قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" فإن قيل : إن لم يكن مأمورا به فلا بد أن يباح الامتثال به والجمع بين النهي والإباحة جمع بين النقيضين.
قيل : ولا يجب أن يباح الامتثال به بل يكفي أن لا ينهى عن الامتثال به فما به يؤدي الواجب لا يفتقر إلى إيجاب ولا إلى إباحة بل يكفي أن لا يكون منهيا عن الامتثال به فإذا نهاه عن الامتثال به امتنع أن يكون المأمور به داخلا فيه من غير معصية .
فهنا أربعة أقسام : أن يكون ما به يمتثل واجبا كإيجاب صيام شهر رمضان بالإمساك فيه عن الواجب .
وأن يكون مباحا كخصال الكفارة ؛ فإنه قد أبيح له نوع كل منها وكما لو قال : أطعم زيدا أو عمرا .
وأن لا يكون منهيا عنه كالصيام المطلق والعتق المطلق فالمعين ليس منهيا عنه ولا مباحا بخطاب بعينه إذ لا يحتاج إلى ذلك .
والرابع أن يكون منهيا عنه كالنهي عن الأضاحي المعيبة وإعتاق الكافر .
فإذا صلى في مكان مباح كان ممتثلا لإتيانه بالواجب بمعين ليس منهيا عنه وإذا صلى في المغصوب فقد يقال : إنما نهي عن جنس الكون فيه لا عن خصوص الصلاة فيه فقد أدى الواجب بما لم ينه عن الامتثال به لكن نهي عن جنس فعله فبه اجتمع في الفعل المعين ما أمر به من الصلاة المطلقة وما نهي عنه من الكون المطلق فهو مطيع عاص .
ولا نقول : إن الفعل المعين مأمور به منهي عنه لكن اجتمع فيه المأمور به والمنهي عنه كما لو صلى ملابسا لمعصية من حمل مغصوب .
وقد يقال : بل هو منهي عن الامتثال به كما هو منهي عن الامتثال بالصلاة في المكان النجس والثوب النجس ؛ لأن المكان شرط في الصلاة والنهي عن الجنس نهي عن أنواعه فيكون منهيا عن بعض هذه الصلاة بخلاف المنهي عنه إذا كان منفصلا عن أبعاضها كالثوب المحمول فالحمل ليس من الصلاة .
فهذا محل نظر الفقهاء وهو محل للاجتهاد . لا أن عين هذه الأكوان هي مأمور بها ومنهي عنها فإن هذا باطل قطعا بل عينها وإن كانت منهيا عنها فهي مشتملة على المأمور به وليس ما اشتمل على المأمور به المطلق يكون مأمورا به . ثم يقال : ولو نهي عن الامتثال على وجه معين مثل أن يقال :
صل ولا تصل في هذه البقعة وخط هذا الثوب ولا تخطه في هذا البيت فإذا صلى فيه وخاط فيه فلا ريب أنه لم يأت بالمأمور به كما أمر لكن هل يقال : أتى ببعض المأمور به أو بأصله دون وصفه ؟ وهو مطلق الصلاة والخياطة دون وصفه أو مع منهي عنه بحيث يثاب على ذلك الفعل وإن لم يسقط الواجب أو عوقب على المعصية ؟ قد تقدم القول في ذلك وبينت أن الأمر كذلك وهي تشبه مسألة صوم يوم العيد ونحوه مما يقول أبو حنيفة فيه بعدم الفساد . وأن الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان فالإجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر وهو السلامة من ذم الرب أو عقابه .
والثواب الجزاء على الطاعة .
وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال بخلاف الإجزاء ؛ فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به لكن هما مجتمعان في الشرع ؛ إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب والعاصي معاقب .
وقد يفترقان فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب كما قيل : « رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر » فإن قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثما يقابل ثواب الصوم وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية".
" مجموع الفتاوى" (19/299- 303).