بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى في كتابه (منهج السالكين): (وشروط الطواف مطلقاً: النية، والابتداء به من الحجر، ويسن أن يستلمه ويقبله، فإن لم يستطع أشار إليه، ويقول عند ذلك: "بسم الله، الله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم"، وأن يجعل البيت عن يساره، ويكمل الأشواط السبعة، وأن يتطهر من الحدث والخبث، والطهارة في سائر الأنساك غير الطواف سنة غير واجبة.
وقد ورد في الحديث: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه المنطق)) صحيح ابن حبان: باب دخول مكة، حديث رقم(3836) وسن أن يضطبع في طواف القدوم، بأن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، وأن يرمل في الثلاثة أشواط الأول منه، ويمشي في الباقي، وكل طواف سوى هذا لا يسن فيه رمل ولا اضطباع).
الحمدلله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
بعد أن ذكر المصنف ما ذكر مما يتعلق بأحكام الحج وأعماله، أتى إلى بيان ما يتعلق بالطواف والسعي على وجه الخصوص، وهما عملان رئيسان في الحج والعمرة، فالطواف ركن في قول عامة العلماء، والسعي ركن في قول طائفة وواجب في قول جماعة من أهل العلم.
يقول رحمه الله: (وشروط الطواف مطلقاً: النية) وهذا شرط في كل الأعمال، وإنما نص عليه تمهيداً لما بعده، وإلا فالنية شرط في كل الأعمال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) صحيح البخاري: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟،حديث رقم(54)، وقوله (مطلقاً) يعني على وجه الإطلاق في كل طواف من الأطوفة، فإنه يشترط أن يكون بنية، فلا يصح الطواف إلا بنية من الفاعل، والنية تتقدم الفعل، ويستثنى من اشتراط النية من كان دون التمييز فإنه يطاف به، ولذلك لا تشترط منه النية تجوزاً وتخفيفاً.
قوله: (والابتداء به من الحجر) أي ويشترط والابتداء به من الحجر، والمقصود بالحجر هنا الحجر الأسود وهو مبدأ الطواف، لأنه الذي فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)) صحيح مسلم: بَابُ اسْتِحْبَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَبَيَانِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»، حديث رقم: (1297)، والإجماع منعقد على أنه يجب الابتداء في الطواف من الحجر الأسود، وأن الطواف يبتدىء به وينتهي إليه، فدليل ذلك: الإجماع المستند إلى ما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال رحمه الله: (ويسن أن يستلمه ويقبله، فإن لم يستطع أشار إليه) هذا بيان للآداب والسنن والمشروعات التي تتعلق بالطواف، فيسن أن يستلمه ويقبله، الاستلام هو أن يضع يده عليه، والتقبيل هو أن يضع شفتيه على الحجر، هذا الاستلام وذاك التقبيل، والاستلام يسن أن يكون مع التقبيل فيسن أن يمسحه بيده وأن يقبله، فإن لم يستطع فإنه يستلمه بيده ويقبل يده، فإن لم يستطع فإن كان في يده شيء يستلم به الحجر ويقبله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث استلم الركن بمحجن، فذاك أيضاً مرتبة من المراتب، فإن لم يستطع هذا كله فإنه ينتقل إلى الإشارة، ولذا قال (فإن لم يستطع) يعني الاستلام والتقبيل انتقل إلى الإشارة، فقال: (فإن لم يستطع أشار إليه) أي يشير إليه بيده، والإشارة بيد لا بيدين، فما يفعله الناس من إشارة بيدين هذا لا دليل عليه، بل الإشارة بيد واحدة وهذا قول جماهير العلماء، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه إذا لم يتمكن من الاستلام ولا من التقبيل فإنه يسقط عنه، فإنه لا يفعل شيء، لا يشير لأن الإشارة ذكروا أنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر أنه يشير لدلالة السنة حيث جاء فيه ((أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ)) صحيح البخاري: بَابُ المَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا، حديث رقم (1632).
قوله رحمه الله: (ويقول عند ذلك) يعني عند الشروع في الطواف ومع الاستلام أو التقبيل أو الإشارة (بسم الله، الله أكبر) هذا القول مسنون أي كل ما يذكر من الأذكار عند بداية الطواف إنما هو على وجه السنية والاستحباب ليس ركناً ولا واجباً، فيقول: (بسم الله، الله أكبر) والثابت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو التكبير، أما البسملة فقد جاء ذلك في أثر عن ابن عمر رضي الله عنه، ولم يرد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وأما الذكر الذي ذكره المصنف وهو أن يقول: (اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك) فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد سليم، ولذلك إن شاء قاله وإن شاء تركه، لأن الإسناد الذي ورد به هذا الأثر غير مستقيم وضعيف، فلا تثبت به السنية.
