إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُرْشِداً، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعْ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سُورَةُ: آلِ عِمْرانَ (102).
عِبادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَعالَى لا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: الصَّبْرُ بِكُلِّ أَنْواعِهِ، الصَّبْرُ عَلَى طاعَةِ اللهِ تَعالَى، الصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، الصَّبْرُ عَلَى قَضاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَما يُجْرِيهِ مِمَّا تَكْرهُهُ النُّفُوسُ، فَذاكَ كُلُّه شَطْرُ الإيمانِ.
وَأَمَّا الأَمْرُ الثَّاني الَّذي يَتَحَقَّقُ بِهِ تَقْوَى اللهِ تَعالَى، وَيَكُونُ بِهِ العَبْدُ مِنَ المتَّقِينَ: أَنْ يَشْكُرَ اللهَ تَعالَى، فَشُكْرُ اللهِ جَلَّ في عُلاهُ بِهِ تَتَحَقَّقُ العُبُودِيَّةُ لَهُ جَلَّ في عُلاهُ، وَلِذَلِكَ قالَ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} سُورَةُ: الزُّمُر (66)، فَإِنَّهُ لا يَكُونُ المرْءُ عَبْداً للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا إِذا كَمَّلَ شُكْرَ نِعَمِهِ، قالَ اللهُ تَعالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سُورَةُ: سَبَأ (13).
أَيُّها المؤْمِنُونَ: بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ تُنالُ سَعادَةُ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ ضَرُورَةٌ، كَما أَنَّ الشُّكْرَ ضَرُورَةٌ لِتَحْقِيقِ سَعادَةِ الدُّنْيا وَفَوْزِ الآخِرَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعالَى بِشُكْرِهِ، وَذَكَّرَ عِبادَهُ بِإِنْعامِهِ وَإِحْسانِهِ، حَتَّى يَقُومُوا بِذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ تامٍّ كامِلٍ، حَسْبَما يَسْتَطِيعُونَ، وَوَفْقَ ما قَدَّرَهُ اللهُ تَعالَى لَهُمْ، {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} سورة: النحل (114).
إنَّ الشُّكْرَ سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، كَما أَنَّ الكُفْرَ سَبَبٌ لِكُلِّ ضُرٍّ وَشَرٍّ، فَإِنَّ شُكْرَ اللهِ تَعالَى يَسْتَجْلِبُ المزِيدَ مِنَ العَطاءِ، وَلِذَلِكَ كانَتْ الأَنْبِياءُ تَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَها مِنَ الشَّاكِرِينَ، قالَ سُلَيْمانُ في دُعائِهِ لمَّا شَهِدَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} سُورَةُ: النَّمْلِ (19)، وَإِنَّ قَيْدَ النِّعَمِ أَنْ تَشْكُرُوها، فَمَنْ شَكَرَ نِعْمَةَ اللهِ خاصَّةً وَعامَّةً؛ كانَ ذَلِكَ مِنْ مُوجِباتِ ثَباتِ النِّعَمِ وَبَقائِها، وَلِذَلِكَ قالَ عُمُرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "تَذَكَّرُوا النِّعَمَ فَإِنَّ ذِكْرَها شُكْرٌ"، وَقالَ أَيْضَاً: "قَيْدُ النِّعَمِ الشُّكْرُ"أَدَبُ الدُّنْيا وَالدِّينِ لِلماوَرْدِي ص(206) فَمَنْ شَكَرَ حَفِظَ النِّعْمَة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ، كانَتْ عُقُوبَةً وَعَذاباً، وَلِهَذا قالَ الحَسَنُ: "إِنَّ اللهَ لَيُمَتِّعُ بِالنِّعْمَةِ ما شاءَ، فَإِذا لَمْ يُشْكَرْ عَلَيْها قَلَبها عَذاباً"عُدَّةُ الصَّابِرِينَ ص(120), وَلَمْ أَجِدْهُ مُسْنَدًا.
أيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ شُكْرَ اللهِ تَعالَى سَبَبٌ لِلاسْتِزادَةِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَتَحْصِيلِ كُلِّ برٍّ، قالَ اللهُ تَعالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم:7 وَقَدْ أَعْلَمَ اللهُ تَعالَى عِبادَهُ في هَذِهِ الآيَةِ، بِأَنَّ مُوجِبَ شُكْرِهِ جَلَّ وَعَلا وَثَمَرَةَ الِإقْرارُ بِنَعَمِهِ، أَنْ يَزِيدَ العَبْدَ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَقْبِلُوا عَلَى اللهِ تَعالَى، بِشُكْرِ نِعَمِهِ، وَاحْذَرُوا الجُحُودَ؛ فَإِنَّ جُحُودَ النِّعَمِ سَبَبٌ لِزوالِها، وَتَرْكُ شُكْرِها كُفْرٌ لَها، قالَ جَلَّ في عُلاهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} البقرة:152، وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ تَعالَى مَثَلاً في كِتابِهِ لِقَرْيَةٍ ﴿كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾النحل:112، هَكَذا يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثالَ للِنَّاسِ؛ لِيَتَّعِظُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَقُومُوا بِما أَمَرَ بِهِ جَلَّ وَعَلا، مِنْ شُكْرِهِ وَالقِيامِ بِحَقِّهِ، كَمْ زَالَتْ مِنْ نِعْمَةٍ في النَّفْسِ وَالأَهْلِ، بِسَبَبِ الإِعْراضِ عَنْ شُكْرِها وَالقِيامِ بِحَقِّها، إِنَّ شُكْرَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى نَوْعٌ مِنَ القِيامِ بِحَقِّهِ، جَلَّ في عُلاهُ، بَلْ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ القِيامِ بِحَقِّهِ، فَمَنْ شَكَرَ اللهَ تَعالَى فازَ بِعطائِهِ، مَنْ شَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ فازَ بِرِضْوانِهِ، مَنْ شَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ اسْتَوْجَبَ مَزِيدَ عَطائِهِ، جَلَّ في عُلاهُ.
أيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ الشُّكْرَ لَيْسَ كَلِمَةً تُقالُ بِاللِّسانِ، بَلْ هُوَ مَسْلَكٌ يَشْمَلُ القَلْبَ وَاللِّسانَ وَالجوارِحَ، إِنَّهُ خُلُقٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ في قَلْبِ الإِنْسانِ، بِالإِقْرارِ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعالَى، وَإِضافَتِها إِلَى مُنْعِمِها وَالشُّكْرُ بِالقَلْبِ لَهُ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ، أَنْ تُقبلَ نِعَمَتُه، وِأِلَّا تَظُنَّ أَنَّكَ مُسْتَوْجِبٌ لَها، إِنَّما هُوَ فَضْلُ اللهِ وَمَحْضُ إِحْسانِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ فَضْلَهُ وَإِحْسانَهُ.
الأَمْرُ الثَّاني الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ شُكْرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: شُكْرُهُ بِاللِّسانِ، بِأَنْ يُثْنِيَ العَبْدُ عَلَيْهِ جَلَّ وضعلا، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِنِعَمِهِ عَلَى نَحْوٍ يَشْكُرُ فِيها اللهُ، لا يُمَجِّدُ نَفْسَهُ، فَيَقُولُ: رَزَقَنِي اللهُ مالاً؛ فَلَهُ الحَمْدُ جَلَّ في عُلاهُ، أَعْطانِي اللهُ عِلْماً؛ فَلَهُ الحَمْدُ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَهَبَنِي اللهُ وَلَدَاً؛ فَلَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ عَلَى كُلِّ إِحْسانِهِ، وَهَكَذا يُعَدِّدُ نِعَمَ اللهِ تَعالَى، لا اسْتِكْباراً عَلَى الخَلْقِ، وَلا تَأَلِّياً وَلا رِفْعَةً وَلا تَعْظِيماً لِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ، إِنَّما لِشُكْرِ المنْعِمِ بِها، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}الضُّحَى:11 .
