورِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ عَلْمَ لَسانٍ، بَلْ مِمَّا مَيَّزَهُ اللهُ تَعالَى بِهِ أَنْ كانَ عِلْمُهُ عِلْمًا تَرْجَمَهُ في عَمَلِهِ، وَظَهَرَ عَلَى سُلُوكِهِ، وَقَوْلِهِ، وَأَخْلاقِهِ، وَمُعامَلَتِهِ. وَلَهَذا عِنْدما نَتَكَلَّمُ عَنْ مَسِيرَتِهِ الحياتِيَّةِ سَيَظْهَرُ لَنا جليًّا أثرُ العِلْمِ في سُلُوكِ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ، فَكانَ رَحِمَهُ اللهُ عَظِيمَ التَّعَهُّدِ لِلقُرْآنِ، وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ لَهُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُرْآنِ: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» صَحيحُ البُخارِيِّ (5033)، صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1880).، فَكانَ يَخْتِمُ في الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ في الأَيَّامِ العادِيَّةِ، وَكانَ في رَمَضانَ يَخْتِمُ في كُلِّ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَى أَنْ شُغِلَ رَحِمَهُ اللهُ فَاقْتَصَرَ عَلَىَ الخَتْمِ في رَمَضانَ في كُلِّ عَشْرَة أَيَّاٍم، وَلَيْسَ الشَّاهِدُ في القِراءَةِ فَقَطْ، بَلْ في التَّدَبُّرِ، فَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ عَظِيمَ التَّدَبُّرِ في القُرْآنِ، وَيَلْفِتُ نَظْرَ مَنْ يُعاشِرُهُ وَيُخالِطُهُ في لَفَتاتِهِ وَاقْتِباساتِهِ مِنَ الآياتِ مِنَ القُرْآنِ، وَذَلِكَ في مَواقِفَ حَياتِيَّةٍ عادِيٍَّة، فَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ النساء: 86 عَلَى سَلامٍ، فَمَرَّةً دَخَلَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى مَجْلِسٍ، وَكانَ فِيهِ أَحَدُ الطُّلَّابِ، فَقالَ الشَّيْخُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ الأَخُ بِصَوْتٍ خافِتٍ: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ، فَقالَ الشَّيْخَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، وَهَذا تَرْجَمَةٌ لِلقُرْآنِ وَاسْتِحْضارِ لمعانِيهِ في المعامَلَةَ، وَفي الممارَسَةِ.
وَفِي مَرَّةٍ مِنَ المرَّاتِ، في خُرُوجِهِ مِنَ المعْهَدِ العِلْمِيِّ مِنَ المحاضَرَةِ، وَكانَ هُناكَ مَنْ يَحْتَفِي بِالشَّيْخِ مِنَ الحَرَسِ (حَرَسُ المعْهِدِ)، فَكانَ فَرِحًا بِالشَّيْخِ وَيُشِيرُ بِيَدَيْهِ احْتِفاءً بِهِ، وَكُنْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا الْتَفَتَ إِذا بِالشَّيْخِ يُبادِلُهُ نَفْسَ الطَّرِيقَةِ في الإِشارَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ وَكانَ يَرَى فيَّ اسْتِغْرابًا، فَقالَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾. فَهَذِهِ نَماذِجُ عَمَلِيَّةٌ لِتَدَبُّرِ القُرْآنِ، وَفَهْمُهُ وَتَرْجَمَتُهُ لِواقِعٍ عَمَلِيِّ.