قوله رحمه الله: (وأن يجعل البيت عن يساره) هذا شرط من شروط الطواف، أو هو ثالث شرط يذكره المصنف: أن يجعل البيت عن يساره، فلو جعل البيت عن يمينه لم يصح طوافه، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم، فدليل ذلك الإجماع، وهذا الإجماع يستند إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يُنقل عنه غيره وفعل المسلمين على التوالي والتعاقب، وهذا كافٍ في ثبوت شرطية ذلك، وأنه الصفة التي يشرع أن يطوف عليها.
الشرط الرابع: (وأن يكمل الأشواط السبعة) فلابد من استكمال سبعة أشواط لصحة الطواف، فلو قصر عن سبعة أشواط أو لم يكمل هذا العدد فإنه لا يصح طوافه، إذاً هذا الشرط الرابع من شروط الطواف.
قوله رحمه الله: (وأن يتطهر من الحدث والخبث) ذكر هذا بعض أهل العلم على أنه شرط من شروط الطواف، فلا يصح الطواف من المحدث، فهو شرط من شروط صحة الطواف، وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطهارة واجب من الواجبات فإذا تركه جبره بدم وهذا مذهب الحنفية، وذهب طائفة إلى أن الطواف لا يشترط له الطهارة بل يستحب، هذا القول الثالث من أقوال أهل العلم في مسألة الطواف وحكم الطهارة فيه، وهذا القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى الصواب وهو أن الطهارة ليست شرطاً ولا واجباً، بل هي مسنونة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم البيت كان أول ما بدأ به أنه توضأ وضوءاً ثم طاف صلى الله عليه وعلى آله وسلم طاف بالبيت.
قوله رحمه الله بعد ذلك: (والخبث) الطهارة من الخبث أي النجاسة، سواء ذلك في البدن أو كان ذلك في الثياب، فإنه يطلب أن يكون نقياً من النجاسات في بدنه وفي لباسه، قوله رحمه الله: (والطهارة في سائر الأنساك غير الطواف سنة غير واجبة) وفُهم من هذا أنه يرى أن الطهارة واجبة للطواف، وهو أحد الأقوال كما ذكرت، وتقدم الخلاف والراجح، وأفادت هذه العبارة أن الطهارة ليست بشرط في كل الأنساك، يعني في جميع أعمال الحج والعمرة يصح إيجادها والقيام بها بغير طهارة.
ثم قال رحمه الله في الاستدلال للحكم المتقدم: قال (وقد ورد في الحديث: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه المنطق) صحيح ابن حبان: باب دخول مكة، حديث رقم(3836)، قال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح. وهذا الأثر من حديث ابن عباس، روي مرفوعاً وموقوفاً، والصحيح أنه موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من كلام ابن عباس، ولو قُدر أنه مرفوع وأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا دلالة فيه على شرطية الطهارة للطواف ولا على أنه يجب، لأن قوله: ((الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام)) هو بيان أن هذا الموضع موضع ذكر ودعاء وثناء على الله عز وجل كما هو الشأن في الصلاة، فإن الصلاة تسبيح وذكر وقراءة القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكلم في الصلاة قال: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) صحيح مسلم: بَابُ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَسْخِ مَا كَانَ مِنْ إِبَاحَتِهِ، حديث رقم (537) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة شُرعت لأجل هذا، وكذلك الطواف، وأما أن يقال أن هذا يدل على أن كل ما يشترط للصلاة فإنه يشترط للطواف فهذا ليس بصحيح، فإن من شروط الصلاة استقبال القبلة وهذا ليس بواجب ولا مشترط في الطواف، ومن شروط الصلاة أن يسكن قانتاً: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} سورة البقرة: (238) من غير سعي ولا تنقل، وهذا لا يمكن أن يكون في الطواف، بل الطواف هو السعي والسير حو البيت على الوجه المشروع، فالحديث لا دليل فيه ومنه الطهارة، فإنه لا يشترط في الطواف ما يشترط للصلاة من الطهارة.
