تفريغ الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى في كتابه "منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين"، كتاب الحج: والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران: الآية 97، والاستطاعة أعظم شروطه، وهي ملك الزاد والراحلة بعد ضرورات الإنسان وحوائجه الأصلية، ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم إذا احتاج لسفر.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد،،
يقول المصنف رحمه الله كتاب الحج، هذا كتاب الحج خبر مبتدأ محذوف وكتاب الحج في الكتاب فعال بمعناه مفعول، أي مكتوب الحج، وهو ما تضمنه هذا المقطع من مسائل الحج، والحج في اللغة القصد، هذا تعريفه في اللغة، وأما تعريفه في الاصطلاح فالحج التعبد لله تعالى بقصد مكة لأعمال مخصوصة في زمن مخصوص، هكذا يعرف الفقهاء رحمهم الله الحج وهو تعريف إجمالي لا يفترق كثيرًا عن التعريف اللغوي إلا من حيث ذكره أنه عبادة التعبد، والمكان المقصود مكة، وأنه لأعمال مخصوصة يأتي بيانها، وأنه في زمن مخصوص.
طبعًا المفترض في التعريف أن يكون كاشفًا للمعرف، هذا هو الأصل، الأصل في التعريف أن تكون كاشفة للمعرف، لكن أحيانًا يحصل أن ينطبق هذا على ما يذكره الفقهاء رحمهم الله في تعريفاتهم، وذاك أن التعريف إما أن يكون ذكر حقيقة الشيء، وإما أن يكون بذكر أحكامه وإما أن يكون بذكر مثاله وصورته، هكذا جرى العلماء في التعريف، لكنهم في كثير من الأحيان يورد على التعريفات إيرادات بسبب عدم انطباق الحدود، أو عدم انطباق الضوابط التي جعلها الأصوليون لضبط الحد والتعريف الصحيح، ولهذا ينبغي لطالب العلم ألا يقف كثيرًا عند التعاريف، لأنه ما من تعريف إلا وسيرد عليه إيرادات، ما يجعله غير مستقيم من حيث دلالته على ما يعرف ما عرف به، أو ما عرف به.
ولهذا يكفي في التعريف الوصف الإجمالي الذي يعطي فكرة ويقرب للذهن المعنى وإن لم يكن شاملًا شمولًا كليًا، لم نقل في وقت مخصوص الأعمال المخصوصة، ما فيه وضوح، ما هو الوقت المخصوص؟ وما هي الأعمال المخصوصة؟ لكن هو في الجملة أعطى نوعًا من التقريب الذهني لمعنى الحج في الشريعة وأنه أعمال مخصوصة في زمن مخصوص، وأنه في مكة، وأنه عبادة، كل هذه أشياء يعني قربها التعريف وإن لم يكن قد جلاها تجلية واضحة للقارئ.
بدأ المصنف رحمه الله في كتاب الحج بذكر دليله، فقال والأصل في، يعني الأصل في مشروعيته، الدليل على مشروعيته، يعني ما يستند إليه في ثبوت مشروعية الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران: الآية 97، وهذه الآية الكريمة تضمنت فرض الحج، وشرطه، والغرض منه، فالغرض منه العبادة والتعبد لله عز وجل بقصد هذا المكان، وذلك لذكر المقصود بالعمل، حيث قال ولله على الناس، وتضمنت الفرضية بقوله: على الناس حج البيت، وتضمنت شرطه في قوله: من استطاع إليه سبيلًا، من استطاع إليه سبيلا، فهذه الآية دالة على فرضية الحج ووجوبه، وفرض الحج في هذه الآية لم يكن مقصورًا على فئة من الناس بل على جميعهم، إلا أن السنة بينت من الذي يجب عليه الحج، فشروط الوجوب معلومة من أدلة أخرى وليس على كل الناس وليس على كل من استطاع من الناس، إنما على المسلم البالغ الحر المستطيع وقد ذكر الله تعالى شر الاستطاعة، في حين أن الآية دلت على العموم، ولله على الناس والمصنف رحمه الله اختصارًا، ذكر ما يختص به الحج من الشروط وهو الاستطاعة، فعرف الاستطاعة لأنها التي نص عليها في الآية، والعلة في أن الله تعالى نص على الاستطاعة في فرض الحج، أن الحج عمل فيه كلفة زائدة على المعتاد من مفارقة الأوطان وتحمل الأخطار، ومفارقة الأهل والمال، فذكر ذلك شرطًا ليتبين أنه ليس خارجًا عن الشرط العام في كل العبادات، النص عليه هو للتأكيد.