وَفِي قِراءَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ كانَ يُعْجِبُهُ في القِراءَةِ أَنْ يَقْرَأَ قِراءَةَ تَدَبُّرٍ مَعَ وَقَفاتِ لِلمَعانِي، وَيَحْتَفِي بِذَلِكَ سَماعًا، وَقَدْ قالِ: إِنَّما تَعَلَّمْتُ هَذا عَنْ شَيْخِنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ، كُنَّا نَقْرَأُ القُرْآنَ هَزًّا دُونَ الوُقُوفِ عَلَى مَعانِيهِ، فَكُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيِّ فَنَتَعَجَّبُ مِنْ وَقَفاتِهِ، فَنَسْأَلُ فَيَتَبَيَّنُ لَنا مِنْ خِلالِ ذَلِكَ السُّؤالِ أَنَّها وَقَفاتٌ لِتُتِمَّ المعانِي بِها، أَوْ يَبْتَدِئُ مَعْنَى جَديدًا، فارْتَكَزَ ذَلِكَ في نَفْسِي. قالَ: وَأَلْقَى اللهُ في قَلْبِي العِنايَةَ بِالقِراءَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَلِهذا كانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مُهْتَمًّا بِأَنْ يَقْرَأَ هَذَهِ القِراءَةَ.
وَمِمَّا يَظْهَرُ في سُلُوكِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ عِنايَتُهُ بِتَعْلِيمِ القُرْآنِ، فَقالَ وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ: وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ تَعْلِيمِي كُلَّهُ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ، وَلَكِنَّ الطَّلَبَةَ لا يُطِيعُونَ، أَيْ أَنَّ الطُّلاَّبَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ شَرْحَ مُتُونٍ في الفِقْهِ، وَفي الحَدِيثِ، وَفِي سائِرِ أَبْوابِ العِلْمِ.. وَهَذِهِ كَلِمَةُ العُلَماءِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، فَكُلَّما رَسَخَتْ قَدَمُ العالِمِ نَطَقَ بِمِثْلِ هَذِهِ الكَلِماتِ، وَهِيَ تَمَنِّيهِ أَنْ يَكُونَ القُرْآنُ جُلَّ اهْتِمامِهِ، وَلِهَذا ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ قالَ: تَمَنَّيْتُ أَلَّا أَشْتَغِلَ بِغَيْرِ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، وَذَلِكَ لِعَظِيمِ ما يَجِدُونَهُ مِنَ الكَنْزِ في هَذا الكِتابِ الحَكِيمِ، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ العنكبوت: 49..
أَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَّةِ فَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَهُ رَحِمَهُ اللهُ في تَعْظِيمِهِ لِلسُّنَّةِ، وَعَمَلِهِ بِها، لا أَقُولُ ذَلِكَ عَنْ ظَنٍّ، بَلْ وَاللهِ عَنْ مُشاهَدَةٍ فِي تَفاصِيلَ دَقِيقَةٍ، وَقَدْ يَقُولُ قائِلٌ: هَذِهِ أُمُورٌ عادِيَّةٌ يَفْعَلُها النَّاسُ، وَكَوْنُكَ تَفْعَلُها مَرَّةً إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَشْرَبَ جَلَسْتَ، هَذا يَحْصُلُ، لَكِنْ كَوْنُكَ في كُلِّ مَرَّةٍ تَشْرَبُ عَلَى مَرِّ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَسَنَواتٍ مُتَوالِيَةٍ، تَحْرِصُ عَلَى تَطْبِيقِ السُّنَّةِ في الشُّرْبِ، وَتَطْبِيقِ السُّنَّةِ في اللِّباسِ، وَتَطْبِيقِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ، وَتَطْبِيقِ السُّنَّةِ في المعامَلَةِ، هُنا الاخْتِبارُ وَالامْتِحانُ، لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تَنْجَحَ في تَطْبِيقِ السُّنَّةِ في مَوْضِعٍ أَوْ مَوْضِعَيْنِ أَوْ فَتْرَةٍ أَوْ فَتْرَتَيْنِ، إِنَّما الدَّوَامُ، وَلِذَلِكَ كانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ دَائِمَ العَمَلِ بِالسُّنَّةِ حَرِيصًا.
