الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فذكر الله -أيها الإخوة- أعظم ما تنشرح به الصدور وتطيب، ذكر الله جل وعلا شفاء الصدور ونور البصائر وسكون الفؤاد، قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: 28..
إذا مرِضنا تداوينا بذِكركمُ *** ونترك الذكر أحيانًا فنَنتكِسُ
إن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الله تعالى شيء يفوق الحصر، فهو أعظم الذاكرين لربه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، كان ذاكرًا لله جل وعلا مذ أن قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} المدثر: 1 – 3.. ذاكرًا لله جل وعلا في قيامه وقعوده، في ذهابه ومجيئه، في سفره وإقامته، فهو الذي بلغ الغاية في ذكر الله تعالى في الأولين والآخرين.
إن المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ذكره شيء كثير، إلا أن كلمة من هذا المحفوظ تلفت الأنظار وتجذب الأسماع لكثرة ترددها وتكرارها، ولوجازة لفظها، وعِظم معناها؛ إنها كلمة «الله أكبر»..
«الله أكبر» فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله. روى الإمام مسلم في صحيحه رقم (382). عن أنس بن مالك قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى الْفِطْرَةِ».
شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمة كلمة الفطرة.
اللهُ أكبرُ مِلء السمعِ رددها *** في مَسمَع البِيد ذاك الذَّرُّ والحَجَرُ
«الله أكبر» كلمة خير من الدنيا وما فيها، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها.
«الله أكبر»كلمة جامعة لمعاني العبودية، دالة على أصول عبادة الله تعالى وفروعها.. «الله أكبر» أصدق كلام وأعذبه وأحلاه.. «الله أكبر» أبلغ لفظ يدل على تعظيم الله تعالى وتمجيده وتقديسه.. «الله أكبر» كلمة جمعت الخير، ففيها الشهادة لله تعالى بأنه أكبر من كل شيء، وأنه سبحانه أجل من كل شيء، وأنه تعالى أعظم من كل شيء.
روى الإمام أحمد في مسنده رقم (19381)، والترمذي في جامعه رقم (2953). من حديث عَدِي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حينما دعاه إلى الإسلام: «يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، مَا أَفَرَّكَ؟» أي: ما الذي جعلك تهرب وتفر؟ «أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ؟ مَا أَفَرَّكَ؟ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ شَيْءٌ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟».
إن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يبين لنا على ماذا تقوم دعوته، إنها تقوم على إفراد الله تعالى بالعبادة وتعظيمه جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء ذاتًا، هو سبحانه وبحمده أكبر من كل شيء قدرًا، هو جل وعلا أكبر من كل شيء معنىً وعزة وجلالًا.
رأيتُ اللهَ أكبرَ كل شيءٍ*** محاولةً وأكثرَهم جنودَا
«الله أكبر» -أيها الإخوة- عظمة لا تسعها عبارة.. «الله أكبر» كلمة تبين شيئًا من عظمة ربنا الجليل الذي لا يحيط به وصف الواصفين، «الله أكبر» {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الجاثية: 37..
الله أكبر.. هو العظيم الممجد سبحانه وبحمده، ذل له كل شيء، فكل شيء خاضع له وهو فقير لديه، عزيز لا يغلب، حكيم في أقواله وشرعه.. الله أكبر.. {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} البقرة: 107..
الله أكبر {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} يونس: 3..
الله أكبر {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} الرعد: 2..
أيها الإخوة..الله أكبر {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فاطر: 41..
الله أكبر {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص: 70..
الله أكبر {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الشورى: 12..
الله أكبر {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاطر: 2..
الله أكبر {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}المؤمنون: 88..
الله أكبر، تبارك جل وعلا {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الملك: 1..
تبارك الله سبحانه وبحمده، له ملك السماوات والأرض؛ كما قال جل وعلا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران: 26..
الله أكبر {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} غافر: 15..
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} غافر: 65..
أيها الإخوة الكرام.. «الله أكبر» كلمة جاء الأمر بها في أول بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأول إرساله؛ فإن الله جل وعلا قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} المدثر: 1 - 3..
الله أكبر.. كلمة أمر الله بها أهل الإيمان في آية وصفها أهل العلم بأنها آية العز، فقال جل وعلا: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} الإسراء: 111. أي: عظمه جل وعلا تعظيمًا، وصفه بأنه سبحانه وبحمده أعظم من كل شيء.
