يسأل عن الجن والشياطين؛ هل يعلمون ما يدور في نفس الإنسان؟
الجنُّ له قدرةٌ، ولكنها لا تتجاوز إلى معرفة الخفايا والأسرار، لكن قد يطَّلعون على أمور لا يطَّلع عليها بنو آدم، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} سورة الأعراف: الآية رقم (27). فنحن لا نراهم وهم يروننا، وعندهم من القدرة والقوة؛ {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} سورة النمل: الآية رقم (39). وهذه قوة خارقة؛ ينقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام، ليس أمرًا يسيرًا وسهلًا، لكن تلك قوةٌ مكَّنهم الله تعالى منها، فهذه القوة وهذه القدرة لا تثبت أنهم يعلمون الغيب، بل هم كما قال الله تعالى فيما قصَّهُ في سورة الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} سورة الجن: الآية رقم (9). فهم يسترقون؛ يعني: قدرتهم في استكشاف الغيب عن طريق الاستراق، وليس أنه شيء يستطيعونه من قبل أنفسهم، ولذلك الغيب المستقبلي لا يعلمونه، هم كسائر الناس، الغيب المستقبلي أو كسائر الخلق، لا يعلمه إلا الله، أما ما يتعلق بالغيب النسبي، فهم كما لو كان الإنسان يعني إدراك الإنسان بالمحيط به.
مثلًا، عندما تكون أنت قوي البصر ستشاهد الألوان، وتميز بين الموجودات أكثر من الذي يكون بصرُه محدودًا، فهم عندهم من القوة والقدرة لإدراك الأمور أكبر من بني آدم، فيعرفون.. لا أنهم يعرفون الغيب، لكن هو مثل الآن الأعمى، أنا جالس وبجواري شخص أعمى لا يبصر، أنا أنظر وهو ينظر، أنا سأرى وهو لن يرى.
هل هذا لأني أنا أعلم بالغيب؟ أو أنا عندي إمكانية لكشف الحُجُب؟! لا، أنا عندي آلة أستطيع من خلالها أن أدرك ما لا يستطيع هو، هو فَقَد الآلة وهي النظر، وبالتالي الآن لا أعتبر أنا عندي قوة خارقة، أو شيء خارج عن المعتاد، لا هذه قدرات يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده.
فالله تعالى مكَّن الجن من قدرة الإدراك، يعرفون ما يحدِّث الإنسان به نفسه، ولذلك تذهب إلى بعض الذين عندهم أعوانٌ من الجن فيخبرك مثلًا أنت والله عندك مشكلة مع زوجتك، وعندك المشكلة الفلانية مع ..، واسم أمك كذا، وبالتالي الذي يُخبَر بهذه الأشياء سينبهر.
ويقول: الله! هذا يعرف كل شيء! فيستدل بمعرفته على الوقائع الحالية والماضية، إنه هذا سيكتشف المستقبل، ويعرف ما سيكون في المستقبل، المستقبل غير الواقع، الغيب النسبي هذا الآن أنا وأنت ندري أننا عندنا برنامج الليلة، ونعرف الموعد وحاضرين، عندنا خبر ونعرف أن البرنامج بُثَّ بناءً على أننا الآن نؤدي هذا البرنامج، هذا غيبٌ، هذا بالنسبة لنا علم شهادة.
لكن بالنسبة لزميلٍ لك مثلًا في العمل أو زميلٍ لي في العمل ما يدري عن هذا، هذا بالنسبة له غيب، لا يعلم إنه عندنا الليلة برنامج، هذا غيب، لكن هذا الغيب ماذا يُسمَّى؟ غيبًا نسبيًّا، أنا عندما أضع هذه الورقة، فقد أخفيتُها الآن. أنا أين أخفيتها؟ بالنسبة لك؛ هل وضعتها على رجلي اليمنى أو اليسرى؟ لا تعلم، غيب نسبي بالنسبة لك، لكن هذا بالنسبة لمن يشاهِد من هذه الجهة، أو إذا جاءت الكاميرا وضعت، فإنه سيكون واضحًا بالنسبة لمن يشاهد، وهذا غيب نسبي، لكن لو أقول أنا وأنت: ماذا سيكونُ بعد دقيقتين؟ أين ستكون هذه الورقة، أين سنكون نحن؟ لا ندري.
قد يعني هذا أمر.. لا يعلم ما يكون في المستقبل إلا الله جل وعلا، فلا بد من التفريق بين الغيب النسبيِّ والغيب المطلق، الغيب المطلق هو الذي لا يعلمه إلا الله، الله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}سورة النمل: الآية رقم (65). البعث شيء مستقبليٌّ أم ماضٍ؟ شيء مستقبلي، فلا يعلم غيب المستقبل إلا الله جل في علاه، وكل من ادَّعى أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ولو أتى بالشواهد والقرائن غيرَ أمرٍ معيَّنٍ؛ الأمور التي تكون وفق سَنَن وقانون، مثلًا شروق الشمس غدًا متى؟ الساعة كم ستكون مثلًا؟ في الرياض مثلًا؟ الساعة السادسة وعشر دقائق مثلًا. وفي المنطقة الفلانية؟ الساعة السابعة، الساعة السادسة والنصف، نعرفه من الآن.
لكن هذا ليس غيبًا مستقبليًّا، هذا الغيب غيب يستند إلى ما أجراه الله في نظام الكون؛ {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}سورة الرحمن: الآية رقم (5). بحسابٍ دقيق، نحن نستطيع أن نعرف بالدقة بجزء الثانية متى تطلع الشمس ومتى تغيب وتحركاتها، ليس لأننا نعلم ما في المستقبل، لكن نعرف بحساب دقيق أجرى الله الكون عليه أنه سيكون كذا، وسيكون كذا، وسيكون كذا، ومنه الإخبار بما يكون من كسوف مثلًا، الآن نستطيع أن نقول: السَّنَة هذه فيها خمسة كسوفات، ثلاثة كسوفات، بناءً على الحسابات التي يحسبها الناس لسير القمر والشمس، وهذا ليس من الغيب المطلق.
مثلما تمامًا نعرف أن الشتاء يأتي في الشهر الفلاني، والصيف يأتي في الشهر الفلاني، وما إلى ذلك، كل هذا من الغيب الذي لا يدخل في الغيب المُطلَق الذي لا يعلمه إلا الله؛ لأنه يستند إلى أي شيء؟ يستند إلى واقع التجربة، إلى واقع حساب، ليس إلى واقع، يعني: إلى علم ومعرفة، بل هو إلى حسابات معينة، ليس له مُقدِّمات، له مقدمات يستند إليها.
أما ما يتعلق بالأمور الأخرى ما يمكن أن يقال: غدًا فلان سيموت، ما الذي يدريك أنه سيموت؟ هذه حادثة لا أحد يمكن أن يجزم، أنا سأموت في الأرض الفلانية، لا أحد يستطيع أن يجزم بأنه سيموت، كما قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}سورة لقمان: الآية رقم (34).
فالكسب هنا يشمل كلَّ ما يأتيك من المكاسب، سواءً كانت إيمانية، دينية، دنيوية، لا أحد يعلمها إلا الله جل في علاه.