يعني لو لم يقل الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران: الآية 97، لم يذكر من استطاع إليه سبيلًا لكان هذا معلومًا من عموم التشريع في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} سورة التغابن، الآية 16، فكل العبادات مقيدة بالاستطاعة لكن لما نص عليها هنا، دل على أن الحج فيه من الكلفة ما احتاج معه الشارع إلى التنصيص على الشرط المستصحب في كل العبادة، والمقصود بقوله رحمه الله الاستطاعة بينه فيما ذكر من تعريف فقال هي ملك الزاد والراحلة، وهذا تعريف للاستطاعة بالمثال، وإلا فإن الاستطاعة هي القدرة على أعمال الحج وتتضمن القدرة البدنية والقدرة المالية.
فالاستطاعة نوعان:-
- استطاعة بالمال.
-واستطاعة بالبدن.
ولذلك قال وهي ملك الزاد والراحلة، والزاد والراحلة قوام البدني وبه يبلغ المكان، ولا يحصلان إلا بمال، فمن خلال قوله رحمه الله وهي ملك الزاد والراحلة، بين المؤلف معنى القدرة المشترطة فيها شرط الحج، ويدخل في الاستطاعة أمن الطريق وإمكان إدراك الحج، وكذلك قال بعض الفقهاء وجود محرم للمرأة، فهو من الاستطاعة الخاصة بالمرأة وقوله رحمه الله أعظم شروطه دل على أن للحج شروطًا، وهذا أعظمها، والمقصود بأعظمها أي من أخصها، ولذلك ذكره الله تعالى في آية الحج وفرضه فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران: الآية 97، فالتنصيص على الاستطاعة دليل على أن الاستطاعة مشروطة على وجه الخصوص في هذا العمل، وفي هذه العبادة، ولا تتم العبادة ولا هذا العمل إلا بها، قال رحمه الله: (بعد ضرورات الإنسان وحوائجه الأصلية)، يعني هذه الاستطاعة التي هي ملك الزاد والراحلة معتبرة بما فضل وزاد عن أمرين، الأول ضرورات الإنسان وهي ما لا قوام لحياته إلا به، من مأكل ومسكن ومركب، وغير ذلك من الأشياء التي يضطر إليها الإنسان ضرورة، وحوائجه الأصلية هي الحوائج الرئيسة التي بها تستقيم حياته، كدكانه مثلًا أو موضع أرض كسب، أو أدوات تحصيل المال، وما أشبه ذلك من الأشياء الأساسية.
يعني مثلًا اليوم من الحوائج الأصلية هي السيارة، على سبيل المثال سيارة الإنسان إذا كان يملك زادًا وراحلة، ويملك مأكل ومشرب ومسكن وملبس، وهذه كلها ضرورات، لكن من الحوائج الأصلية، من أمثلة الحوائج الأصلية السيارات، إذا كان صاحب عمل، وعنده معدات لهذا العمل كالحراثة مثلًا، كأدوات البناء، فيما إذا كان مقاولًا، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي من رئيسية حوائجه، فهذه كلها خارجة عن قيد الاستطاعة، فالاستطاعة المعتبرة هي ما بعد الضرورات، وما بعد الحوائج الأصلية.
ثم عاد المؤلف رحمه الله ذكر الاستطاعة فقال: (ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم إذا احتاج لسفر)، إذا احتاج الحاج لسفر، فمن الاستطاعة المتعلقة بالمرأة أن يكون لها محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا » صحيح مسلم: باب سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ مَحْرَمٍ إِلَى حَجٍّ وَغَيْرِهِ, حديث رقم:3332 ، وفي بعض الروايات أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم، وفي حديث ابن عباس عام لا تسافر إلا مع ذي محرم دون تقييده بمدة زمنية، قوله رحمه الله: (ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم)، المحرم من هو؟ المحرم هو زوج المرأة، ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو بسبب مباح، هذا هو المحرم "الزوج"، ومن تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا إما بسبب النسب أو بسبب مباح آخر غير النسب، كالرضاعة ونحوه، هذا هو المشهور في المذهب في تعريف المحرم أنه هو زوج المرأة وكل من يحرم عليها على التأبيد بنسب أو سبب مباح.