وَأَنا أَوَّلُ مَوْقَفٍ لَفَتَ نَظَرِي في حِرْصِ الشَّيْخِ عَلَىَ السُّنَّةِ؛ كُنْتُ طالِبًا في جامِعَةِ البِتْرُولِ وَالمعادِنِ، وَزارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ الجامِعَةَ، وَكُنْتُ مُرافِقًا لَهُ، فَلَمَّا أَرْدَنا النَّوْمَ فَرَشْتُ لِلشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ فِراشًا جَدِيدًا وَمُهَيَّئًا، وَكانَ مَعَنا شَخْصٌ ثالِثٌ، فَلَمَّا جَلَسَ الشَّيْخُ يُرِيدُ النَّوْمَ نَزَعَ غُتْرَتَهُ وَأَخَذَ يَمْسَحُ فِراشَهُ بِالغُتْرَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: يا شَيْخُ، أيِش هَذا؟ قالَ: هَذا ما كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ إِذا أَوَىَ إِلَى فِراشِهِ؛ تَعَهَّدَ فِراشَهُ بِطَرْفِ إِزارِهِ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ خَلَّفَهُ شَيْءٌ.. هَذا العَمَلُ المسْتَمِرُّ الَّذِي كانَ يُدِيمُهُ رَحِمَهُ اللهُ؛ وَهُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى اكْتِسابِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ الطُّرُقِ، وَفِي كُلِّ الأَحْوالِ؛ في الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، وَهُنا يَكُونُ سِرُّ القَبُولِ، وَهُنا يَكُونُ سِرُّ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ تَعالَى لِلإِنْسانِ القَبُولَ في عِلْمِهِ، فَكُلَّما كانَ العِلْمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ مُصاحِبًا بِالممارَسَةِ وَاليَقِينِ وَالإِيِمانِ، كانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ في قُلُوبِ النَّاسِ، وَأَرْجَى لِلتَّأْثِيرِ فِيهِمْ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مُنْذُ عَرَفْتُهُ لَمْ يَتْرُكْ صِيامَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنا عَرَفْتُهُ مُنْذُ عامِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ وَثَلاثَةٍ تَقْرِيبًا، وَكانَ القُرْبُ الملازِمُ في عامِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ وَثَمانِيَةَ، وَمُنْذُ هَذا الوَقْتِ إِلَى وَفاتِهِ كانَ يَحْرِصُ عَلَى صِيامِ ثَلاثَةِ أَيَّاٍم مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَما أَخَلَّ بِها في شَهْرٍ، حَتَّى في شَعْبانَ في أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ وَواحِدٍ وَعِشْرِينَ، وَهَذا هُوَ عامُ مَرَضِهِ رَحِمَهُ اللهُ إِلَّا أَنَّهُ صَامَ، وَلا زِلْتُ أَذْكُرُ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي كانَ الشَّيْخُ فِيهِ صائِمًا رَحِمَهُ اللهُ، وَهَذا العَمَلُ عَلَى هَذا الامْتِدادِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّباتَ وَالدَّوامَ مِنْ أَسْرارِ النَّجاحِ، وَمِنْ أَسْبابِ القُبُولِ، وَمِنْ دَواعِي التَّوْفِيقِ وَالتَّأْثِيرِ في الآخِرِينَ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ في صَلاتِهِ كانَ عَظِيمَ الاحْتِفاءِ بِالسُّنَّةِ، وَصَلاتُهُ مُمَيَّزَةٌ في طُولِها، وَفِي مُراعاتِها لِلآدابِ النَّبَوِيَّةِ في كُلِّ تَفاصِيلِها، وَهَذا لَمْ يَكُنْ فَقَطْ في صَلاتِهِ في المسْجِدِ، بَلْ حَتَّى في صَلاتِهِ في خَلَواتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَشَهِدْتُهُ مَرَّاتٍ وَهُوَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ لا تُفَرِّقُها عَنْ صلاتِهِ في المسْجِدِ مِنْ حَيْثُ الخُشُوعُ، وَالتَّأَنِّي، وَالهُدُوءُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَهَكَذا يَكُونُ أَهْلُ العِلْمِ؛ سِرُّهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَطْيَبُ مِنْ عَلانِيَتِهِمْ فَهُوُ كَعَلانِيَتِهِمْ.
وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ لا يُخِلُّ بِقِيامِ الَّليْلِ، وَيَحْرِصُ عَلَى صَلاةِ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَوْ يَسِيرًا، وَلَوْ رَكْعَةً، وَمِنَ الجَوانِبِ الَّتِي شَهِدْتُها فِيهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَهِيَ مَمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَرْجَمَةِ العِلْمِ، حِرْصُهُ عَلَى الأَذْكارِ، فَكانَ رَحِمَهُ اللهُ شَدِيدَ العِنايَةِ بِالأَذْكارِ؛ أَذْكارُ الصَّباحِ، وَأَذْكارُ المساءِ، وَأَذْكارُ بَعْدَ الصَّلَواتِ، وَهَذا وَاضِحٌ، وَمُنَوَّعٌ، وَلا يَثْبُتُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَذْكارِ، بَلْ كانَ يُنَوِّعُ، وَأَذْكُرُ مِنْ عِنايَتِهِ بِالذِّكْرِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ كانَ يُدَرِّسُ بِالحَرَمِ المكِّيِّ في رَمَضانَ، فَكانَ الدَّرْسُ يَبْدَأُ مُباشَرَةً بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرِ، فيُسَبِّحُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ تَسْبيحاتٍ يَسِيرَةً بِما تَيَسَّرَ مِنَ السُّنَّةِ مِنَ التَّسْبِيحِ أَدْبارَ الصَّلاةِ، ثُمَّ يَقُومُ بِالدَّرْسِ؛ لأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ، فَيُقَدِّمُ الذِّكْرَ التَّعْلِيمِيَّ عَلَى الذِّكْرِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ إِلَى آخِرِهِ، فَيَظَلُّ يُدَرِّسُ رَحِمَهُ اللهُ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَيَجْلِسُ في دَرْسِهِ إِلَى ما بَعْدَ الشُّرُوقِ قَرِيبَ السَّاعَةِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ لِيَسْتَرِيحَ، وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ إِذا ذَهَبْنا إِلَى البَيْتِ، وَآوَىَ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى فِراشَهِ، جَلَسَ يَذْكُرُ اللهُ تَعالَى أَذْكارَ الصَّباحِ الَّتِي لَمْ يَتَمَكَّنَ مِنَ القِيامِ بِها: سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِئَةَ مِرَّةٍ، وَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ مِئَةَ مَرَّةٍ.. وَاللهِ يا إِخْوانِي كَأَنَّهُ الآنَ أَمامَ عَيْنِي في الصَّالَةِ يَدُورُ رَحِمَهُ اللهُ! يَقْضِي ما انْشَغَلَ عَنْهُ مِنَ الذِّكْرِ بِسَبَبِ التَّعْلِيمِ. فَهَذا نَمُوذَجٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ العَمَلِيَّةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ التَّمْيُّزُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الخَيْرُ وَالصِّدْقُ لِلإِنْسانِ.
