الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آلة وأصحابه أجمعين، أما بعد؛
فأسال الله العظيم، أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يرزقنا البصيرة، فإن أعظم ما يمن الله تعالى به على العبد، بعد الإسلام أن يرزقه البصيرة في الدين، فإن البصيرة في الدين بها يعرف المؤمن الحق من الباطل، ويميز الهدى من الضلال، ويصيب الصواب، ويتوقع الخطأ والخطل والظلال.
الله تعالى أنزل هذه الشريعة المباركة، وجعلها هدايةً للناس، للأولين والآخرين، ممن بعث فيهم النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن رحمته أن هذه الشريعة كانت مصلحةً، لكل نواحي الحياة، فليس جانبٌ من جوانب حياة الناس، إلا وفي الشريعة بيان ما يحتاجون إليه، في ذلك الجانب. سواءً كان ذلك في صلتهم بالله عزَّ وجلَّ، وهو الأصل الذي يتحقق به العبودية، أو كان ذلك فيه صلةٍ، بالخلق وهو فرعٌ عن حسن الصلة بالله عزَّ وجلَّ، ليس ذلك مقصورٍ على جانب من معاملة الناس، فيما يتعلق بنمطٍ، مما يكون بينهم، بل شمل ذلك كل علاقات الناس، في بياعاتهم وفي تبرعاتهم، وفي أنكحتهم، وفي ما يكون بينهم من خصومات، وفيما يتعلق باعتداءات بعضهم على بعض، كل ذلك جاء بيانه، بما لا إشكال فيه، ليس شيءٌ يحتاج الناس فيه إلى البيان، إلا وقد جاء بيانه في كتاب الله، أو في سنة رسوله، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}سورة الأنعام، الآية:38،وهذا يشمل كل شيءٍ يحتاج إليه الناس، ولهذا كان من دواعي التغير في حياة الناس، وحدوث وطروء أشياء، لم يكن لهم بها عهدٍ سابق، أن يبحثوا عما يتصل بها في كلام الله وكلام رسوله، وهذا ما يتصل بعلم النوازل على وجه الإجمال، فإن النوازل في كل نواحي حياة الناس، في اعتقاداتهم أو معاملاتهم أو أنكحتهم، أو ما يكون بينهم من اعتداءات، أو في خصوماتهم أو في ما يتعلق بطب أبدانهم، كل ذلك إذا احتاجوا فيه، إلى معرفة حكمٍ واستيضاح، وبيان ما يتعلق بقول الله، أو قول الرسول، صلى الله عليه وسلم في ذلك، قول الشرعي في ذلك، فإنه سيجد ذلك في كتاب الله، وفي سنة النبي، صلى الله عليه وعلى وسلم، لكن ينبغي أن يُعلم، أن الشريعة فيما يتعلق بالعبادات، والعلم بالله عزَّ وجلَّ، جاءت على بيانٍ تامٍ واضح، ليس فيه اشتباه، ولا التباس في الدقائق والتفاصيل، ولك نموذج في الصلاة، على سبيل المثال، الصلاة في كل سكناتها، وحركاتها وقيامها وقعودها، وابتدائها وانتهائها، جاء بيانه في فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال كما في الصحيح، من حديث مالك بن حوير، (صلوا كما رأيتموني أصلي)، في كل التفاصيل، وفي كل الحركات والسكنات، وفي كل الأقوال، والأذكار، والقراءات، وكذلك في الحج، قال كما في الصحيح من حديث جابر، (خذوا عني مناسككم، لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا)، أما ما يتعلق بالجانب الآخر، مما يحتاج إليه الناس من الفقه، وهو ما يتعلق بنمط حياتهم، معاملاتهم معاشهم، أمور دنياهم، فقد جاءت فيها الشريعة بالقواعد الكلية، وليست من النصوص التفصيلية، لماذا؟ لأن حوادث الناس، وما يطرأ وما يجد في حياتهم، لا يمكن أن تظبط بالتفاصيل، لماذا؟ لأن ما يجد في حياة الناس، ومعاشهم شيءٌ لا نهاية له، في اختلاف البلدان، في اختلاف الأزمان، في اختلاف الأحوال، شيء يختلف اختلافًا بينًا، لذلك كان المرجع في ما يتعلق بالجزء الثاني من الفقه، وهو ما يتعلق بالمعاملات بمفهومها الواسع، الذي يشمل كل ما ليس عبادات، فإنه مضبوطٍ بقواعد، من هذا ما يتعلق بقواعد الطب، والتداوي فإذا نظرنا فيما يتصل بموضوع التداوي، لم نجد تفصيلًا بينًا واضحًا، في ما يتعلق بالأدوية، والذي ما يتعلق بطريقة الاستطباب، لا فيما يتعلق بالطب الروحي، ولا فيما يتعلق بالطب الطبيعي التجريبي، لأن الطب والتداوي نوعان، تداوي روحي وهذا منه الرقى، ومنه الأدعية، ومنه التعويذات، كل هذا يتعلق بالطب الروحي، لأنه علاجٌ يتعلق بزيادة الإيمان، والاستعاذة بالرحمن، والدعاء أن يزيل الله تعالى الأسقام والأمراض، وما يخشاه الإنسان من الآفات، هذا القسم جاء تفصيله مع إجمال، فمثلًا لما قالوا له إن لدينا في حديث عوف بن مالك، صحيح الإمام مسلم، (إن لنا رقىً كنا نرقي بها في الجاهلية، فهل نرقي بها؟ قال اعرضوا عليا رقاكم) فلما عرضوا عليه رقاهم، أي ما كانوا يستعملوه من رقى، وتعاويذ وأدعية لمعالجة أمراض، قال لهم قاعدة، قال لا بأس، ما لم يكن شركًا، ما ندري ما الذي عرضوه على النبي، صلى الله عليه وسلم، لكن لأنه شيء كثير، ويمكن أن يجد للناس فيه ما يختلف، في البلدان وما يختلف في الأزمان، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك قاعدةً فقال؛ لا بأس ما لم يكن شركًا، وفي الحديث الآخر قال؛ صلى الله عليه وسلم، (من استطاع أن ينفع أخاه بشيءٍ فلينفعه ما لم يوقعه ذلك في محرم)، إذًا حتى الطب الروحي، بمعنى استعمال أذكار معينة، لمعالجة أمراض معينة، هذا ليس فيه تضييق، بل هو واسع فما كان مما يستعمله الناس، ويجدون نفعه فليستعملوه، لا حرج في ذلك، لا بأس ما لم يكن شركًا، فلو أن شخص مثلًا استعمل آية في معالجة أمر، ووجد نفعها فهل يقال لا يجوز استعمال هذا إلا بدليل؟ الجواب لا، ما دام أن القرءان شفاء في الجملة، وقد استعمل آيةً من كتاب الله تعالى، في معالجة أمر فإنه لا حرج فيه، ومنه ما كان يفعله الناس، إلى عهد قريب من معالجة بعض الأمراض الجلدية، كالحزات مثلًا بكتابة آيات تنفع في معالجتها، هذا يقال قائل ما الدليل على هذا، الدليل العموم، أن القرآن شفاء، هل في هذه التعويذة شرك؟ الجواب لا، لا بأس ما لم يكن شركًا، وخير ما استشفي به كتاب الله عزَّ وجلَّ، إذًا الاستطباب والتداوي، في الجانب الذي يتصل بالقرآن، وبالسنة وبالتعاويذ، والرقى لا بأس، ما لم يكن شركًا، هذه هي القاعدة العامة، وما نفع فيجوز استعماله، وهذا يؤكد ما ذكرناه قبل قليل، أن ما يتصل بالحوادث في حياة الناس، حتى في الجانب الذي يتصل بالأدعية، لا حرج على الناس فيه، ما دام أنه لا يصادم، ما جاءت به الشريعة، ولا يوقع في محظور، في الجانب الآخر، وهو أوسع جانب التداوي، بالطب والتجريب والطبيعة، هذا بابٌ واسع، ليس فيه إلا منعٌ من أدوية محددة، جاء بها النص، وما عدا ذلك فالأمر فيها واسع، يقول النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في ما رواه الإمام مسلم، في صحيحه من حديث جابر، فيما يتعلق بأنواع الأدوية، وألوان ما يستطب به، قال صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً) فما من داء، ما من مرض يصيب الناس في القديم، والحديث والمستقبل، إلا ولا بد أن يكون له دواء، لا بد أن يكون له شفاء، لكن هذا لا يعني أن يعلم الناس ذلك الدواء، إنما هو موجود، يتوصل إليه بالبحث، وهذا مما يدل على أن دراسة الطب، جاء الإشارة إليها في النص النبوي، في قوله صلى الله عليه وسلم، (إلا أنزل له شفاء) فأنت تبحث عن ما أنزل الله في طب الأبدان، وفي سلامة بني الإنسان، أو حتى في سلامة الحيوان، إذا كان طبًّا يتعلق بالحيوان، وقد قال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه جابر في صحيح الإمام مسلم، (لكل داءٍ دواءٌ) فإذا أصاب دواءٌ الداء، برء بإذن الله عزَّ وجلَّ، وهذا يشير إلى المعنى الذي ذكرت، وهو أن الدواء أمرٌ واسع، مرجعه إلى البحث والتنقيب والتجريب، وليس شيئًا محدودًا محصورًا، على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكر جملة من الأدوية، مما شاع في عصره، وانتشر في زمانه، لكن هذا ليس حصرًا، إنما هو ذكر لأبرز ما عرفه الطب في زمانه، من وسائل العلاج، وفي زمانه في بيئته، بإمكانياتهم المعروفة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين (إن يكن الشفاء في شيء ففي ثلاثة: شرطة محجم ولسعة كي ولعقة عسل) جعل النبي، صلى الله عليه وسلم، الشفاء في أعلى ما يكون في هذه الأمور الثلاثة، هل هذا على مر العصور وتعقب الدهور، هذه هي أكمل ما يكون من وسائل العلاج؟ الصحيح أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أخبر بأشهر وأنفع ما يكون، من وسائل العلاج في زمنه ولا يعني، هذا ألا يحدث من اكتشافات الناس، ووسائل العلاج ما يكون أنفع في المعالجة، وإنما هذه أبرز العلاجات، والأدوية التي كانت في زمانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مثل ما لو قال قائل، الآن طبيب أفضل المسكنات، هي المسكن الفلاني والفلاني، هو يحكي عن ماذا؟ هو يحكي عن ما عرفه الناس في هذا الزمن ولا يعني هذا أن لا يجد في المستقبل ما هو أكثر نفعًا وتكون هذه المذكورات متأخرة، الشاهد أن حتى ما جاء من نص نبوي على بعض الأدوية، ليس ذلك على وجه الحصر، إنما ذلك على وجه الذكر، وأنتم أعلم بأمور دنياكم، فيما يتعلق بأمور الطب، والطب من أمور الدنيا، وليس من أمور التشريع في تحديد أن هذا علاج أو ذاك، هذا ليس من أمور التشريع، إنما هو من أمور الطب، ومن أمور الدنيا، التي المرجع فيها إلى التجربة، وإلى ما عرفه الناس، إذًا ننطلق من هذا الأصل، وهو أصل الأصيل، أن الأصل فيما يتعلق بعلاجات الناس وأدويتهم هو الإباحة، فمن قال في دواءٍ، أو قال في معالجة من المعالجات، أو وسيلة من وسائل التطبيب الحديث إنها محرمة، لا بد أن يقيم دليلًا، لا بد أن يأتي ببينة على التحريم، وإلا فالأصل الإباحة، لكن لما كان من وسائل الطب ما يلتقي، أو يندرج في نصوص نبوية، مانعة كالتداوي مثلًا بالمحرمات، أو كالتداوي مثلًا بما فيه اعتداء على البدن، كالقطع والبتر هذه أمور لابد في الحكم عليها من النظر إلى النصوص، لا لأن الأصل المنع في الطب، والمعالجة والتداوي لا، الأصل في الطب والمعالجة والتداوي الحل والإباحة، لكن هناك أمور تحتاج إلى معرفة حكمها، لكون هذه الأمور قد يوجد فيها ما جاء النص على منعه، مثل تمامًا المعاملات المالية، لمن يتصور المسألة في الطب، الأصل في المعاملات الحل، كل معاملة يستعملها الناس الأصل فيها الحل، لكن قد يوجد في المعاملة ما يوجب منعها، كأن يكون فيها ربا، كأن يكون فيها ميسر، كأن يكون فيها غرر، وما أشبه ذلك من أسباب التحريم، كذلك الطب الأصل فيه الإباحة، إلا أن يوجد ما يمنع، كأن يكون الدواء مثلًا محتويًا على محرم، أو الدواء من محرم، أو المداواة تستلزم اعتداءًا على البدن، بنوع من الاعتداء ينظر هل يحل أو لا يحل، أو يكون هذا الدواء مؤثرًا على عبادة من العبادات، كالصلاة مثلًا والصوم ومحظورات الإحرام في الحج، هل يعد هذا محظورًا أم ليس محظورًا، هنا نحتاج إلى معرفة لا حكم التداوي، إنما معرفة أثر هذه العلاجات على العبادات، وهذا يتبين به أننا سنتناول من خلال هذا اللقاء ثلاثة قضايا: القضية الأولى حكم التداوي، القضية الثانية حكم التداوي بالمحرمات، أو ما فيه محرم، القضية الثالثة أثر التداوي على العبادات، من صلاة وصيام وزكاة وحج، هذه ثلاثة محاور سنتناولها بالإلماح، لأن الوقت لا يتسع لتناول هذه القضايا بالتفصيل، فسنعرض إليها بإذن الله تعالى بشيءٍ من التأصيل لأن التفصيل يضيق عنه الوقت وبالتالي سنذكر جملًا مهمة في كل محور، من هذه المحاور الثلاثة، حتى نكون في اجتماع ذهن واحد، نحن الآن فرغنا من المقدمة التي تتعلق بأصل التداوي، الأصل في الطب هل هو الإباحة أو التحريم، والذي انتهينا إليه أن الأصل في الطب، بكل وسائله سواءً كان ذلك في إمكانياته وأجهزته، ووسائل المعالجة وعملياته وأدويته، الأصل في ذلك كله الحل، حتى يقوم الدليل على التحريم والمنع، طيب، هذا ما انتهينا إليه في المقدمة،
النقطة التي سنتناولها الآن حكم التداوي،
أولًا: ما هو التداوي: التداوي هو بذل الوسع في الخروج بالإنسان، من المرض باستعمال الأدوية والمعالجات، والرقى والعمليات، هذا معنى التداوي بذل الوسع في الخروج بالمريض، من حالة المرض إلى حال الصحة، بالوسائل الممكنة من عقار وأدوية، من رقية من علاج طبيعي، من عمليات كل هذه نماذج من الوسائل، نحن نبحث عن حكم التداوي، ما حكم التداوي بهذه الأمور في الجملة، طبعًا ما يتعلق بالرقى؛ ذكرنا أن هذا نوع من أنواع الطب، ويندرج تحت أحكام التداوي وذكرنا أنه الأصل فيه الإباحة، ما لم يكون هناك شرك، الآن ما حكم؟ هل يجب؟ هل يباح؟ هل يحرم؟ هل يستحب؟ هل يكره؟ إذا قلنا ما الحكم؟ فنحن نتوقع واحدة من هذه الأمور الخمسة، التداوي من حيث الأصل فهو من المباحات، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم أن الأصل في التداوي الإباحة بكل وسائل التداوي، كما تقدم الإشارة إليه قبل قليل، لكن الآن نبحث نحن مسألة زائدة عن الأصل، وهو ما ذكره العلماء في حكم التداوي، فمنهم من قال أن التداوي مباح وهذا الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم، ومنهم من قال أن التداوي واجب، وهذا قولٌ آخر من أقوال أهل العلم، ومنهم من قال أن التداوي مستحب، وهذا القول الثالث، ومنهم من قال أن التداوي مكروه، يستحب تركه ولما يقول التداوي التداوي ليس من مرضٍ معين، من كل الآفات التي تصيب البدن، هكذا عد بعض أهل العلم، الأقوال في المسألة الذي يظهر والله أعلم طبعًا، من خلال هذا العرض يتبين لنا أنه الجميع متفق على أنه لا إثم في التداوي، لا يأثم الإنسان بالتداوي، قد يقول قائل إنه مكروه، لكن الكراهة لا إثم فيها، وقد يقول قائل إنه مباح، وهذا استواء الطرفين، وقد يقول قائل الوجوب، وقد يقول قائل الاستحباب، هذه مسائل يعني تجتمع كل هذه الأقوال في أن من تعاطى الدواء