وثمة رواية أن المحرم هو زوجها أو من تحرم عليه بنسب أو بسبب مباح، فيشترط أن يكون التحريم هنا مؤبدًا، هذه رواية ثانية، يعني الفرق بين الرواية الأولى والرواية الثانية، أن يكون التحريم على التأبيد هذا في الرواية الأولى، وفي الرواية الثانية أن يكون التحريم لو لم يكن على التأبيد، يصلح أن يكون تحريمًا مؤقتًا، ومثاله زوج الأخت على سبيل المثال هذا محرم مؤقت، لأنه لا يجوز له أن يجمع بين المرأة وأختها، وكذلك زوج العمة وزوج الخالة، وما أشبه ذلك.
فقوله رحمه الله، طبعًا هناك شروط أخرى غير التي ذكرها رحمه الله، لكن هي معلومة الإسلام العقل البلوغ الحرية، كل هذه الشروط لتحقيق الاستطاعة.
ثم بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر أعمال الحج وأحكامه من خلال سرده لحديث جابر، وحديث جابر هو أشهر حديث في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم وأوسعه، ولهذا يعده بعض الناس منسكاً برأسه، يعني يكتفون بذكره عن ذكر بقية الأحاديث لاشتماله على صفة حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حديث جابر يشتمل على أعظم أحكام الحج، هكذا قال المصنف رحمه الله، وهو كما قال فهو مشتمل على أعظم أحكام الحج، وقد قال عنه النووي رحمه الله، هو حديث عظيم مشتمل على جمل وفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من إفراد المسلم، أي أن هذا الحديث لم يروه البخاري رحمه الله في صحيحه، وهو مما انفرد به مسلم، وقد تكلم الفقهاء في هذا الحديث كما ذكرت وكذلك شراح الحديث تكلموا عنه كلامًا وافيًا وأكثروا التفقه فيه، وصنف فيه بعضهم منسكًا كما ذكرت، من المتقدمين ومن المتأخرين، ليس فقط من المتأخرين بل حتى من المتقدمين، فقد صنف فيه أبو بكر بن منذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مسائل عديدة كما قال القاضي رحمه الله.
المقصود أن هذا الحديث اقتصر المؤلف رحمه الله في ذكر أكثر أحكامه هذا الكتاب لسرد هذا الحديث ليكون ذكرًا للمسائل ودليلًا عليها، وقد جمع بين المسائل والدلائل، وهذا من سمات هذا الكتاب ومميزاته، كما تقدم الحديث في أول كلامنا على ما اتسم به وامتاز به هذا الكتاب من الجمع بين المسائل والدلائل على اختصار وإيجاز.
وحديث جابر في حج النبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على أعظم أحكام الحج، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثله، فخرجنا معه حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» صحيح مسلم: باب حَجَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم, حديث رقم:3009.
، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ) صحيح مسلم: باب التَّلْبِيَةِ وَصِفَتِهَا وَوَقْتِهَا, حديث رقم: 2871. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة.
هذا المقطع من حديث جابر نعلق عليه ثم نستكمل، هذا المقطع من حديث جابر بن عبد الله فيه عدة مسائل: المسألة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا بعد أن مضى من هجرته تسع سنين، فحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، وهذا محل اتفاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته لم يحج إلا في العام العاشر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في زمن فرض الحج، هل فرض في السنة التاسعة، أم فرض الحج في السنة السادسة، على قولين: فمنهم من يقول أنه فرض الحج في السنة السادسة من الهجرة، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله، وهذه نزلت في السنة السادسة، والراجح أن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة، في عام الوفود، فهذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سورة آل عمران: الآية 97، هي في سورة آل عمران، وصدرها قد نزل في عام الوفود، العام الذي وفد فيه الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أرجاء الجزيرة، مؤمنين بما جاء به متبعين له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالصحيح في مسألة فرض الحج أنه فرض في السنة التاسعة.