الله أكبر.. كلمة يُدعَى بها أهل الإسلام إلى أعظم أعمالهم، وهي الصلاة، وإنها تلك الكلمة التي يرددها المؤمنون في مآذنهم وتدوي بها بلدان المسلمين.
الله أكبر ما أحلى النداء بها *** كأنه الرِّي في الأرواح يُحييها
الله أكبر.. كلمة يفتتح بها العبد لقاءه بربه، يكررها في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده، وفي سائر تنقلاته؛ ليحضر في قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فإذا قالها المؤمن وهو حاضر الفؤاد في صلاته امتلأ قلبه هيبة من الله تعالى، وإجلالًا لمولاه، وذلًّا له سبحانه وبحمده، فإذا امتلأ قلب العبد بذلك فلا تسأل عن صلاته، إنه في مناجاة عظيمة في لقاء برب الأرض والسماء، ينزل به حوائجه، يدعوه كشف الضر ويسأله خيري الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام.. إن العبد إذا تدبر هذه الكلمة في وقوفه بين يديه كان لقوله لهذه الكلمة أثر بالغ، حتى إن من السلف من كان إذا قال في صلاته: الله أكبر انخلعت القلوب هيبة من تكبيره لعظم ما قام في قلبه من تعظيم الله تعالى.
فمن قام للتـكبير لاقته رحمة *** وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته *** نجيًّا فيا طوباه لو كان يخشع
أي: فيا حظه ويا سعادته وانشراحه لو كان ممن يخشع لله تعالى في صلاته وفي تكبيره.
الله أكبر.. أيها الإخوة.. كلمة كان الصحابة يعرفون بها انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبيرأخرجه البخاري (842)، ومسلم (583)..
الله أكبر.. هذه العبادة يُدعَى إليها بالتكبير، وتُفتتح بالتكبير، ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لا يعرف انقضاء صلاته إلا بالتكبير كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا يدل -أيها الإخوة- على أن ذكر الله تعالى أكبر من كل شيء، فهو أفضل الطاعات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكر الله تعالى، فهو سر الطاعات وروحها، وقد قال الله تعالى في هذه الصلاة العظيمة التي يقبل فيها العباد على ربهم: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}العنكبوت: 45..
الله أكبر.. كلمة أمر الله بها أهل الإسلام شكرًا على إنعامه على توفيقه إلى الهداية، وعلى إنعامه بأن دل القلوب على معرفته، قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} البقرة: 185. فأعظم ما تقابل به نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم تكبير الله وإجلاله وتعظيمه، وقد قال الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} البقرة: 185.أي: لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحب ويرضى من الأعمال سبحانه وبحمده.
أيها الإخوة الكرام.. الله أكبر.. كلمة ترتعد لها قلوب أعداء الله عز وجل، وعلى رأسهم زعيمهم وكبيرهم إبليس الشيطان، أعاذنا الله منه، لما لهذه الكلمة من النفاذ في نفوس هؤلاء ما لا يطيقون معه بقاء، إنها تحرقهم، إنها تزلزلهم، إنها تأتي على مقاتلهم، كلمة تخنس بها نفوس هؤلاء، يخنس الشيطان وجنده، يخنس الشيطان وأولياؤه، روى البخاري رقم (608). ومسلم رقم (389). في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إذا سمِع النداء للصلاة أدبرَ وله ضُراط، حتى لا يسمع صوته، أي: حتى لا يسمع صوت المؤذن فإذا سكت، أي: المؤذن، رجع، فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس. هكذا أثر هذه الكلمة في الشيطان؛ أنها كلمة تزلزل كيان أعداء الله تعالى، وعلى رأسهم كبيرهم ووليهم الشيطان الرجيم، أعاذنا الله منه.
الله أكبر.. كلمة تقمع الشيطان وفعله، ولهذا كان تكبير الله عز وجل له أثر عظيم في إطفاء الحريق؛ كما جاء في ذلك الأثر، وإن كان ضعيفًا، إلا أن معناه مما قبله جماعة من أهل العلم، وقد عُرف ذلك بالتجربة؛ كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله، فإن التكبير له أثره في إخماد النار، وذلك أن الله جل وعلا أكبر من كل كبير، والشيطان مادته من النار، فهو يحب الفساد ويسعى في الأرض نشرًا لهذا الفساد، والتكبير يقمعه، ولذلك ذكر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرِيقَ فَكَبِّرُوا؛ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِـُئُه» أخرجه الطبراني في الدعاء (1002)..