لا إثم عليه، هذه قضية واضحة يا إخوان، من تعاطى الدواء لا إثم عليه، في قول عامة أهل العلم، إلا أن التحقيق في قضية الدواء، طبعًا كل قول من هذه الأقوال اعتمد على أدلة، واستند إلى حجج تقوي ما ذهب إليه، فاللذين قالوا بالإباحة على سبيل المثال، استدلوا بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الصحيح من حديث أبي هريرة (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً) وفي بعض الروايات (علمه من علمه، وجهله من جهله) واستدلوا أيضا بحديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال؛ (لكل داءٍ دواء، فإذا صاب دواءٌ داءً، برء بإذن الله عز وجل) واستدلوا أيضًا بما جاء في حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر جملة من الأدوية، وسماها وتسميته لهذه الأدوية، يدل على أن التداوي مباح، من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أمثل ما تداويتم به، الحجامة، والقُسط البحري) وهما نوعان من المعالجة، التي كانت سائدة في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهما نوعان الحجامة، وهي تتعلق بتدخل في البدن، وهي أصل الجراحة، والقُسط البحري؛ هو نوع من العقار، وهو إما بالشم، وإما بالغذاء، فهذان أنواع الدواء، التي ذكرهما النبي، صلى الله عليه وسلم، وعنهما ينبثق العمليات، وهي متفرعة عن الحجامة، والأدوية العقارية الدواء المشروب، أو المأكول، أو المدهون على البدن، أو المشموم، كل ذلك يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم، والقُسط البحري، استدلوا أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالتداوي، فقالوا إن أمره بالتداوي، هو إذنٌ فيه، هذا أقل ما يفيده الأمر، فقد جاء كما في حديث أسامة بن شَريك، أتى أعرابي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألوه يا رسول الله: هل علينا جناح أن نتداوى؟ فقال النبي؛ صلى الله عليه وسلم، (تداووا عباد الله. فإن الله سبحانه لم يضع داءً إلا وضع معه شفاءً إلا الهرم)، وهذا معنى الأحاديث السابقة، وهنا قال تداووا، لكن الأمر جاء بعد السؤال، والأمر بعد السؤال لا يفيد الوجوب، إنما يفيد الإذن، هذا هو الأصل فيه الإباحة، إلا أن يدل دليل يخرجه عن هذا الأصل، استدلوا أيضا بأدلة أخرى، ومنها حديث أبي الدرداء أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتداووا ولا تتداووا بمحرم) هذه جملة مما جاء به النص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في باب الدواء وهذا كله يتعلق بالقول الأول، القائل بالإباحة.
أما القائلون بالاستحباب، الذين قالوا بأن التداوي مستحب، فاستدلوا بجملة من الأدلة، منها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر بالتداوي في قوله في حديث أبي هريرة السابق، (تتداووا ولا تتداووا بمحرم) ومنها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، (احتجم) والحجامة نوعٌ من التداوي، ومنها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر بالتداوي الروحي، بالتعاويذ والرقى، وما أشبه ذلك، كل هذا قالوا يدل على أن التداوي مستحب.
أما القائلون بالوجوب، فاستدلوا بالأحاديث التي فيها الأمر بالتداوي، وقالوا إن الأصل في الأمر الوجوب.
أما القائلون بالكراهة، وأن الأفضل المستحب ترك الدواء، استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، جاءته امرأةٌ كانت تصرع، فطلبت منه أن يدعوا لها، صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن شئتي صبرتي، ولكي الجنة، فقالت أصبر إذًا يا رسول الله، ولكنى أتكشف)، أي إذا أصابها الصرع، (فادعوا الله ألا أتكشف، فدعا لها). والحديث في الصحيحين. قالوا هذا دليل على أن ترك التداوي أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، خيرها بين الصبر على مرضها ولها الجنة، وبين أن يدعوا لها، ويفوتها هذا الفضل، بمعنى أن لا يكون هذا سببًا لدخول الجنة، لكن لا يعني أنها تحرم من الجنة، لكن إن صبرت، كان صبرها على المرض، سبيلًا إلى حصول الجنة، وقد جاء في جملة، من حال السلف، رضي الله عنهم، من الصحابة ترك التداوي، ولذلك قال شيخ الإسلام، رحمه الله في ترك التداوي، قال هذه حال خلقٍ كثيرٍ، لا يحصون من السلف الصالح، أنهم كانوا يتركون الدواء رضًا بما قدر الله تعالى لهم وما قدر عليهم من الأمراض، والتحقيق في حكم الدواء، أن الدواء يختلف حكمه، فقد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون واجبًا، نحن اتفقنا على أن الأصل في التداوي؟ الإباحة، ثم بعد ذلك الدواء بالنسبة للأحوال، أو الأشخاص أو العقار، تجري فيه الأحكام الخمسة، قد يكون مباحًا، وقد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون واجبًا، ومثلوا للواجب بالدواء، الذي إذا لم يأخذه الإنسان هلك. إذا كان تركه للتداوي يفضي إلى هلاكه، قالوا هذا يجب عليه أن يتداوى، لأن تركه للتداوي، هو كمن ترك الأكل من الميتة، مع اضطراره لها، اتفق جمهور العلماء على أن من ترك أكل الميتة، في حال الاضطرار، وهو يعلم أنه سيهلك وهلك، أنه في حكم من قتل نفسه، جمهور العلماء على هذا لأنه عدل عن ما أذن الله له، فإن الله تعالى قد حرم تلك المحرمات، إلا حال الاضطرار؛ {فَمَنْاضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}سورة البقرة، الآية:173،فقالوا التداوي إذا كان تركه يفضي إلى هلاك الإنسان، فإنه عند ذلك إذا ترك التداوي يكون آثمًا، ويجب عليه أن يتداوى، وبهذا يتبين لنا أن الأصل في الدواء الحل، أما حكمه بالنسبة للأمراض، وبالنسبة للأشخاص، وبالنسبة للعقار، أي الدواء نوع الدواء هذا يختلف، وتجري فيه الأحكام الخمسة، قد يكون الإنسان مأجورًا على التداوي، إذا نوى بذلك التَّقَوي على طاعة الله، فالذي مثلًا ... تصيبه وعكه وتقعده عن صلاة الجماعة، قال أنا بتداوى حتى أتمكن من الصلاة، في الجماعة، هذا يكون مأجورً على نيته، ويرتفع حكم التداوي من الإباحة إلى الاستحباب، إذا صاحبته هذه النية، لما يكون التداوي بمحرم، هنا يكون التداوي محرمًا، لأنه سيأتينا في حكم التداوي بمحرم، قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ (إن الله لم يجعل شفاءكم، فيما حرم عليكم) وهلم جرا فيما يتعلق بالمسائل والصور، قد يكون التداوي مباحًا، قد يكون محرمًا، قد يكون واجبًا، قد يكون مستحبًا، قد يكون مكروهًا، لكن الأصل الذي ننطلق منه في حكم التداوي، هو أن التداوي في الأصل مباحٌ، هذا ما يسر الله في هذا المحور، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد بسط، وبيان، لكن هذا تصور إجمالي، وخلاصته أن الأصل في التداوي الإباحة، وأما حكم التداوي بالنسبة للأشخاص، وبالنسبة للأحوال، وبالنسبة للعقار، فهذا يختلف وتجري فيه الأحكام الخمسة، التي أشرنا إليها قبل قليل،
المحور الثاني في مجلسنا هذا: ما يتعلق بالتداوي بالوسائل المحرمة، ما حكم التداوي بالوسائل المحرمة.
للعلماء رحمهم الله في التداوي بالمحرم قولان: بعد أن ذكرنا أن الأصل في التداوي الحل، لنعلم أن التداوي بالمحرم، إذا كان يجد الإنسان بديلًا له من المباح، فالإجماع منعقد على عدم إباحة تعاطي المحرم في العلاج، سواء إن كان التحريم لكونه محرم الأكل، أو كان التحريم لكونه نجسًا، أو لغير ذلك من أسباب التحريم، إذًا عندنا الآن الاتفاق منعقد، على أنه إذا كان الإنسان مستغنيًا بالدواء المباح، العقار المباح المعالجة المباحة، فلا يجوز له أن يصير إلى الدواء المحرم، لكن إذا اضطر إلى المحرم، سواء إن كان التحريم فيما يتعلق بنوع العقار، أو بطريقته فهنا العلماء، رحمهم الله لهم في هذه المسألة آراء.
القول الأول في هذه المسألة: جواز التداوي بالمحرم عند الضرورة
جواز التداوي بالمحرم عند الضرورة، وحتى لا يلتبس الأمر علينا نحتاج أن نقف عند ضابط الضرورة، ما هي الضرورة التي تبيح المحرم والتي يبحث العلماء حكم التداوي بالمحرم في هذه المسألة، التداوي بالمحرم عند الضرورة المراد بالضرورة هنا ما يلحق الإنسان به هلاكٌ أو تلف سواء أن كان الهلاك كلي بأن يموت أو كان الهلاك جزئي كأن يتلف عضو من أعضائه أو جزء من أجزاء بدنه سواء إن كان من الأجزاء الظاهرة أو كان من الأجزاء الباطنة، هذه هي الضرورة سواء أن يلحق الإنسان ضررٌ بالهلاك أو التلف إذا لم يتعاطى العلاج ولم يوجد علاجٌ مباح، هذا لا يعني أنه ما له علاج إلا المحرم، ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواءً من المباح، لكن إذا عجز الناس ما وصلوا إلى هذا ووجد دواءٌ محرم هل يجوز أن يتعاطى المحرم في هذا الحال؟