وينبني على هذا مسألة فيها كلام لأهل العلم وهي: هل فرض الحج على الفور أو على التراخي، للعلماء في ذلك قولان بناء على اختلافهم في: هل الأصل في الأمر الفورية، أو الأصل في الأمر التراخي؟ وهذه مسألة تتعلق بالأصول، وللعلماء الأصوليين والفقهاء فيها قولان منهم وهو قول الجمهور أنه يقتضي الفور، ومنهم من يرى أن الأمر لا يقتضي الفورية بل هو على التراخي.
والذي يظهر والله أعلم هو أن الأمر على الفور وعليه فإن الأصل في الأوامر أن يبادر إليها، ما لم يأتِ ما يدل على الإذن في التأخير أو أنه ليس على الفور، والحج فرضه الله تعالى على الناس في السنة التاسعة، هنا يأتي سؤال لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة إذا كان الأمر على الفور، الجواب على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر حجه عن السنة التاسعة، لأجل أن يخلص البيت له دون مشارك من المشركين، ولذلك بعث في السنة التاسعة أبا بكر وعلى، وعلي رضي الله عنهما على الناس في الحج، بعث مبعوثًا على الناس ومعه علي رضي الله عنهما وأمرهما أن يؤذنا في الناس ألا يحجا بعد العام مشرك، ولا يطاف بالبيت عريان، فمنع المشركون من حج البيت ومنع الطواف على نحو مما كان يعمله أهل الجاهلية من الطواف بصفة التجرد عن الثياب. فإنهم كانوا يطوفون عراة إذا لم يجدوا ثيابًا جديدة أو لم يكسهم أهل الحرم.
المقصود أن هذا من المسائل التي تضمنها هذا المقطع هو قضية الحج على الفور أو على التراخي، ثم أذن في الناس في العاشرة، أي أُعْلِم الناس في السنة العاشرة من الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج أي أنه سيحج من عامه، فلما علم الناس بهذا وانتشر الخبر يقول جابر فقدم المدينة بشر كثير، أي خلق كثير، كلهم يلتمسوا أن يأتم برسول الله ويعمل مثل عمله، يعني هؤلاء الذين توافدوا إلى المدينة وهم خلق كثير جاء في وصفهم في بعض روايات حديث جابر، قال نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشي، يعني مد البصر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق منهم من هو راكب وماشي، ومد البصر لمسافة بعيدة، يقول وعن يمينه مثل ذلك أي مد البصر عن يمينه حجاج ماشي وراكب، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، وهذا عدد كبير إذا قدرت مد البصر من جميع الجهات كان ذلك دليل على الكثرة، كما قال رحمه الله: (فقدم المدينة بشر كثير)، وهؤلاء الذين قدموا من جميع أرجاء الجزيرة ولم يكونوا فقط من أهل المدينة بل من أرجاء الجزيرة وكلهم جاءوا لأجل الإتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في هذه الحجة لينظروا كيف يفعل، وقد حرص صلى الله عليه وسلم على تعليم الناس وأن يأتموا به، ولذا كان يقول للناس: ((خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)) سنن البيهقي: باب الإيضاع في وادي محسر، حدث رقم(9307)، قال الألباني: صحيح ، يقول فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، وذا الحليفة هو الوادي الذي تكثر فيه هذه الشجرة، شجرة الحلفاء، وسميت حليفة تصغيرًا لها، وهي شجرة صغيرة في وادي العقيق، قريب من المدينة، وهو ما يعرف الآن بوادي ذي الحليفة، ويسميه بعض الناس آبار علي، وهي تسمية حادثة وهو وادٍ مبارك كما جاء في الصحيحين في حديث عمر، أنه قال صلى الله عليه وسلم، أتاني أتٍ فقال: ((صل في هذا الوادي المبارك)) صحيح البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه و سلم ( العقيق واد مبارك )، حديث رقم(1461).
صحيح مسلم: باب التعريس بذى الحليفة والصلاة بها إذا صدر من الحج أو العمرة، حديث رقم(1346). فهو من الأودية المباركة، صلي في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة، وهو ميقات أهل المدينة، وقد جاء النص على توقيته في حديث ابن عباس، وفي حديث ابن عمر، فوردت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله: ماذا تصنع وقد نفست هل ترجع كيف تعمل في نسكها، قال: اغتسلي، أي أصيبي من الماء غسلًا يعم البدن، واستنثري بثوب واحدـ، استنثري أي ضعي على موضع الخارج للدم، موضع خروج الولد، ضعي لجامًا يمنع انتشار الدم وأحرمي أي كسائر الحجاج، قوله أحرمي أي قولي لبيك حجًا أو لبيك عمرةً، على النحو الذي وقع منها رضي الله عنها.