أَمَّا الجَوانِبُ الأُخْرَى مِنْ وَرَعِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَتَحَرِّيهِ، فَهَذا يَعْرِفُهُ مَنْ خالَطَهُ، وَالقَصَصُ في هَذا كَثِيرَةٌ وَظاهِرِةٌ، فَزُهْدُهُ رَحِمَهُ اللهُ شَيْءٌ بَيِّنٌ وَظاهِرٌ في سُلُوكِهِ وَعَمَلِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ سِماتُ العِلْمِ، لَكِنَّ السَّماتِ البارِزَةَ الَّتِي لا تُخْطِئُها في أَخْلاقِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ وَمُعامَلَتُهُ: التَّواضُعُ، فَلَمْ يَكُنِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ حاجِزٌ، فَيَصِلُ كُلَّ النَّاسِ؛ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، العَرَبِيُّ وَالعَجَمِيُ، الصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ، الذَّكَرُ وَالأُنْثَى، وَكانَ قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَحْدُثُ حِدَّةٌ بَعْضَ الأَحْيانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ.. وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أَوْسِعِ النَّاسِ صَدْرًا في تَعْلِيمِ العِلْمِ، وَفي تَحَمُّلِهِ، وَمَنْ شَهِدَ اكْتِظاظِ النَّاسِ عَلَيْهِ في الحَرَمَيْنِ، وَفِي مَواسِمِ الحَجِّ، وَفِي أَواخِرِ شَهْرِ رَمَضانَ يَقُولُ: كَيْفَ يَتَحَمَّلُ هَذا شَخْصٌ بَلَغَ مِنَ السِّنِّ قَرِيبَ السَّبْعِينَ، لَكِنْ رَحِمَهُ اللهُ كانَ يَصْبِرُ عَلَى النَّاسِ، فَكانَ هَذا مِنْ سِماتِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَكانَ تَواضُعُهُ سَبَبًا لِقُرْبِ النَّاسِ مِنْهُ، فَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ شاهَدْتُهُ رَحِمَهُ اللهُ جالِسًا يَكْتُبُ لأَحَدٍ عَلَى الرَّصِيفِ في الشَّارِعِ! فَيَكْتُبُ لامْرَأَةٍ، وَيَكْتُبُ لِرَجُلٍ، أَوْ يَقْضِي حاجَةَ أَحَدٍ، وَهَذا ما يَفْعُلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا وَلا عُشْرَ مِعْشارِ ما بَلَغَهُ رَحِمَهُ اللهُ، وَهُوَ إِمامٌ وَعالِمٌ يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، لَكِنَّ تَواضُعَهُ كانَ فِطْريًّا جِبِلِّيًّا، فَقَدْ رَزَقَ اللهُ الشَّيْخَ تَواضُعًا فِطْريًّا هَذَّبَهُ وَجَلَّاهُ نَظَرُهُ فِي فَضِيلَةِ التَّواضُعِ: فَمَنْ تَواضَعَ للهِ رَفَعَهُ.
وَفِيما يَتَعَلَّقُ بِالصَّبْرِ فَإِنَّهُ كانَ سِمَةً مِنْ سِماتِ شَيْخِنا مُحَمَّدِ بْنِ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ، فَكانَ صَبُورًا، وَصَبْرُهُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أَسْرارِ تَمَيُّزِهِ، وَلا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ ما يُعْطَى، كَما قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ في ذِكْرِهِ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» صَحِيحُ البُخارِيِّ (1469)، صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1053). فَهُوَ خَيْرُ عَطاءٍ؛ لأَنَّهُ الحامِلُ عَلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَالزَّاجِرُ عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ.. فَكانَ رَحِمَهُ اللهُ صَبُورًا؛ صَبَرَ في تَعَلُّمِهِ، وَصَبَرَ عَلَى قِلَّهِ ذاتِ اليَدِ فِي أَوَّلِ الوَقْتِ، وَصَبَرَ عَلَى مُنافِسِيهِ الَّذِينَ كانُوا لا يُرِيدُونَ تَفَوُّقِهِ وَتَمَيُّزِهِ وَقَبُولِ النَّاسِ لَهُ، وَصَبَرَ عَلَى مُخالِفِيهِ الَّذِينَ خالَفُوهُ في مَسائِلش العِلْمِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ القَوْلَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ بَلَغَ بِهِ مَبْلَغًا أَنْ قالَ فِيهِ قَوْلًا عَظِيمًا، فَصَبَرَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى تَعْلِيمِ العِلْمِ وَبَذْلِهِ في وَقْتٍ انْفَتَحَتْ الدُّنْيا لِلنَّاسِ، وَكانَ الشَّيْخُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَى ما يُرِيدُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيا بِما مَنَحَهُ اللهُ تَعالَى مِنَ العِلْمِ وَالمعْرِفَةِ، لَكِنَّهُ آثَرَ التَّعْلِيمِ، فَصَبَرَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالبَقاءِ في حِلَقِ العِلْمِ، فَأَعْقَبَهُ اللهُ خَيْرًا بِهَذَا القَبُولِ وَهَذِهِ النَّتائِجِ العَظِيمَةِ الَّتِي خَلَّفَها.. وَصَبَرَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى الطَّلَبَةِ؛ في ضَعْفِهِمْ وَكَسَلِهِمْ، في وَقْتٍ كانَ الَّذِي يَحْضُرُ الحَلَقَةَ وَاحِدًا في بَعْضِ الأَحْيانِ، وَكانَ في بَعْضِ الأَحْيانِ قَدْ لا يَجِدُ طالِبًا عِنْدَهُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُهُ، وَهُوَ مِنْ دَرَّسَهُ الشَّيْخُ في المعْهَدِ العِلْمِيِّ، أَنَّ الشَّيْخَ كانَ يَقُولُ لَهُمْ: تَعالَوْا بَعْدَ العَصْرِ الجامِعِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يُشْكَلُ عَلَيكُمْ في أَيْ مادَّةٍ أَدُرِّسُكُمْ إِيَّاهُ، وَهَذا يُؤَكِّدُ المعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَبْلَ قِلِيلٍ، أَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللهُ كانَ رَاغِبًا في التَّعْلِيمِ جِبِلَّةً وَفِطْرَةً وَكانَ حَرِيصًا عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ، فَيَقُولُ: تَعالَوْا في أَيِّ مادَّةٍ؛ جُغْرافِيا، تارِيخ، أُعَلِّمُكُمْ ما تَحْتاجُونَ، وَهَذا صَبْرٌ لَيْسَ بِاليَسِيرِ وَلا بِالسَّهْلِ وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ صَبُورًا عَلَى مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِ، وَلا يُقابِلُ الإِساءَةَ بِمِثْلِها، بَلْ يَتَحَمَّلُ، وَأَنا شَهِدْتُ مِنْ هَذا شَيْئًا كَثِيرًا، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ مِنْ طُلَّابِهِ، أَوْ كانَ ذَلِكَ مِنْ عامَّةِ النَّاسِ، أَوْ كانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْراِنهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، فَكانَ رَحِمَهُ اللهُ سَلِيمَ الصَّدْرِ، وَاسِعَ الخُلُقِ في قَبُولِ النَّاسِ وَالإِحْسانِ إِلَيْهِمْ وَالعَفْوِ عَنْ أَخْطائِهِمْ.. وَلا يَعْنِي هَذا أَنَّهُ مَلَكٌ، لَكِنْ نَحْنُ نُبْرِزُ الجَوانَبَ البارِزَةَ، وَلا يَعْنِي هَذا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُناكَ نَوْعٌ مِنَ القُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ البَشَرِيِّ، لَكِنْ ِفي السِّيَرِ وَالتَّراجُمِ نُبْرِزُ الجوانِبَ الإِيجابِيَّةَ الَّتِي كانَتْ غالِبَةً.