الله أكبر.. كلمة تنخلع لها قلوب الجبابرة.
الخطب جلجل والعدو تمادى *** والله أكبر ترهِب الأوغادا
الله أكبر.. كلمة -أيها الإخوة- إذا صدق فيها العبد كان له أثر عظيم ومضاء كبير.
روى الإمام مسلم في صحيحه رقم (2920). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا...». فسلاحهم ذكر الله تعالى؛ توحيده وتكبيره.
هكذا يكون الذكر الصادر من قلب صادق مؤثرًا، فيكون به خذلان الأعداء والظهور عليهم، ولو لم يكن سيف ولا سنان؛ وقد حدثنا بعض من اشتغل بقتال الصرب لما كانوا يقاتلون مع إخواننا في البوسنة أنهم كانوا إذا أتوا مكانًا فيه أعداء الله تعالى من المقاتلين الذين يقاتلون المسلمين، فكبروا، كان ذلك مؤثرًا أثرًا بالغًا في نفوس العدو، حتى إنه يبلغ في بعض الأحيان من الأثر والنفاذ في نفوس هؤلاء أن يتركوا سلاحهم وعتادهم ويفروا ناجين بأنفسهم، وما ذاك إلا لأن الله تعالى نصير أهل الإيمان.
الله أكبر فالإله نصيرُنا *** الله أكبر من صَدَى الطغيان
أيها الإخوة الكرام..الله أكبر.. يقولها العبد المؤمن فيستولي على قلبه كبرياء من له الكبرياء في السماوات والأرض، الله أكبر.. يقولها العبد المؤمن فيعظم في قلبه قدر ربه جل وعلا، ويعظم في قلبه قدر إلهه الذي يعبده، فلا يكون في قلبه أحد أكبر من الله تعالى. إن العبد إذا قال هذه الكلمة امتلأ بها قلبه إن كان صادقًا في قوله، فخرج من قلبه كل كبر، وكل غرور، وكل رياء، وكل ارتفاع، وكل تعظيم لغير الله تعالى.
نداء في القلوب له صداه *** يجلجل كالعواصف يوم رعد
أيها الإخوة الكرام..الله أكبر.. كلمة يعلو بها المؤمن على كل علي من الخلق، ولذلك شرع الله تعالى تكبيره في كثير من المواطن؛ من الأماكن والأزمان والأحوال والرجال التي يمتلئ فيها قلب الإنسان بتعظيم غير الله تعالى، فجاء التكبير عند علو الأماكن العالية، وجاء التكبير عند رؤية أمر يفرح به ويسر، فيكون التكبير خافضًا لعظم كل عظيم غير الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء جل وعلا، وهو أعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.
الله أكبر.. كلمة عنت لصاحبها الوجوه سبحانه وبحمده، قال الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم رقم (2620). من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزُّ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ».
أيها الإخوة الكرام.. إن العظمة حق الله تعالى، إن الكبرياء له جل وعلا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» أخرجه مسلم (91).؛ لأن الكبر ينافي حال العبد؛ فإن حال العبد أن يكون ذليلًا صاغرًا لله تعالى، فإذا دب إلى قلبه شيء من الكبر فقد نازع الله تعالى شيئًا من صفاته التي اختص بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «الْعِزُّ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ».
أيها الإخوة الكرام..الله أكبر، ذلت لعظمته سبحانه وبحمده السماوات والأرض ومن فيهن، الله أكبر، خضعت لعظمته الجبابرة، وذل لعزه سبحانه وبحمده كل عزيز، ألم تسمع قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الحج: 18. .
ألم تسمع قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} مريم: 93. .
مَليكٌ على عرشِ السماءِ مُهيمِنٌ**** لِعِزَّتِه تعنو الوُجوهُ وتسجُدُ
الله أكبر.. كلمة تورث العبد تعظيم ربه ومولاه، وذلك من أعظم القربات وأجل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى؛ أن يعظمه، فإن تعظيم الله تعالى قوام التوحيد؛ كما قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه**** مع ذل عابدِه هما قطبانِ
فمن لم يحقق التعظيم في قلبه لم يقم له توحيد ولا إيمان.
أيها الإخوة الكرام.. الله أكبر.. كلمة تقدح في قلب العبد ضياء يحصل به تعظيم رب العالمين، كيف لا وليس شيء أعظم من الله تعالى؟ قال سبحانه وبحمده: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الشورى: 5..