النبي صلى الله عليه وسلم وهذا فيه من المسائل أن النفساء يسن لها الاغتسال كسائر المحرمين، بل أن العلماء استدلوا بهذا على أنه يشرع لمن أراد الإحرام أن يغتسل لأن النبي أمر أسماء بنت عميس، وكذلك أمر عائشة لما حاضت بالسلف قال انقضي عمرتك، دع عمرتك، وانقضي شعرك وامتشطي واغتسلي، فدل هذا على أنه يشرع للإحرام سواء كان مبتدئا أو كان منتقل إليه حال يشرع له الاغتسال، يشرع له الاغتسال، ومثله أن يحرم مثلًا بعمرة أن يغتسل لإحرامه بالحج كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن ثابت حيث أنه تجرد من إحرامه واغتسل، ذلك من السنن المشروعة عند الإحرام، وقال بعض أهل العلم أنه لا يؤمر به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمر به، والصواب أنه يؤمر به لأنه قال اغتسلي وهو سنة ويؤمر به جميع من أراد الإحرام سواء كان إحرامه بحج أو كان إحرامه بعمرة.
قوله فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد أي في مكان الصلاة، فالمسجد هنا ليس موضعًا مبنيًا، إذ لم يكن هناك بناء إنما الموضع الذي اتخذوه للصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فكل مكان يصلى فيه يسمى مسجدًا، لكن المسجد المبني له خصوصية أنه له أحكام وله حرمة وله آداب وسنن تختلف عن غيره، لكن المقصود بالمسجد هنا أي موضع الصلاة.
ثم ركب القصواء، أي بعد صلاته، وصارت هذه صلاة الظهر، وهي امتثال لما أمره الله تعالى به حيث قال: صلي في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في ذي الحليفة، ثم ركب القصواء، والقصواء اسم لراحلته صلى الله عليه وسلم حتى استوت به ناقته، وهذا يعلم به أن القصواء أنثى ولم تكن ذكرًا، لم تكن فحلًا بل كانت أنثى من الرواح التي ارتاح لها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استوت، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، البيداء مكان مرتفع وهو في الأصل يطلق على المكان الفسيح الذي ليس فيه شيء كالصحراء، يقول رضي الله عنه نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن هكذا في بعض النسخ، وهو يعرف تأويله أي تفسيره ومعناه، وما عمل به من شيء عملنا به، لأنه هو الذي يفسره، هذا معناه هذا سبب قوله وهو يعرف تأويله، أي أن ما عمله هو ترجمة للقرآن.
ولذلك لما سئل ابن عباس عن بعض الأحكام المتعلقة بالحج، ما دليلك؟ قال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فاستدل بهذه الآية العامة الدالة على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم على تفاصيل عمل، لأنه عليه أنزل وهو أعلم بتأويله ويعرف تأويله صلى الله عليه وسلم وما عمل به من شيء شرع للأمة أن تتبعه فيه، فهل بالتوحيد، هذا أول عمل أظهره النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحج، وهو التلبية، قوله: فأهل بالتوحيد أي رفع صوته بالتلبية، فالإهلال هو رفع الصوت بالتلبية، ومنه سمي الهلال هلالًا لأن الناس إذا تراءوا الهلال ورأوه رفع بعضهم صوته برؤيته أو بالإخبار عن ما رأى من هلال، فقوله فأهل بالتوحيد أي رفع صوته بالتلبية، وبين المصنف رحمه الله هذه التلبية، بيًن جابر رضي الله عنه المقصود بالتوحيد فقال لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، هذه التلبية سميت بالتوحيد لأنها تضمنت إفراد الله تعالى بالإجابة، وإفراده سبحانه وبحمده بالنعمة والملك، والقصد والحمد، كل ذلك مما تضمنته هذه الجملة المختصرة العظيمة، ولذلك قال عنها جابر فأهل بالتوحيد.