القول الأول: الجواز وهو مذهب جماعة من أهل العلم، نسب إلى الشافعية وهو قول الظاهرية وقول بعض المالكية، وقول طائفة من الحنفية، وبه قال جماعة من التابعين قالوا يجوز التداوي بجميع المحرمات والنجاسات، بشرط أن يضطر إليه الإنسان، وأن يخبره طبيبٌ مسلم، أن فيها شفاء مرضه، إذًا قالوا، اشترطوا كل ذلك شروطًا، جواز التداوي بالمحرم إذا لم يوجد مباح، وإذا أخبره طبيبٌ مسلمٌ ثقة بأن هذا الدواء، أو هذا التداوي فيه شفاء مرضه، وهؤلاء منهم من قال الجواز للجميع، ومنهم من أخرج واستثنى جملة من المحرمات، فالشافعية قالوا لا يجوز التداوي بالمسكر، واستثنى الظاهرية لحوم بني أدم، قال لا يجوز التداوي بلحوم بني أدم، وما عداه من المحرمات يجوز عند الاضطرار، سنأتي على أدلة هؤلاء باختصار بعد قليل،
أما المذهب الثاني، فالذين يقولون لا يجوز التداوي بالمحرمات، والنجاسات ولو تعينت طريقًا للعلاج، يقولوا لا يجوز مطلقًا التداوي بمحرم مطلقًا، ولهم حجج وأدلة، سيأتي ذكرها بعد قليل، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، هو قول جمهور الفقهاء، ومذهب الحنابلة وقول عند المالكية، وهو مذهب المالكية، ومذهب الحنفية، وأقوال بعض الشافعية، واختارهم جماعة من المحققين، وهو قول جماعة من التابعين، وتابعي التابعين، إذًا أكثر أهل العلم على أنه لا يجوز التداوي بمحرم مطلقًا، ومعنى مطلقًا يعني؛ حتى لو قال ما لك علاج إلا هذا العلاج المحرم، رأينا الآن مدرستين فقهيتين في ما يتعلق بحكم التداوي بالمحرم، نحتاج إلى أن ننتقل إلى الحجج التي استند إليها هؤلاء وهؤلاء، حتى نستطيع أن نصل إلى ما هو الراجح من هذين القولين؟ لا تستطيع أن تصل إلى راجح في مسألة فقهية إلا بخطوتين،
الخطوة الأولى: معرفة الدليل الذي يقيم القول الذي ترجحه
الخطو الثانية: الإجابة على أدلة المخالفين، يعني عندما تقول المسألة الفلانية الراجح فيها كذا، أنت لا تكون صائب في ترجيحك؛ إلا بعد خطوتين، أن تقيم الحجة على صحة قولك، أن تقيم الدليل على صحة قولك، الخطوة الثانية: أن تجيب على أدلة المخالفين، الذين قالوا بخلاف قولك، فإذا استقام لك هذان الأمران، أنت ذلك تكون قد وصلت إلى الراجح، سواء في هذه المسألة، أو في كل مسائل العلم، أو بل في كل مسائل الخلاف، سواء أن كان خلافًا، في أحكام شرعية، أو خلافًا في أحكام دنيوية، أو في أحكام اجتماعية سياسية، لا يمكن أن تقول الراجح أو الصواب أو الصحيح في هذه المسألة هو كذا، حتى تقيم أو حتى تعبر هاتين الخطوتين، أن تقيم دليل على صحة رأيك وقولك، وأن تجيب على أدلة من يخالفك، أو حجة من يخالفك، ولهذا الآن عندنا في المسألة رأيان.
الرأي الأول: والذي يقول بأن التداوي بمحرم يجوز مطلقًا، أو يجوز مع استثناءات.
والقول الثاني: الذي يقول أن التداوي بمحرم ممنوعٌ مطلقًا، ولو تعين ولو لم يكن هناك علاج، إلا هذا فلا يجوز لك أن تداوى بمحرم.
الأول قول الجماعة من أهل العلم، من التابعين ومن بعدهم، والقول الثاني هو قول جمهور الفقهاء الأكثر من أهل العلم، ولما نقول الجمهور المراد الأكثر من أهل العلم، من المذاهب الفقهية المعروفة، ومن قبلهم من التابعين ومن بعدهم، من أهل العلم، الذين قالوا بالمنع استدلوا بقول الله تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍفَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }سورة النحل، الآية:115، استدلوا بعموم الأدلة المحرمة، المانعة للمحرمات، فلو أن أحدًا قال، لو قال له الطبيب دواؤك في الدم، تشرب الدم، أو أن يخلط علاجك بدم، مثل يسأل عن هذا في واقع الطب الشعبي، يسألون مثلًا عن حكم خلط أو شرب الدم المسفوح لبعض الحيوانات، يذكر لهم على وجه العلاج، هل يجوز أو لا يجوز، الله تعالى قد قال {حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}، والمقصود بالدم هنا الدم المسفوح، فاستدلوا بعموم الأدلة على تحريم المحرمات وأنها تشمل كل أوجه التعاطي، سواءً كان التعاطي تشهيًا، أو التعاطي تداويًا، فالعموم يشمل هذه وتلك، فأدلة التحريم عامة، هذا الاستدلال من القرءان، أما الاستدلال من السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ (سأله سويد بن طارق الجعفي، سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن الخمر فنهاه عنها أو كره له أن يصنعها فقال الرجل إنما أصنعها يا رسول الله للدواء، يعني ما أصنعها لأن تشرب تفكهًا، أو رغبةً في شربها، إنما هي للدواء يخلطها بشيء، يستعملها في معالجة المرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنه ليس بدواء ولكنه داء)، فهذا نص على أنه لا يجوز استعمال المسكرات في الأدوية، مادام لها أثر الإسكار، حتى يخرج ما يكون مخلوطًا، بنسبة ضئيلة لا تصل إلى حد الإسكار، وبهذا استدل المانعون، واستدلوا أيضًا بحديث أم سلمة، رضي الله عنها، وهو في سنن أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل على أم سلمة، وهي قد انتبذت في كوز «كأس كوب»، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ما هذان؟ دخل النبي وهي قد وضعت هذا في كأس، ويغلي أي قرب على التخمر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ما هذا؟ قالت إن ابنتي اشتكت، فانتبذت لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام) وقال في رواية أخرى (إن الله لم يجعل شفائكم في ما حرم عليكم) هذه الأدلة التي استدل بها القائلون،بماذا؟ بالتحريم مطلقًا، واستدلوا بعد هذا بأدلة عقلية، وقالوا لا يجوز انتهاك المحرم لأجل الضرورة، في كل أمر إلا بقيدين، وهما مفقودان في مسألة التداوي، انتبه لهذا المعنى، متى يجوز ارتكاب المحرم في الضرورة، ليس في الطب في كل شيء، متى يجوز ارتكاب المحرم للضرورة؟ لا يجوز ارتكاب المحرم للضرورة، إلا إذا توافر شرطان، ما هما الشرطان؟ الشرط الأول: أن يتعين المحرم لدفع الضرورة، ما في طريق تدفع به الضرورة، إلا ارتكاب هذا المحرم، تعين، ما في مخرج ولا سبيل لدفع الضرورة، إلا ارتكاب المحرم، هذا القيد الأول، وسأضرب له مثال يتضح بعد قليل، الشرط الثاني: هو أن يتيقن أن ضرورته ستندفع إذا ارتكب المحرم، مثال ذلك، شخص في الصحراء وجاع وأشرف على الهلاك ووجد ميتةً، الآن هل في سبيل يدفع ضرورته إلى الطعام غير هذه الميتة، ما في سبيل؛ إذًا تعين هذا المحرم لدفع الضرورة، توفر الشرط الأول أم لا؟ توفر، إذا أكل من هذه الميتة هل سيحصل له الشبع وتندفع ضرورته ويحفظ قوى بدنه؟ الجواب نعم، فتحقق الشرط الثاني عند ذلك جاز له أكل الميتة في هذه الصورة لتوافر الشرطين، أما إذا لم يتوفر هذان الشرطان أو أحدهما فإنه لا يجوز ارتكاب المحرم، لماذا؟ دفع الضرورة، واضرب لذلك مثلًا، عطش وعنده خمر وأشرف على الهلاك ولم يجد إلا خمرًا هل يجوز له أن يشرب؟ عندنا الآن شرطان استحضرهما، في كل محرم تريد أن تنتهكه أو ترتكبه لأجل الضرورة، اسأل نفسك عن هذين الشرطين، السؤال الأول، هل هناك سبيل لدفع العطش غير هذا الخمر؟ ما عندك إلا خمر، فما في سبيل، إذًا ليس هناك سبيل لدفع الضرورة إلا ارتكاب هذه المحرم، الشرط الثاني: وهو هل إذا شربت الخمر سيذهب العطش؟ هنا العلماء يقولون الخمر لا يذهب العطش لا يطفأ العطش بل يزيده، ولهذا قالوا الشرط الثاني غير متحقق، وهو أن يتيقن اندفاع الضرورة، الآن هو لا يتيقن من اندفاع الضرورة، الضرورة لن تندفع بشرب الخمر، بل ستزيد الضرورة، فعند ذلك يقولون هنا لا يجوز شرب الخمر لدفع ضرورة العطش، لانتفاء الشرط الثاني وهو أن الخمر لا يطفئ العطش، أنا صورت لكم الشروط لارتكاب الضرورة، هم يقولون الآن الذين يقولون لا يجوز استعمال المحرم في التداوي ولو في حال الاضطرار لأنه لا يتحقق هذان الشرطان، أما الشرط الأول، فهو تعين هذا المحرم لاندفاع الضرورة، يقول لا ما يتعين هذا المحرم، غير صحيح، لا يتعين اندفاع الضرورة بالمحرم، لأنه يمكن أن يشفى بالدعاء، يدعو الله عز وجل أن الله يشفيه وسيشفيه الله تعالى، أو أن ييسر له سببًا مباحًا غير هذا المحرم، واستشهدوا لذلك بأن أيوب عليه السلام طال أمد مرضه ولم يكشف مرضه كل دواء إنما كشف مرضه لجأه إلى الله حيث قال {رب أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ }سورة الأنبياء، الآية: 83،84 ، إذًا لا يتعين هذا الدواء لدفع الضرورة، واضح، لأن هناك أبواب أخرى ومنها الدعاء، قالوا الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أنزل الله من داءٍ إلا وانزل له شفاءً) فاطلب شفائك من حلال ولا تطلبه من حرام، إذًا قالوا هنا لا يتعين ارتكاب المحرم لدفع الضرورة، الشرط الثاني: ما هو الشرط الثاني: أن يتحقق اندفاع الضرورة بارتكاب المحرم، قالوا هنا لا يتحقق لأنه كم من إنسان تداوى ولم يشفى كم من إنسان أخذ الدواء ولم يطب فالدواء أمر أغلب ظن ما فيه يقين ما أحد يقول مائة بالمائة، ولو أحدق الأطباء في أن إذا أخذت هذا الدواء في غالب الأحوال المرضية لكن طبعًا هناك استثناءات، لكن في غالب الأحوال المرضية ليس هناك يقين، في أن أخذ دواء معين سيدفع المرض، إذًا عرفنا الآن خلاصة الدليل العقلي، أنه لم تتحقق شروط الضرورة التي تبيح المحرم، هذا هو الدليل، الثاني ذكره القيم رحمه الله قال إن الأصل في الأدوية، هي تطيب البدن والمحرمات خبائث والخبائث لا تكسب الأبدان طيبًا ولا طيبةً، وهذا الدليل العقلي جيد.