أيها الإخوة الكرام.. إن السماوات تكاد تتشقق وتتفطر من عظمة الله تعالى، فكيف تذهل القلوب عن عظمة الرب جل وعلا؟ الله أكبر.. كيف تذهل القلوب عن عظمة رب قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر: 67..
إن الله سبحانه وبحمده أخبر في هذه الآية عن قوم -وهو حال أكثر الناس -قصروا في تعظيمه، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: لم يعظموه حق تعظيمه، لم يعظموه التعظيم الواجب له سبحانه وبحمده، فماذا كان من هذا القصور في التعظيم؟ كان أنواع من الضلال وأنواع من الشرك، وقد دل الله سبحانه وتعالى على عظيم قدره بقوله جل وعــــلا: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
روى البخاري رقم (7451). ومسلم رقم (2786). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ: أَنَا المَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الزمر: 67..
والله أكبر عرشه وسِع السما *** والأرض والكُرْسي ذا الأركان
وكذلك الكرسي قد وسع الطبا *** ق السبع والأرضين بالبرهان
الله أكبر ولا إله إلا هو الحميد المجيد.
وروى البخاري رقم (7412). ومسلم رقم (2788). في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟».
فالكل مفتقر إليه لذاته *** في أسر قبضته ذليل عانِ
سبحانه وبحمده.
أيها الإخوة... الله أكبر.. كلمة عظيمة، كيف تذهل القلوب عن معناها من تعظيم الله تعالى وقد قال الله تعالى لعباده: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} نوح: 13. ما الذي يجعلكم لا تعظمونه سبحانه وبحمده حق تعظيمه؟ مالكم تعاملون ربكم معاملة من لا يخشاه ولا يخافه ولا يرهبه ولا يعظمه؟ قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}: ما لكم لا تعرفون لله حق عظمته؟
والله أكبر من يخاف جلاله *** أملاكه من فوقهم ببيان
أيها الإخوة الكرام..الله أكبر فوق عباده، الله أكبر قاهر فوق عباده سبحانه وبحمده، وقد قال الله تعالى في بيان عظيم قدره جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18.. فالله سبحانه وتعالى فوق عباده، يصرِّف شئونهم، يدبر أمورهم، لا ملجأ منه إلا إليه، فالمفر إليه سبحانه وبحمده، فإذا قام العباد بحقه جاءهم الله تعالى بكل خير، وأمدهم بكل فضل، وأعانهم على كل بر، وإذا قصروا في ذلك كان ذلك سببًا لكثير من الضلال والفساد الذي يقع في حياة الناس في شئونهم الخاصة، وفي شئونهم العامة، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الروم: 41. .
الله أكبر.. كلمة تورث قلب العبد تعظيم شعائر الله تعالى، ومَن عظم شعائر الله وما عظمه الله تعالى فهو المؤمن، فإن العبد إذا صدق في تعظيمه لربه عظم كل ما يعظمه الله تعالى، قال جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج: 32.. أي: إن من عمر قلبه بتعظيم حرمات الله تعالى، وبتعظيم ما عظم الله تعالى من الأشخاص، ومن الأزمان، ومن الأمكنة، ومن الأحوال؛ كان ذلك دليلًا على صلاح قلبه وتقواه، وقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الحج: 30..
المؤمن المعظم -أيها الإخوة- لشعائر الله تعالى هو القائم بأمر الله تعالى؛ طاعة له فيما أمر، واجتنابًا عما نهى عنه وزجر، ومن قام بطاعة الله تعالى فتح له أبواب الخير، وفتح له أبواب الإنابة، وفتح له أبواب القيام بحقه سبحانه وبحمده، وفتح له من أبواب السعادة والانشراح والاطمئنان ما لا يدركه غيره.
أيها الإخوة الكرام..إن من علامات تعظيم العبد لربه تعالى أن يعظم شعائره؛ كما سمعنا في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج: 32..
ومن تعظيم الله تعالى أن يعظم العبد حدود الله تعالى في نفسه، فلا ينتهك حدًّا من حدود الله، ولا يقع فيما حرم الله تعالى، ولا يقصر في شيء مما أوجبه الله تعالى عليه، بل تجده مسابقًا لطاعة الله تعالى، عاملًا بما يرضيه سبحانه وتعالى، مجتنبًا كل ما نهى الله عنه ورسوله.
