الشيخ المصلح يرد على من ينكر عذاب القبر
المذيع: يستشهد بعض منكري البعث بقول الله -عز وجل-: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52). يقول: ينكرون بها عذاب القبر، ما هو معنى الآية هذه؟
الشيخ: قوله تعالى فيما قصَّه عن أهل الكفر الذين ينكرون البعث أنهم إذا قاموا من قبورهم، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52). للجواب عمَّا استدل به القائلون؛ يعني أنهم كانوا راقدين وليسوا مُعذَّبين، وهذا وجه الاستدلال بالآية أو هذا وجه الاحتجاج بالآية، ولكن هذا ليس بصحيح، فالقرآن واضحٌ في دلالته، عندما ينظر المؤمن للآية ينبغي أن يفهمها بمجموع ما جاء في كتاب الله -عز وجل-.
الله تعالى يقول عن فرعون في مُحْكَمِ كتابه، قال جل وعلا: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} سورة غافر: الآية رقم (46). {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} سورة غافر: الآية رقم (46). يعني في زمن الدنيا، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} سورة غافر: الآية رقم (46). إذًا ذكر عذابًا وهو العرض على النار في الغُدُوِّ والعشي، ثم الدخول يكون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} سورة غافر: الآية رقم (46). ودلائل القرآن على عذاب القبر قائمة، فلما تأتي مثل هذه الآية التي قد يَتَوَهَّم المتوهم أنها تدل على أنه ليس ثمَّة عذاب في الآخرة فهنا نحتاج إلى دفع هذا التوهم ببيان ما هو مُحكَم، فالنصوص في الكتاب والسنة دلالتها على عذاب القبر لا ريبَ فيها، لا يرتاب فيها مؤمن فقد ثبتت ثبوتًا قطعيًّا بتواترها في كلام الله -عز وجل- ودلالته، وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد دلَّ على عذاب القبر أحاديثُ عديدة، ولذلك أجمع أهل العلم على أن في القبر عذابًا وأنَّ في القبر نعيمًا.
وعذاب القبر الذي يكون فيه على نوعين، عذاب ممتد وعذاب منقطع، العذاب الممتد هو العذاب الذي يكون لأهل الكفر، والعذاب المنقطع أو الذي قد ينقطع هو عذاب أهل الإيمان. لكن من رحمة الله بأهل الإيمان الذين يُعَذَّبون في قبورهم أن ما يصيبهم في عذاب القبر هو حطٌّ لسيئاتهم، يكفِّر الله تعالى به من خطاياهم.
ولكن ما الجواب على ظاهر هذه الآية التي يدل على أنهم كانوا راقدين، {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52) ؟
الجواب: للعلماء في هذا قولان: القول الأول: قالوا: إنه بين النفختين نفخة الصور الأولى التي يموت فيها الناس جميعًا ولا يبقى على الأرض حيٌّ، والنفخة الثانية التي يقوم فيها الناس من قبورهم حفاةً عراةً غرلًا، بين هاتين النفختين لا يُعذَّب أهل القبور، فهي رقدة يرقُد فيها أهل القبور، وهي التي يقول أهل الكفر إذا قاموا من قبورهم {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52). وهو الفترة التي انقطع عنهم فيها العذاب، هذا هو القول الأول، وقال به جماعةٌ من أهل العلم.
القول الثاني في توجيه هذه الآية أن ما يشاهده الكفار من هول البعث والنشور وشدائد يوم العرض والوقوف بين يدي الله يذهلهم عن كل ما كان من عذابٍ سابق، فأهوال يوم القيامة تفوق في التصور والخيال ما كان قبلها في الحياة الدنيا، أو حتى في الحياة البرزخية من أنواع العذاب، ولذلك يتفاجَئون، يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52).
وهناك وجهٌ آخر وهو وجهٌ ثالث في توجيه الآية، أن يقال: إنه ليس في الآية نفي لما كان، هو مرقدهم حقيقة، أنهم رقدوا، لكنها رقدة عذاب، وليست رقدة هناء ولا نعيم، وأنت الآن تشاهد أنا وإياك ننام، وأنا أقوم في غاية الابتهاج والسرور؛ لأني رأيت ما يسُرُّني في منامي، الآخر الذي رأى كابوسًا أو رأى حلمًا مزعجًا، يقوم متكدِّرًا. أليسا ناما نومةً واحدة؟! أليسا كانا راقدين؟! فما الذي جرى لهذا؟ وما الذي جرى لذاك؟ ما جرى لهذا وذاك هو ما كان على أرواحهما، ليس على الأبدان، وبالتالي ما يكون في القبر هو رقود، لكن جرى ما جرى على الأرواح، وهم في الحياة الدنيا، فكذلك في عذاب القبر ونعيمه، يجرى ما يجري، وهذا لا يتنافى، من أنهم كانوا راقدين، كما قال الله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} سورة يس: الآية رقم (52).
وبهذه الأجوبة الثلاثة يزول الاشتباه، وأنا أنبِّه بغَضِّ النظر عن هذا التوهم الذي يتوهمه بعض الناس في المعارضة بين آيات الله، أن كلام الله لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال جل وعلا: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} سورة فصلت: الآية رقم (42). وانظر إلى ختم الآية باسمين يدلان على عظيم إتقان هذا الكتاب {حَكِيمٍ} سورة فصلت: الآية رقم (42). والحكيم هو المتقن الذي لا يتخلل كلامه شيءٌ من الاضطراب، أو من التناقض، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}سورة هود: الآية رقم (1). جلَّ في علاه وهو {حَمِيدٍ} سورة فصلت: الآية رقم (42). أي محمود، سبحانه وبحمده له غاية الحمد. على ماذا يُحمد إذا كان كلامه متعارضًا؟، يُحمد على أن كلامه لا يمكن أن يتطرق إليه تعارض، ولا يمكن أن يُبطل بعضه بعضًا، لكن الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض هؤلاء يقال لهم: أنتم لن تفهموا كلام الله، نظرتم إلى نصٍّ وأغفلتم نصًّا، وبالتالي لا يمكن أن يكون ذا العين الواحدة مُبصِرًا كالذي ينظر للنصوص بعينين يجمع فيها بين النصوص، ويتلمس مواطن الهدى من كلام رب العالمين، يوقن أنه ليس في كلام الله ولا في كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- تعارضٌ ولا تضادٌ.
وأقول: هؤلاء الملحدون، وهؤلاء المكذبون، وهؤلاء المعاندون، لدلالات النصوص، هؤلاء يُرَدُّ عليهم بما استدلوا به، فإنه ما من أحدٍ يستدل بآية من كلام الله على باطل إلا ومن إعجاز القرآن أن في الآية ردًّا على باطله، فليس في كلام الله إلا الحجج والبراهين، لكن يا أخي لما تأتي بأنقى الذهب مسبوكًا وتقدمه لشخص، وتقول له: انظر هذا، ما رأيك في هذه القلادة أو هذا السوار، وهي في غاية الخلاص والنقاء ذهبًا، ويقول: والله ما أدري هذه إكسسوارات، ولا هذه مزيفة، ولا هذا نحاس، المشكلة ليست في الذهب، المشكلة فيمن ليس عنده معرفة ولا خبرة في التمييز بين المغشوش والصحيح.