وَأَذْكُرُ أَنَّهُ تَوافَقَ أَنَّ الشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ عُثَيْمِينَ كانَ في جِدَّةٍ وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الأَلْبانِيُّ، فَحَرَصَ الشَّيْخُ غايَةَ الحِرْصِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِي بِهِ، وَطَلَبَ رَحِمَهُ اللهُ التَّنْسِيقَ لَهُ، فَزارَ الشُّيْخُ الأَلْبانِيَّ في بَيْتِهِ، وَكانَتْ جِلْسَةً في غايَةِ الأَدَبِ وَالجَلالَةِ والمهابَةِ وَالحَلاوَةِ، قُطْبانِ مِنْ أَعْلامِ الأُمَّةِ يَجْتَمِعانِ في مَجْلِسٍ يَتبادَلانِ الوُدَّ وَالمحَبَّةَ وَالتَّعاوُنَ، رَغْمَ ما بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ مِنَ افْتِراقٍ في الاهْتِمامِ، فَالشَّيْخُ الأَلْبانِيُّ كانَ اهْتِمامُهُ مُنْصَبًّا في الحَدِيثِ؛ تَصْحِيحًا وَرِوايَةً، وَشَيْخُنا رَحِمَهُ اللهُ كانَ اهْتِمامُهُ في فِقْهِ الحَدِيثِ، وَفَهْمِهِ، وَدِرايَتِهِ، مَعَ هَذا كانَ المجْلِسُ في غايَةِ المهابَةِ وَالجَلالَةِ.
هَذا نَمُوذَجٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصَبْرِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَالشَّواهِدُ وَالقَصَصُ كَثِيرَةٌ في هَذا الجانِبِ، لَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُشِيرَ إِشاراتٍ لِعَلِّي لا أُطِيلُ عَلَيْكُمْ.
وَفِيما يَتَعَلَّقُ بِحياتِهِ الأُسَرِيَّةِ فَشَيْخُنا رَحِمَهُ اللهُ تَعالَىَ رَزَقَهُ اللهُ تَعالَى زَوْجَةً صالِحَةً، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِأَبْناءَ بَرَرَةً، وَبَناتٍ صالِحاتٍ، فَرُزِقَ شَيْخُنا رَحِمَهُ اللهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أُمِّ عَبْدِ اللهِ خَمْسَةً مِنَ الأَبْناءِ؛ أَكْبَرُهُمْ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ إِبْراهِيمُ، ثُمَّ عَبْدُ العَزِيزِ، ثُمَّ عَبْدُ الرَّحِيمِ، وَلَهُ مِنَ البَناتِ ثَلاثٌ، وَكُلُّهُمْ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلاحٍ، نَسْأَلُ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالَى أَنْ يُبارِكَ فِيهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ خَلَفًا مُبارَكًا صالِحًا لِشَيْخِنا الجَلِيلِ.
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ مِثالًا مُمَيِّزًا في تَعامُلِهِ العامِّ، وَفِي تَعامُلِهِ الخَاصِّ، فَكانَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ لأَهْلِهِ، في قَضاءِ حَوائِجِهِمْ، وَفِي الإِحْسانِ إِلَيْهِمْ، وَفِي القُرْبِ مِنْهُمْ، رَغْمَ كَثْرَةِ انْشغالاتِهِ، وَرَغْمَ عَظِيمِ ما كانَ قَدْ تَبَوَّأَهُ في آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ مَسْئُولِيَّاتٍ، إِلَّا أَنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كانَ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ، قَرِيبًا مِنْهُمْ، يَقْضِي حَوائِجَهُمْ، يَتَلَّمَسُ حاجَتَهُمْ، وَيَتَعَهَّدُ أَبْناءَهُ وَبَناتِهِ في التَّعْلِيمِ وَالدِّراسَةِ وَالمتابَعَةِ عَلَى حَسْبِ ما يَسَّرَ اللهُ لَهُ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ وَقْتٍ، وَمِنْ مُطالَعَةٍ لأَحْوالِ الأُسْرَةِ، فَكانَ نَمُوذَجًا لِلأَبِ الرَّحِيمِ، وَالمرَبِّى المتابِعِ، وَالنَّاصِحِ المشْفِقِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ ما كانَ مِنْ تَماسُكِ الأُسْرَةِ وَصَلاحِها وَصَلاحِ الأَبْناءِ.
وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ.
لاستكمال القراءة يمكنك تحميل الملفات المرفقة word & pdf