خطبة
ربيع الأول
شهر المولد والهجرة والوفاة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واشكروا الله تعالى على ما منَّ به عليكم، من هذا الدين القويم، وهذا الصراط المستقيم، حيث قال جلا في علاه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} المائدة: 3 ، بعث الله نبينا محمدًا، صلى الله عليه وسلم، على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، وعماية من الخلق، فلم يكن في الأرض من يعرف لله حقًّا إلا بقايا من أهل الكتاب، فبعث الله هذا النور المبين، وهذا الرسول الكريم، في قوم لم يسبق لهم عهد برسالة، في قوم ورثوا بعض ما كان عليه خليل الله إبراهيم، من تعظيم البيت الحرام، وإجلال هذه البقعة، وليس عندهم من معرفة الله تعالى، وعبادته شيءٌ يذكر، بل كانوا على جاهلية جهلاء، كانوا على عماء عظيم، كسائر بقاع الأرض، إلا أن الله اصطفى هذه البقعة، فجاءها هذا النور العظيم، هذا المكان الذي عبد فيه الله أولًا، مكة البلد الحرام، أول بيت وضع للناس، منه انبثقت آخر رسالة للناس، آخر رسول بعثه الله تعالى، للناس جاء من هذه البقعة المباركة، ليربط أول الزمان بآخره، {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} آل عمران: 96 ، فيه بعث محمد، صلى الله عليه وسلم، فجاء النور من هذه البقعة المباركة، خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا قومه إلى أكمل دعوة، وإلى أتم كلمة، إلى لا إله إلا الله، دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، لم يكثر عليهم طلبًا، ولم يكثر عليهم فروضًا، بل دعاهم إلى عبادة الله وحده، إلى أن يحرروا قلوبهم من التعلق بغير الله، فعظم ذلك على كثير منهم، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ص: 5 ، فكذبوه صلى الله عليه وسلم، وعاندوه وضيقوا عليه، وسبوه بما سبوه به من الكذب والجنون والسحر، وقد كان حميد السيرة فيهم، لا يعرفون عنه إلا الحق والهدى والخير والبر، فسيرته كانت أعظم شاهدٍ على صدق ما جاء به، كيف لا؟ وسيرته طيبة قبل البعثة، فكملها الله تعالى بالرسالة والنور المبين، والهدي القويم، الذي جاء به جبريل، عليه السلام، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهؤلاء بما جاء، فكذبوه أعظم تكذيب، فضاق على النبي، صلى الله عليه وسلم، الأمر في مكة، فطلب مكانًا يبلغ فيه دين ربه، ويدعو الناس إلى هداية الله عز وجل، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فما كان إلا أن أذن الله تعالى له بالهجرة، بعد أن عزم الكفار على قتله، كما قال جلا في علاه: {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} الأنفال: 30 .
خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد اختار لصحبته، صديق هذه الأمة، وأفضلها بعد نبيها، أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فلحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر في أول خروجهم، بغار في جبل ثور، فكانا فيه ثلاثة أيام، وقد بلغ المشركون مكان الغار، إلا أن الله أعماهم، لما سكن الطلب عنهم، خرج صلى الله عليه وسلم، موقنًا بنصر الله وتأييده، فتبعه من تبعه من المشركين، يطلبونه رغبةً في تحصيل الجائزة، التي وضعتها قريش، لمن جاء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وكان ممن تبع النبي، صلى الله عليه وسلم، سراقة بن مالك، تبع النبي، صلى الله عليه وسلم، ليظفر بتلك الجائزة، فخرج نحوه حتى كاد أن يدركه، فلما اقترب من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عثرت به فرسه، فخر عنها ثم قام فامتطاها، فتبع النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما قرب منه، خر ثانيةً، وحصل ما حصل في المرة السابقة، حتى إنه اقترب في المرة الثالثة، فسمع قراءة النبي، صلى الله عليه وسلم، سراقة الذي خرج يتبع النبي، صلى الله عليه وسلم، اقترب منه إلى درجة أنه سمع قراءة النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم، لا يلتفت إليه، وأبو بكر يكثر الالتفات، خائفًا من إدراكه، يقول سراقة: فلما قربت منهم، ساخت يدا فرسي في الأرض، أي: غاصت يدا فرسه الذي عليه، في الأرض، حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلما زجرتها، واستوت قائمة، خرج لأثر يديها دخان ساطع في السماء، فناديتهما بالأمان، سراقة يؤمن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر بعد أن رأى ما رأى من الآيات، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في قلبي حين لقيت ما لقيت، من الحبس عنهما، أن سيظهر الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخبرت رسول الله، سراقة يقول: أخبرت رسول الله خبر الناس، وعرضت عليه الزاد والمتاع، فقال: لا حاجة لنا، ولكن أخفِ عنا الطلب، يعني ردَّ عنا من يتبعنا من هذه الجهة، فجعلت لا ألقى أحدًا في الطلب إلا رددته، وقلت لهم: كفيتكم هذا الوجه.
فسبحان مقلب القلوب! خرج سراقة أول النهار جاهدًا ليدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأمسى آخر النهار حارسًا لهما، رادًّا للناس عنهما، وقد أعرب سراقة عن سبب ذلك، في أبيات فقال يخاطب أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدًا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنهم فإنني أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله منجز وعده: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة: 40 ، صدق الله فصدقه.
شاع خبر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، في جوانب الصحراء، فعلم به البدو، والحضر، وكان ممن ترامت إليهم الأخبار، وتلقوا أنباء خروج سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، كان من أولئك أهل المدينة، فكانوا يخرجون يرقبون وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشوقون إلى مقدمه الكريم، ومطلعه البهي كل صباح، يمدون أبصارهم وقلوبهم إلى حيث تنقطع الأنظار، يرقبون مجيء خير الأنام صلى الله عليه وسلم، فإذا اشتد بهم الحر، عادوا إلى بيوتهم.
وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، عام ثلاثة عشر من البعثة النبوية، خرج المهاجرون والأنصار، خرجوا على عادتهم، يرقبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حميت الشمس، رجعوا كعادتهم، فما لبثوا إلا أن سمعوا هاتفًا يصيح، ويصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة - وهو اسم للأنصار - هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرون. أي: هذا حظكم ونصيبكم، الذي تنتظرون، فارتجت المدينة تكبيرًا، ولبثت طيبة حلة البهجة والسرور، وخرج أهلها يستقبلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، خرجوا للقائه صلى الله عليه وسلم، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، أحاطوا به من كل جانب، والسكينة تغشاه والوحي يتنزل عليه، صلى الله عليه سلم، {فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} التحريم: 4 .
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة مسجد قباء، وهو أول مسجدٍ عُمر في الإسلام، بعد البعثة، بناه في بني عامر، وهذا أول مسجد أسس على التقوى، ثم نزل صلى الله عليه وسلم في بني النجار عند أخواله، وبنى مسجده الذي بقي فيه حتى مات، صلى الله عليه وسلم. آخى بين المهاجرين والأنصار، كانت هجرته من معالم صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فصارت المدينة عاصمة أهل الإسلام، ودار الهجرة، ومأرز أهل الإيمان، فالحمد لله حمدًا كثيرًا، طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
***
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، والزموا أمره، فإن تقواه سبب السعادة والنجاة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران: 102 ، عباد الله استمعتم إلى طرف من نبأ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت في هذا الشهر، عام ثلاثة عشر من بعثته، صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتدبروا ما في هذه الهجرة، وهذا النبأ العظيم من العبر والعظات، فإن الله تعالى أنجى رسوله من مكر أعدائه، وأذن بظهور هذا الدين، بهذه الهجرة، ونصره نصرًا عزيزًا ومكنه تمكينًا كبيرًا، فكانت هجرته مفرقًا عظيمًا، ونقطة تحول في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يعلم أن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فمهما بلغ كيد الكفار والفجار لإخماد هذا الدين، ومنع ظهور أنواره؛ فإن الله تعالى قد أذن بظهوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} الأنفال: 30 . إن أعداء الله، مهما بلغوا من القوة في المكر، والشدة في الكيد، والرصانة في التخطيط، لإطفاء نور الله تعالى، وأذى عباده، إلا أن الله تعالى يجري أمره، على ما شاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} المجادلة: 21 .
أيها المؤمنون، هذا الشهر، شهر ربيع الأول، كان محلًّا لأحداث كبار، غيرت وجه التاريخ، ففيه ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قول كثير من أهل العلم، ووصل المدينة مهاجرًا في هذا الشهر، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي من السماء، وقد مضى السلف الصالح، الذين هم بالكتاب عالمون، وبالسنة مستمسكون، على عدم إحداث شيء في هذا الشهر، من الأعياد والمناسبات، التي يجتمع الناس فيها، لذكر سيرته صلى الله عليه وسلم، لم يحدثوا شيئًا من ذلك، فلا أعياد، ولا مناسبات، ولا موالد، ولا أفراح، بل هو كسائر الشهور، كما أنهم لم يحدثوا شيئًا لوفاته، فلا مأتم، ولا أحزان، ولا بكاء، ولا عويل، لموته صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي من السماء، بل مضوا رحمهم الله، على عد هذا الشهر، كغيره من الشهور، فلما ضعفت العلوم في الناس، وانتشر فيهم الجهل، وخفي فيهم نور النبوة، حدث ما حدث، في القرن الرابع من الهجرة، حيث أحدث العبيديون الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فشاعت هذه البدعة، بعد أن زالت دولة العبيدين، شاعت في المسلمين إلى يومنا هذا، وفيه يحتفل كثير من المسلمين، بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في هذا على درجات، بين بدعة وبين شرك، فالذين يحدثون موسمًا، يبتهجون فيه، ويوزعون فيه الحلوى، ويقيمون فيه الأطعمة، هؤلاء وقعوا في بدعة.
وأما أولئك الذين ينشدون القصائد الشركية، الكفرية، التي يعظمون فيها النبي، بما لا يليق إلا بالله، ولا يكون إلا له، فهؤلاء قد وقعوا في الشرك، وبين هذا وذاك، من أنواع الانحراف، من الغناء والتبرج والسفور، ورقص الرجال والنساء في بعض الموالد، ما يعرفه العارفون بهذه البدع، لا أقول كل الموالد، على هذا النحو، بل منها ما فيه هذه الصورة، يفعلونه تقربًا إلى الله، وظنًّا أنه تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، يخالفون أمره ويدَّعون محبته، وهذا كذب وزور.
فخير الأمور السالفات على الهدى *** وشر الأمور المحدثات البدائع
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، ارزقنا الاستمساك بسنة نبيك، واملأ قلوبنا بمحبته، واتباع سنته، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اهدنا سبل السلام، وخذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك، واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة الأمر إلى ما تحب وترضى، وفقهم إلى ما فيه خير العباد والبلاد، اللهم اجمع كلمتنا على الحق والهدى، ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا يا رب العالمين.
اللهم اشفِ ولي أمرنا عبد الله بن عبد العزيز، اللهم اشفه وعافه، والبسه ثوب الصحة والعافية يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك له شفاءً عاجلًا، بقوتك يا غفور يا رحيم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى.
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.