أيها الإخوة الكرام.. إن العبد إذا صدق في تعظيم شعائر الله تعالى وجدت عنده غضبًا لحدود الله تعالى إذا انتهكت محارمه سبحانه وبحمده، فتجد قلبه حزينًا منكسرًا إذا عُصي الله تعالى في أرضه ولم يقم بما أمر به الله تعالى؛ من حفظ حدوده، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
روى مسلم رقم (2328). من حديث عائشة رضي الله عنها قالت في وصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه شعائر الله تعالى؛ قالت: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
هكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه في شيء من الأمور، إنما ينتقم لله تعالى، فإنه يسمح صلى الله عليه وسلم ويعفو عمن يقصر في حقه من امرأة أو خادم، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شيء من أمور الدنيا إلا عفا صلى الله عليه وسلم، ولم يقابل ذلك بالانتقام إلا في شيء يتعلق بحق الله تعالى، فإنه إذا انتهكت محارم الله تعالى انتقم لله عز وجل، وإنما ينتقم صلى الله عليه وعلى آله وسلم تربية وتعليمًا وبيانًا لعظيم حق الله تعالى وأن حقه سبحانه وتعالى أن يغضب له جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام..الله أكبر.. حاجز يمنع المؤمن من التورط في ألوان المعاصي والسيئات، الله أكبر.. حاجز يحول بين المرء وانتهاك الحرمات؛ فإنه لا يضيع ما فرض الله تعالى عليه ولا ينتهك ما حرمه الله عليه إلا مَن خف في قلبه تعظيم الله تعالى، وإنما يقل الخوف في قلب العبد من قلة تعظيم الله تعالى، فإذا نما في قلب العبد تعظيم الله جل وعلا كان العبد مسابقًا إلى طاعة الله تعالى، منتهيًا عما نهى الله عنه ورسوله.
وإنني أذكر لكم شيئًا مِن سِيَر مَن قَصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم؛ حتى يتبين للمرء ما الذي يثمره إجلال الله وتقديره:
روى البخاري رقم (2215). ومسلم رقم (2743). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ذات يوم خرج ثلاثة نفر يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب، فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان. قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغَون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم -يعني: مكثنا على هذه الحال- حتى طلع الفجر، اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء. قال: ففرج عنهم قدر ما دعا. ثم إن الآخر قال في دعائه: اللهم إنك تعلم أني كنت أحب امرأة من بني عمي كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مئة دينار، فسعيت- أي: اجتهدت- في كسب هذا المبلغ الذي شرطته حتى جمعته، أي: المئة الدينار، فلما قعدت بين رجليها قالت وقد أحيا الله قلبها: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. يقول هذا الداعي: فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة. قال: ففرج عنهم الثلثين. وقال الآخر في دعائه، وهو الأخير: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيرًا بِفَرَق من أرز، فأعطيته وأبى أن يأخذ أجره -إما لخصومة أو لزهد أو لاستقلال هذه الأجرة، المهم أنه أبى أن يأخذ ما أعطاه -فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرًا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله، أعطني حقي. فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك. فقال الرجل الأجير: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. فكشف عنهم.
أيها الإخوة.. هؤلاء ثلاثة قص رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، ما الجامع بينهم؛ إنه إجلال الله تعالى وتعظيمه، إنه مراقبة الله تعالى، فانظر إلى ذاك الرجل الذي ترك الصبية يتضاغون تحت قدميه حتى أصبح الصبح ينتظر أبويه أن يستيقظا ليشربا من الحلاب، ما الذي حمله على فعل ذلك؟ إنه بر الوالدين الذي يرجو به العقبى عند الله، وإلا فإنه يمكن أن يعطي الأولاد ما يكفيهم ويرفع حق والديه إلى أن يستيقظا. وذاك الذي سعى في طلب المرأة التي أحبها أشد ما يحب الرجال النساء سعى في نيل مبتغاه منها، حتى إذا كان على ما وصف بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه قام، ما الذي أقامه عنها؟ ما الذي حجزه عنها؟ إنه تعظيم الله تعالى، إنه مراقبة الله تعالى وخوفه، هو الذي حمله على ترك ذلك الذي سعى له وكد لتحصيله. وذاك الأجير الذي ترك أجره عند صاحبه فثمّر صاحبه الأجر للأجير إلى أن عاد، ثم قال له طالبًا أجره فقال: كل ما ترى لك من البقر وراعيها، فاستاق ذلك، لم يبق منه شيئًا، ما الذي حمله على ذلك؟ إنه خوف الله تعالى الذي هو أعظم ثمرات تعظيم الله تعالى.