قوله رحمه الله: (وسن أن يضطبع في طواف القدوم يعني يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر) سن أي شرع أن يضطبع والاضطباع بين صفته أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، هذا ما يتصل بالمسنون في طواف القدوم، وهذا يسن في طواف القدوم للحاج سواء كان مفرداً أو قارناً، وكذلك للمعتمر سواء كانت عمرة مستقلة أو عمرة التمتع، فإنه يسن له هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله من الاضطباع، ويسن له أيضاً سنة ثانية وهي: أن يرمل في الثلاثة أشواط الأول منه، والرمل هو إسراع السير مع مقاربة الخطى، وبالتالي إذا كان السير لا يمكن الإسراع فيه، فإنه لا يشرع ما يفعله بعض الناس من تحريك الكتفين على صورة الرامل فإن ذلك غير مطلوب، لأن المطلوب هو الرمل لا هز الكتفين أو تحريكهما على صفة الرامل.
قال رحمه الله: (ويمشي في الباقي) والرمل سنة في الأشواط الثلاثة الأول منه، والرمل يكون من أول الشوط إلى نهايته، وذهب طائفة إلى أنه يسن ما بين الركنين، من الحجر الأسود إلى الأيمن ثم يمشي بينهما كما جرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، لكن الذي يظهر والذي استقر عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم هو الرمل في كل الشوط وليس في بعضه، قوله رحمه الله: (ويمشي في الباقي) أي ويسير سيراً معتاداً فيما بقي من أشواط وهي الأربعة الباقية، وهذا الذي ذكره رحمه الله من الاضطباع والرمل إنما يسن في هذا الطواف وهو طواف القدوم، وكذلك في طواف العمرة (وكل طواف سوى هذا لا يسن فيه رمل ولا اضطباع)، فطواف الإفاضة وطواف الوداع والطواف المسنون المتقرب به فإنه لا اضطباع فيه ولا رمل، هذا معنى قوله رحمه الله: (وكل طواف سوى هذا لا يسن فيه رمل ولا اضطباع)، أما طواف الإفاضة فهي أن المحرم قد تحلل من إحرامه وكذا الوداع، فلا يتأتى فيه الاضطباع لأن الاضطباع لا يكون إلا حال الإحرام، بأن يجعل ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، هذا ما يتصل بالاضطباع، وأما الرمل فالرمل لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في طواف الوداع، ولا نُقل في طواف الإفاضة، والسنن إنما تثبت بالنقل، ولما جاء للقياس فإن القياس في العبادات لا يصح لأن العبادة مبناها على التوقيف.
ثم قال رحمه الله: (وشروط السعي: النية) شرع في ذكر ما يشترط في السعي، نعم (وشروط السعي:النية، وتكميل السبعة، والابتداء من الصفا، والمشروع: أن يكثر الإنسان في طوافه وسعيه وجميع مناسكه من ذكر الله ودعائه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ)) سنن أبي داود: بَابٌ فِي الرَّمَلِ، حديث رقم (1888)، قال الألباني: ضعيف. سنن أبي داود: بَابٌ فِي الرَّمَلِ، حديث رقم (1888)، قال الألباني: ضعيف. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا الإِذْخِرَ)) صحيح البخاري: بَابُ كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، حديث رقم (2434)، وصحيح مسلم: بَابُ تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلَاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ، حديث رقم (1355) متفق عليه، وقال: ((الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرَ إِلَى ثَوْرٍ)) سنن أبي داود: بَابٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، حديث رقم (2034)، قال الألباني: صحيح رواه مسلم،وقال: ((خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يَقْتُلُهُنَّ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ)) صحيح البخاري: بَابُ مَا يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ، حديث رقم (1829) متفق عليه).
قوله رحمه الله: (وشروط السعي: النية) هذا أول الشروط التي ذكرها في السعي وهو كما ذكرت شرط في العبادات كلها، فذكره على وجه التمهيد وإلا فهو مستحضر حتى ولو لم يذكره لأن الأعمال بالنيات كما قال النبي صلى الله وعلى آله وسلم: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) صحيح البخاري: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟،حديث رقم(54)، الشرط الثاني: (وتكميل السبعة) أي تكميل سبعة أشواط وكل ذهاب شوط فكل سعية بين الصفا والمروة شوط ذهاباً وإياباً، قال: (والابتداء من الصفا) هذا الشرط الثاني من شروط السعي، ولو أنه قدمه المصنف لكان أجود في التصنيف لأنه أسبق كما فعل في ذكر شروط الطواف حيث قال: (النية، والابتداء من الحجر) وهنا قال: (شروط السعي:النية، وتكميل السبعة) والأولى أن يؤخر، على كل حال هذا تقديم وتأخير لا يؤثر في المعنى، فالشرط الثالث من شروط السعي: الابتداء من الصفا، لقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} سورة: البقرة (158) فبدأ بذكر الصفا، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاة ركعتين عند المقام، عاد فاستلم البيت ثم خرج، ((فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ)) صحيح مسلم: بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (1218) ولذلك انعقد الإجماع على أن السعي مبدأه من الصفا، والصفا جبل في أصل جبل أبي قبيس، وهو جبل صغير ذهبت أكثر معالمه الآن بهذه التوسعات التي حصلت، ولكن بقي منه جزء وهو متسع وليس كما يظن الناس أنه ضيق، لكن هو جبل صغير في أصل جبل أبي قبيس وهو الأكبر، يأتي إلى الصفا ويعرب عليه إلى حد يرى منه البيت، هذا الحد الذي يطلب من المجيء إلى الصفا ثم يقف ويكبر الله تعالى ويهلله ويدعو، ثم ينصرف نازلاً إلى جهة المروة.
