الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
نعمة الله ـ تعالى ـ علينا بهذا الدين نعمة عظمى لا يقدر قدرها إلا من عرف الضلالات والعمايات التي يعيش فيها من عرى قلبه وعميت بصيرته عن نور الإسلام الذي يشرح الله به الصدور، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾[الأنعام:125].
الشيطان في صده عن الناس له طريقان:
الطريق الأول: أن يصدهم عن السبيل بإبعادهم عن الإقبال على الله وعلى الدار الآخرة.
والطريق الثاني: هو أن يزيدهم بالخروج عن الصراط المستقيم بغلوٍ وانحراف وإفراط في جانب من جوانب الديانة.
وفي كلا الصورتين هو يحقق غرضه، لا غرض له إلا الصد عن سبيل الله، كما قال الله ـ تعالى ـ فيما أخذه الشيطان على نفسه ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾[الأعراف:16-17]، فهو يصد الناس عن هذا السبيل.
من أعظم السوءات التي حصل بها الصد عن سبيل الله البدع بأنواعها، فإنها زيادةٌ في ما جاء الله ـ تعالى ـ به ورسوله من الدين القويم الذي هو الصراط المستقيم الذي هو الوسط الذي قال فيه ـ جل في علاه ـ:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة:143].
من أعظم ما حصل به الخروج عن الصراط المستقيم الخوارج، ولذلك لم يأتي في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذير ولا تنفير ولا بيان خطورة أمر ولا طريقة معالجة كما جاء في شأن هذه البدعة، فإنه لم يحفظ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدعةٍ من البدع الحادثة على مرَّ العصور في أمة الإسلام كما حفظ في بدعة الخوارج، ذلك أن نابتتهم برزت في ثنايا عهده صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا من نصحه لأمته أن بين لهم ما يحذر عليهم منه، وذلك بذكر أعظم الضلالات التي تحرفهم عن الحق والهدى، فنابتة الخوارج كانت في قصة عبد الله بن الخويصرة الذي جاء فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معترضًا على قسمةٍ قسمها في مال الغنائم بنور الله وبما أوحاه الله ـ تعالى ـ عليه، قال: اعدل يا محمد، قال: «ألا تأمنني وأنا أمين من في السماء»، ثم قال خالد: ألا أقتله يا رسول الله، قال: «لعله أن يكون يصلي»، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج من ضئضئ هذا» يعني من عقبه، والعقب هنا قد يكون العقب الفعلي أو العقب الفكري.
«من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وعبادتكم إلى عبادتهم وصيامكم إلى صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»صحيح البخاري (4351)، وصحيح مسلم (1064)، وهذا أحد الأحاديث التي جاء فيها توصيف هذا الحدث؛ لأنه أحيانًا يقوم شخص بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا ما قام إلا بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يتذرع يلبس ثوبًا آخر من ثياب النصح كالجهاد في سبيل الله فيقاتل أو يفسد تحت رايةٍ صحيحة، راية في الأصل صحيحة لكنه نزلها على غير منزلها ووضعها في غير موضعها.
الذين خرجوا على عثمان ـ رضي الله عنه ـ وقاتلوه كانوا يدعون النصح للأمة والإصلاح وتعديل المسار، رفعوا راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد حتى آل بهم إلى أن قتلوا خليفة من الخلفاء الراشدين الذين زكاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومات وهو عنهم راضٍ، كما أنهم لم يقتصروا على ذلك بل قتلوا غيرهم واستباحوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك تكرر الوجه القبيح لهذا الفكر في عهد علي ـ رضي الله عنه ـ فإنه لما رضي بالتحكيم وهو جمع كلمة المسلمين والإصلاح بين أهل الشام وأهل العراق خرج عليه فئة ممن كان معه فقالوا: عليٌ كفر لماذا؟ لأنه حكم بغير الله، رضي بتحكيم غير الله، ولذلك يسمون المحكمة، وهذه الراية رفعوها إن الحكم إلا لله.
ولذلك لما سمع علي ـ رضي الله عنه ـ لما سمع هذه المقالة قال: كلمة حق أريد بها باطل، إنهم يرفعون شعارات الحكم لله، يرفعون شعارات ترك موالاة الكفار، يرفعون شعارات متنوعة وهي صحيحة في ذاتها لكن تزييلاتها على وجهٍ غير صحيح كما قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: عمدوا إلى أن انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار فأنزلوها على أهل الإسلام.