الله أكبر عالم الإسرار والـ *** إعلان واللحظات بالأجفانِ
الله أكبر.. أيها الإخوة.. له جل وعلا الحمد، وله الثناء الذي لا ينقطع؛ وذلك لعظيم ما له من الصفات سبحانه وبحمده، فإذا قام بقلب العبد تعظيم الله جل وعلا فلا تسأل عن أداء الحقوق، ولا تسأل عن المبادرة إلى كل ما يرضي الله تعالى؛ فإن العبد إذا صدق مع الله تعالى طلب مراضي ربه سبحانه وبحمده حيث كانت، فإنه لا يطلب جاهًا ولا يطلب شرفًا ولا يطلب ثناءً ولا يطلب مالًا، إنما يطلب مرضاة الله تعالى، فحيثما كانت مرضاة الله تعالى أقبل عليها وأخذ بها.
أيها الإخوة الكرام.. إن العبد إذا صدق معنى «الله أكبر» في قلبه وجدت منه إقبالًا على أداء الأمانات إلى أهلها؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: 58.. فإذا كان العبد مليء القلب بتعظيم الله تعالى أدى الحق واجتهد في أدائه، ومن ذلك ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري رقم (2291 ). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه مالًا، فقال: ائتني بشهداء، قال صاحب المال لطالب السلف: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال ذلك الرجل لمن طلب منه الشهداء: كفى بالله شهيدًا ألا يكفيك الله تعالى شهيدًا، وأنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه مطلع على حالنا؟ قال: فأتني بكفيل، قبلت الله شهيدًا، لكن ائتني بكفيل يضمن هذا المال إذا لم تأت به. فقال له ذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بتعظيم الله تعالى: كفى بالله كفيلًا، ألا يكفيك أن الله رب السماوات والأرض، أن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض يكفلني؟ قال: صدقت. فدفع إليه ما طلب من المال إلى أجل مسمى، فخرج هذا الذي اقترض المال واستلفه إلى جهة من الجهات ركب فيها البحر فقضى حاجته، ثم إنه لما جاء الأجل التمس مركبًا ليعود إلى صاحبه ليوفيه ما طلب، فما وجد مركبًا يحمله، ولا شيئًا يسير به إلى ذلك الذي واعده، وقد قرب الأجل، فما كان منه إلا أن أخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها المال المقترض؛ ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زج بها في البحر فقال يناجي ربه الذي يعامله: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلًا فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها. فرماها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف لا يلوي على شيء يطلب مركبًا ليذهب به إلى صاحبه، انصرف وهو يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، وإنما حمله على ذلك أنه أشهد الله وجعله عليه كفيلًا، حمله على زج هذا المال في هذا البحر أنه جعل الله كفيلًا، وجعل الله شهيدًا، فخشي أن يخسر شهادة الله وكفالته، فماذا كان منه وما كان خبره وقصصه؟ إن هذا الرجل طلب مركبًا ليذهب به إلى صاحبه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر القصة: فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال التي رمى بها المقترض في البحر إذا بها بين يدي هذا المقرض، فأخذها، ماذا يريد بها، ماذا عساه يفعل بها؟ أخذها ينتفع بها في بعض أمره، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم ذلك الذي أسلفه، أتاه بالمال، فقال له: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ الذي يسأل المقرِض، فقال المقترض: ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئتك فيه؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة. فانصرف بالألف دينار راشدًا.
الله أكبر، الله أكبر، ما أطيب ثمار التقوى، وما أعظم عواقب التعظيم.. أيها الإخوة.. فإن العبد إذا صدق مع ربه جل وعلا في معاملته وخوفه ورجائه ومحبته وتعظيمه؛ صدقه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرر قصده، وأن يعظم الله تعالى في قلبه. ومن أعظم ما يقدح في قلب العبد التعظيم أن ينظر في آيات الله تعالى؛ فإن النظر في الآيات مما يملأ قلب العبد تعظيمًا للرب جل وعلا، إذا تأمل العبد هذه الأفلاك وما فيها من عظيم الصنع، تأمل العبد في نفسه فيما أمره الله بالنظر إليه من عظيم المخلوقات؛ كان لذلك من الأثر في قلبه وسلوكه تعظيمًا لله تعالى وإجلالًا ما ليس لغيره.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.