يقول رحمه الله: (والمشروع) أي في السعي (أن يكثر الإنسان في طوافه وسعيه وجميع مناسكه من ذكر الله ودعائه) لأن الذكر هو روح هذه العبادة وهو مقصودها الأعظم، لذلك قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة: الحج (28) فجعل علة المجيء إلى هذا البيت وهذه البقعة المباركة هو ذكره جل في علاه، والله تعالى يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} سورة: البقرة (203) قال رحمه الله: (لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ)) سنن أبي داود: بَابٌ فِي الرَّمَلِ، حديث رقم (1888)، قال الألباني: ضعيف. هذا بيان لسبب مشروعية هذه الأعمال أنها إنما شرعت لأجل إقامة ذكر الله، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد صحح الحديث الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وإن كان قد تكلم في إسناده بعض أهل العلم إلا أن إسناده قابل للتحسين.
قوله رحمه الله: (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ))) الآن فرغ المصنف رحمه الله من ذكر ما يتعلق بأحكام الحج والعمرة وما يتصل بهما، انتقل إلى بيان أحكام الحرم، فهذا الحديث مبدأ ذكر ما يتصل بأحكام الحرم، الحرم هو ما جعله الله تعالى محرماً معظماً مخصوصاً بجملة من الأحكام، وهذا تحريم قدري شرعي، لأن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وجعلها محرمة وأظهر تحريمها وحرمتها وقذف في القلوب تعظيمها، وهذا الحرم له أحكام بينها المصنف رحمه الله في سياق حديث أبي هريرة الذي تضمن ذكر أحكام الحرم أو بعضاً من أحكام الحرم، قال: ((لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ)) أي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس معلماً مبيناً، ((فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)) أي حمد الله بما هو أهله من ذكره بالثناء الحسن الجميل بأسمائه وصفاته محبة له وتعظيماً، ((وَأَثْنَى عَلَيْهِ)) أي كرر ما يقتضي تمجيده وحمده ((ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ)) أي منع عن مكة الفيل الذي جاء لهدمها والذي قص الله تعالى خبر أصحابه في سورة الفيل في محكم كتابه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} سورة: الفيل ((وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ))، والفرق أن الفيل وأصحابه جاءوا لهدم الكعبة وإزالة حرمتها والنيل من مكانتها، فلذلك حبسهم الله تعالى ومنع دخولها بإذنه، لما عجز أهل مكة عن حمايتها حمى الله بيته، وأما مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكان لتعظيم هذا البيت وتطهيره، ولذلك مكن الله لرسوله وأظهره على خصومه، ويسر له أمر هذا الدخول على وجه يرضاه جل في علاه، ولذلك قال: ((وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ))، وهذا التسليط تسليط قدري شرعي حيث مكن الله رسوله، وأذن له في الدخول، ولذلك قال: ((فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي)) أي لم يحلها الله تعالى لأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع فيها سلاحاً وأن يدخلها عنوة ((وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)) أي برهة من نهار، وهذا الإحلال لتحقيق مقصود شرعي، فليس إحلالاً لامتهان ولا لانتقاص بل هو لتعظيمها وإزالة ما كان في تلك البقعة المباركة من معالم الشرك والصد عن سبيل الله، ثم قال: ((وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي)) وهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم أن مكة لا تزال بلاد إسلام ما شاء الله تعالى أن تكون، ثم قال صلى الله عليه وسلم:((فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا)) إذاً الحكم الأول الذي ذكره تحريمها وتعظيمها، هذا الذي قرره أولاً ثم أزال الشبهة الواردة: فإذا كانت حراماً فكيف حلت لرسول الله؟ بين ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه تحليل استثنائي موقت وغرضة وغايته تعظيم البقعة وإقامة الشريعة، ثم عاد لذكر ما يتعلق بأن هذا لن يعود وأنها ستعود كما كانت حراماً، ثم ذكر جملة من الأحكام المترتبة على هذا التحريم فقال صلى الله عليه وسلم: ((فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا)) أي لا يهيج صيدها عن مكانه، فلو رأى مثلاً إنسان الصيد وهو ما يصاد من البهائم لو رآه في ظل لم يجز له أن ينفره، ومن باب أولى لا يجوز قتله، إذا كان لا يجوز أن ينفره عن مكانه بأن يهيجه ليخرج عن مكانه فمن باب أولى لا يجوز التعدي عليه بالقتل، قال رحمه الله: ((وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) هذا في سياق حديث أبي هريرة، قال: ((وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) لا يختلى: أي لا يقطع، لأن حرمة مكة تشمل حرمة الحيوان، بقوله: ((فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا)) وحرمة النبات والأشجار بقوله: ((وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) إلا ما جاء استثنائه، فإذا كان شوكها رغم ما يمكن أن يقترن بالشوك من الأذى لا يقطع فكيف بغير الشوك من النباتات التي لا أذى فيها؟ بالتأكيد أن حرمتها وصيانتها من باب أولى وأحرى، لأن النبي ذكر الشوك وهو الذييؤذي ويطلب التخلص منه، فإذا كان لا يقطع الشوك فغيره من باب أولى، والمقصود بذلك ما كان من الشجر الذي نبت من غير فعل آدمي، أما ما كان للآدمي في إنباته يد كالزروع التي يستعملها الناس للتجميل، أو التي في الطرقات أو التي يقصد ثمرها وتزرع فهذه لا تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) وقوله: ((وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ)) هذا الحكم الثالث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بتحريم مكة أنه لا تحل ساقطتها، أي لقطتها إلا لمن أخذها للتعريف، وهذا معنى قوله: ((إِلَّا لِمُنْشِدٍ)) فلقطة مكة ليست كلقطة غيرها، فمن التقط لقطة فيها فإنه لا يتملكها بل يجب عليه تعريفها دائماً، ولذلك قال: ((وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ)) ولو مر عليها أعوام، بخلاف بقية الأموال الملتقطة في غير الحرم فإنه يعرفها سنة فإذا لم يأتي ربها ولم تعرف فهي لمن أخذها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ))هذا ولو مضى عليه أعوام، والمنشد هنا سواء كان إنسان بنفسه كما لو شيد عليها وعرفها، أو كان بالجهة المختصة كالجهات التي يقيمها ولي الأمر لصيانة الأموال وحفظها من الضائعات، فهذا تدفع إليه لأنه مؤتمن عليها، ((فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ)) طلب العباس الاستثناء ((وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ)) هذا بيان أن الحرم لا يعيذ من ارتكب جناية فيه فإنه إذا قتل أحد أحداً في الحرم من غير حق، فإنه يثبت عليه القصاص، ولذلك قال: ((وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ)) يعني يخير بين أمرين ولو كان ذلك في الحرم، إما أن يودى تدفع الدية وإما أن يقاد أي يقتص منه، وهذا يدل على أن من أتى بما يوجب القصاص في الحرم فإنه يؤاخذ به، ومثله من أتى بجناية تبيح الدم أو تبيح بعضه فإنه يعاقب بذلك، لأنه انتهك الحرمة فعوقب بمكان انتهاكه، ((فَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ)) هذا استئذان منه وبين السبب في قوله: ((فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا))، والإذخر نبات ينبت في مكة وغيرها يستفاد منه في البيوت وفي القبور، أما في البيوت فيُجعل بين الجريد وبين الطين لتقوية البناء، ومثله أيضاً يستعمل في القبور بأن يُجعل بين اللبن لسد ما يكون من الفرج في اللبن المصفوف على الميت، ((فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا الإِذْخِرَ)) صحيح البخاري: بَابُ كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، حديث رقم (2434)، وصحيح مسلم: بَابُ تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلَاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ، حديث رقم (1355) أي استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر كما طلب العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من المصلحة، ويلحق بهذا الاستثناء ما زرعه الآدمي، فإن ما زرعه الآدمي يجوز الانتفاع به ولا يُمنع من أخذه، وألحق بعض أهل العلم اليابس من النبات الذي هلك ويبس، ومثله الكمأة، كل هذا يُستثنى، قالوا أيضاً: ويستثنى ما رعته البهائم بنفسها، فما رعته البهائم بنفسها فإنه لا حرج فيه ولا تُمنع منه وليس مما مُنع بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) نقف على هذا ونكمل غداً إن شاء الله.