وهذا ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان وتوصيف لما نشاهده من هذه التصرفات العبثية لهؤلاء الذين يدعون جهادًا ويتزرعون به لإفساد الإسلام والإتيان عليه من أصوله والصد عنه وإخفاء نوره، يقول: «يقتلون أهل الإسلام ويزرون أهل الأوثان»صحيح البخاري (3344)، وصحيح مسلم (1064) هذا حقيقة ما يفعله هؤلاء.
ما نراه من الجماعات التكفيرية الغالية التي تتربص بهذه البلاد في شمالها وفي جنوبها وتسعى إلى زعزعة أمنها، ماذا تسعى؟ هل تعلي كلمة الله عز وجل؟ هل تنصر إسلامًا؟ هل نصر دينًا؟ هل تعلي حقًا؟ ماذا تفعل؟ إنها تقتل أهل الإسلام وتزر أهل الإسلام، ولذلك تجدهم يتخبطون مرةً يتوجهون إلى الأكراد في الشمال فيقاتلونهم، ومرةً يتوجهون إلى الأبرياء من السوريين فيذبحونهم، ومرةً يتوجهون إلى البلاد السعودية حدودها إما تهديدًا وإما فعلًا كما جرى منهم في الاثنين الماضي عندما اعتدوا على مركزٍ في الحدود الشمالية.
هذا كله يدل على التخبط، هؤلاء تركوا جهادًا حقيقيًا وهو جهاد من هو عدوٌ للإسلام ظاهرًا وباطنًا وتوجهوا إلى أهل الإسلام، لذلك قال بعض أهل العلم: لا يعرف هؤلاء من الجهاد إلا جهاد أهل القبلة الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يقتلون أهل الإسلام ويزرون أهل الأوثان»صحيح البخاري (3344)، وصحيح مسلم (1064).
ولذلك أقول: ينبغي أن نعرف خطورة هذا الفكر، هذا الفكر في غاية الخطورة، لهذا البداءة به تحذيرًا وتنفيرًا وبيانًا لسوءته أعظم من الحديث عن غيره؛ لأن هؤلاء يأتون إلى الإسلام من أصله ويقوضون أصوله ويشوهونه من داخله، بخلاف البلاء الذي يأتيك من الخارج، فأنت تسعى في إصلاح، تسعى في نشر ضياء، لكن هؤلاء أبدى بالمعالجة.
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحفظ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تهدد قومًا بالقتل كما تهدد الخوارج قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد»صحيح البخاري (3344)، وصحيح مسلم (1064) ، أعطني كلمة واحدة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتال المشركين والكفار قال فيها مثل هذه المقولة، هذا يبين حجم الخطر الذي يشكله هؤلاء على الإسلام.
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي جاء بهذا النور وهو أعلم الناس بما يهدده وبما يشكل خطورة عليه، هذا الفكر عبثي، ولذلك هم ماذا حققوا بهذه العملية؟ وبغيرها من العمليات على مر الاعتداءات التي أجروها على بلادنا، إنهم لم يحققوا إلا انكشافًا لمخططاتهم وبيانًا لسوء حالهم، والتفافًا للناس حول جماعتهم وحول قيادتهم وحول علماءهم.
كل هذه مكاسب تحققت وهي عكس ما يريدون، لذلك ينبغي لنا أن نعرف أن التحذير من هؤلاء لا يقتصر فقط على جانب واحد، وأنا أدعو كل أصحاب التأثير في الإعلام وفي التعليم أن تطرح برامج فاعلة لتحذير النشأ من هذه الأفكار التي تعلي راياتٍ صحيحة وهي كاذبة فارغة، رايات جوفاء تختطف قلوب الشباب الحائر الضائع الذي عزل عن علمائه وشكك في ولاته، ووجه الاتهام لمجتمعه حتى أصبح يشك في كل من حوله.
ودليل أن هذا الفكر يقتل نفسه بنفسه ما نسمعه من انشقاقات بينهم، وما نسمعه من تسلط بعضهم على بعض في أنواع من القتل والتكفير المتبادل الذي أهل السنة منه براء وهو يبين ويكشف خطورة هذا المنهج، هذا جزء مما يقال في هذا الحدث، أسأل الله تعالى أن يغفر لمن قضى من رجال أمننا وأن يحفظ بلادنا وأن يثبتنا على الحق وأن يقينا شر أنفسنا وأن يقي شبابنا خطورة هذه الأفكار المنحرفة.
المقدم: بارك الله فيكم فضيلة الشيخ.