نختصر وننتقل إلى أدلة القائلين بالإباحة:
إذًا تلخص لنا من أدلة المانعين جملة أولها من الكتاب، وهو النص على تحريم المحرمات بدون استثناء في حال التداوي وفي غير حال التداوي، الثاني من الاستدلالات، النصوص التي فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخمر، وإخبار بأن الله تعالى لم يجعل شفاء الناس في ما حرم إليهم، الثالث، الأدلة العقلية.
أما ما يتعلق بقول القائلين بالإباحة فقد استدلوا بأن الآيات إنما حرم المحرمات في حال السعة أما في حال الاضطرار فإن الله أذن فيها ولذلك يقول الله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ }سورة المائدة، الآية:3 إلى آخر ما ذكر، ثم قال جلَّ في علاه {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}سورة الأنعام، الآية:154، ومثله في آية في سورة البقرة { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم }سورة البقرة، الآية:173، قالوا والتداوي من أوجه الضرورة فيدخل في قول تعالى { فَمَنْ اضْطُرَّ}سورة البقرة، الآية:173، فإذا كان الدواء بالمحرم يحقق الشفاء، ولا دواء غيره فإنه يكون في هذه الحال جائزًا لأنه من الضرورة، أما السنة فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرهطٍ من عُقل وعرينه أن يشربوا من أبوال الإبل، قالوا وأبوال الإبل نجسه، طبعًا هذا قول عند بعض أهل العلم أن أبوال الإبل نجسه، وآخرون قالوا بأن أبوال الإبل وما يؤكل لحمه طاهر، وبالتالي لا دليل في الحديث، الذين يقولون بطهارة أبوال الإبل لا دليل في الحديث عندهم، أما الذين يقولون بنجاستها فإنهم يقولون لما أذن لهم بالاستشفاء والاستطباب بأبوال الإبل وهي نجسه دل ذلك على جواز التداوي بالمحرم، أيضًا استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الرحمن بن عوف والزبير بأن يلبس الحرير من حكةٍ أصابتهما ولبس الحرير بالنسبة للرجال محرم، فلما أذن به النبي صلى الله عليه وسلم في التداوي من الحكة دل ذلك على جواز التداوي بالمحرم، وذكروا في الأدلة العقلية، قالوا إن الضرورة تبيح المحرم لأنه تعين ارتكاب المحرم لأجل دفع الضرورة، تحقق الشرطان، قالوا أما الشرط الأول: فالآن تعين هذا المحرم لدفع الضرورة، كنتم تقولون أن الدعاء يرفع، نعم، حتى من لا يلجأ إلا لميتة نقول له لا تأكل وادعوا الله أن يسوق لك بهيمة أو يسوق لك طعام ممكن، فكون الدعاء وسيلة، الدعاء باب آخر، علاج روحي، غير العلاج المأذون فيه فالذي لا يجد إلا الميتة لا يقال له ادعوا الله أن الله يسوقك غيره إنما يقول {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}سورة البقرة، الآية:173، بإذن الله عزَّ وجلَّ، مع أن الدعاء يمكن أن يكون سببًا لإدراك المطلوب، لكن الله أذن له لما وجد سببٌ حسيٌ تندفع به الضرورة، فمثله الدواء إذا اضطر إلى الدواء المحرم، فإنه يكون مندرجًا تحت هذا الأمر، أنه تعين دفع الضرورة بهذا المحرم، أما ما يتعلق بالشرط الثاني، قلتم تحقق اندفاع والصحيح أن التحقق يتعذر في كثير من الأحيان والشريعة بناؤها على اليقين في ما يمكن فيه اليقين وإعمال غلبة الظن في ما لا يمكن فيه إلا غلبة الظن فإذا غلب على ظن الطبيب أن هذا المحرم يحصل به الشفاء وليس هناك وسيلة إلا هذا المحرم فإنه عند ذلك لا يمنع من استعماله، وعلى هذا فهذه القاعدة منطبقة على العلاج في هذه الصورة على العلاج المحرم إذا لم يوجد إلا المحرم للمعالجة، هذا ما يتصل باستدلالهم العقلي، وذكروا جملة من الأدلة ومقولات وتفصيل في هذه القضية، والذي يظهر والله أعلم في مسألة التداوي بالمحرم أنه يجوز إذا دعت إلى ذلك ضرورة في ما عدا المسكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا ولا يمكن أن تكون شفاءً على أن القائلين بالجواز حتي في المثل قالوا إن الجواز في ذلك المرض، ولا يحصل بها الشفاء، وقد تستعمل في شفاءٍ آخر وعلاج آخر، فالذي يظهر والله أعلم أنه إذا تعين المحرم وغلب على الظن اندفاع الضرورة به فلا بأس باستعماله إلا أن يكون مسكرا، فقد جاء به النص ولا نتجاوز ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة محل تأمل أدلة القائلين بالمنع أدلة قوية لكن عندما نقول الراجح لا يعني أننا جزمنا بذلك مائة بالمائة، لا يكفي غلبة الظن بنسبة ستين بالمائة بأنه هذا الأصح هذا الذي تدين الله به، تأخذ بأن النسبة إلى الجواز أقرب، فلك أن تأخذ به بناءً على الميل والترجيح والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
هذا ما يتعلق بهذين المحورين، وباقي محور أثر التداوي على العبادات، على الصلاة والصوم والزكاة، وهذه تستحق أن تكون في لقاءٍ مستقل، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.