وهذه الكلمة التلبية سنة في قول جماهير العلماء وقال بعضهم بل هي واجب، والصحيح أنها سنة، فلو حج ولم يلبي صح حجه، لكن فاته سنة التلبية، التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وكررها، وهذه التلبية معناها: الالتزام لله تعالى بالطاعة والعبادة والإجابة مع طمأنينة القلب وانشراح الصدر، مع إثبات جميع المحامد له وأنواع الثناء والملك العظيم لله جل وعلا، مقترنًا بنفي الشركة في ألوهيته وربوبيته، وفي حمده وفي ملكه، وهذه حقيقة التوحيد، وهذا كله يستوجب محبته، ومعلوم أن الأرواح والأبدان إنما تتحفز العمل بداعي المحبة، فالذي يجعل الناس ينتقلون من أوطانهم ويهجرون أولادهم وبلدانهم وأموالهم إلى تلك البقعة، ما الذي يحملهم؟ محبة الله عز وجل، ومحبة ما أحبه، ولذلك قال جل وعلا: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} سورة إبراهيم، الآية 37، تهوي أي تميل، ولذلك تجد أن هذا البيت لا يعطل عن القصد عبر الأيام والليالي واختلاف العصور والدهور فهو بيت مقصود، افتقر الناس أو اغتنوا ويجد الناس في قلوبهم من المحبة قصده والمجيء إليه، وقضاء الوتر بالطواف به والسعي بين الصفا والمروة، ما هو مشهود في قلوب الخلق.
هذا ما يتعلق بهذه التلبية، ثم قال رحمه الله: قال جابر، طبعا الكلام فيها أطول من ذلك، لكن نقتصر على هذا، قال جابر: (وأهل الناس بهذا الذي يولون به، يعني كان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون تلبيات أخرى غير التلبية التي لبى النبي بها صلى الله عليه وسلم، كنحو لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرباء إليك والعمل بهذه جاءت عن عبد الله بن عمر كما في صحيح الإمام مسلم بإسناده عن ابن عمر، وكذلك جاء عن أنس لبيك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا بأس به، لبيك إله الحق، كلام يرد عنه أكثر من هذا ولذلك قال جابر: (وأهَلَّ الناس بهذا الذي يهلون به يعني من التلبيات)، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، يعني أقر، أقر ذلك، لم يرد عليهم شيئًا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، ولهذا أفضل ما يكون من التلبيات، ما لزمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الأفضل في التعظيم والتوحيد والإجلال وبيان حق الرب سبحانه وبحمده.
بعد ذلك قال جابر: (لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة)، هذا بيان لما كان عليه الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر من حج معه كان مفردًا، قال جابر لسنا ننوي إلا الحج، يعني ليس معنا ولا قصدنا شيء من العمل إلا الحج، فلم يقصد العمرة، ويقل لسنا نعرف العمرة حكاية عن عمل الأكثرين، أما النبي صلى الله عليه وسلم فالراجح من أقوال أهل العلم أنه أهل ابتداءً في الحج والعمرة، وقد اختلف العلماء في نسك النبي صلى الله عليه وسلم، هل كان مفردًا، هل كان قارنًا، هل كان متمتعًا، هل ابتدأ بالإفراط ثم انتقل إلى غيره من تمتع أو قران، كل هذا مما جرى فيه الخلاف بين أهل العلم، وتنوعت فيه الأقوال، لكن الذي دلت عليه الأحاديث الكثيرة أنه كان قارنًا من أول حجه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في حديث عمر في الصحيحين: أنه قال: ((أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) سبق تخريجه ، فحكاية جابر لسنا ننوي إلى الحج لأنا لسنا نعرف العمرة هو حكاية لمن كان يشهده من حال أكثر الناس، والنبي لم يأمرهم بنسك محدد، لم يأمرهم بعمرة، ولم يأمرهم بحج مفردًا، ولم يأمرهم بالقران، بل تلك الناس على حالهم وهم خارجون إلى الحج، منهم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بعمرة وحج، كما جاء ذلك في الصحيحين، من حديث عائشة حيث قالت خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج، ومنا من أهل بحج وعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ممن أهل بحج وعمرة.
يأتي بقية الحديث عن أنواع النسك وما يتصل بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث، والله تعالى أعلم.