أَمَّا ثالِثُ ما يَكُونُ بِهِ شُكْرُ النِّعَم: أَنْ يَشْكُرَ العَبْدُ اللهَ تَعالَى بِجَوارِحِهِ، وَلا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يُسَخِّرَ ما أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ في طاعَتِهِ، فَمَنْ أَرادَ أَنْ يَكُونَ شَاكِراً حَقِيقَةً في عَمَلِهِ، فَكُلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ تَعالَى بِها عَلَيْكَ؛ فانْظُرْ فِيمَ اسْتَعْمَلْتَها؟ فَإِنِ اسْتَعْمَلْتَها فِيما يُقرِّبُكَ إِلَى اللهِ فَقَدْ شَكَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَعْمَلْتَها في مَعاصِيهِ وَفِيما يُغْضِبُهُ فَقَدْ كَفَرْتَها، وَهَكَذا في كُلِّ نِعْمَةٍ دَقِيقَةٍ أَوْ جَلِيلَةٍ، صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، ظاهِرَةٍ أَوْ باطِنَةٍ، كُلُّ ما أَنْعَمَ اللهُ تَعالَى بِهِ عَلَيْكَ فَسَخَّرْتَهُ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كُنْتَ مِنَ الشَّاكِرينَ، وَإِذا اسْتَعْمَلْتَهُ في مَعْصِيَةِ اللهِ فَقَدْ كَفَرْتَ نِعْمَةَ اللهِ، فَلا يُشْكَرُ اللهُ تَعالَى بِأَنْ تُسَخَّرَ نِعَمُهُ في مَغاضِبِهِ وَمعاصِيِهِ، نِعْمَةُ البَصَرِ تَشْكُرُها بِأَنْ تَسْتَعْمِلَها في النَّظَرِ فِيما يُحِبُّ وَيَرْضَى، فَإِذا اسْتَعْمَلْتَها في النَّظَرِ في المحرَّماتِ وَانْتِهاكِ الحُرُماتِ، وَالوُقُوعِ فِيما مَنَعَكَ اللهُ تعالَى مِنْهُ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَشْكُرْ نِعْمَةَ البَصَرِ، كَذا السَّمْعُ، كَذا القُّوَّةُ، كَذا المالُ، كَذا الصِّحَّةُ، كَذا سائِرُ نِعَمِ اللهِ تَعالَى، إِذا سَخَّرْتَها فِيما يُقرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَقَدْ شَكَرْتَها، وَإِنِ اسْتَعْمَلْتَها فِيما يُغْضِبُ اللهَ؛ فَإِنَّكَ قَدْ كَفَرْتَها.
والشُّكْرُ يَتَحقَّقُ بِتَمامِ الطَّاعَةِ وَالذُّلِّ، ظاهِراً وَباطِناً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَعْظَمُ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ تَعالَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُاللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ تَفُوقُ كُلَّ نِعْمَةٍ، كَيْفَ كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِزاءَ تِلْكَ النِّعَمِ؟ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدماهُ، فَقِيلُ لَهُ في ذَلِكَ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ تَعالَى لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ ما تَقَدَّمَ وَما تَأَخَّرَ، فَكانَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» صَحِيحُ البُخارِيِّ (4836(, إِنَّ العَبْدَ الشَّكُورَ هُوَ الَّذِي يُقرُّ بِنِعْمَةِ اللهِ بِقَلْبِهِ، هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى اللهِ تَعالَى بِها في لِسانِهِ، هُوَ الَّذِي يَسْتَعْمِلُ تِلْكَ النِّعْمَةِ فِيما يُقرِّبُه إِلَى رَبِّهِ جَلَّ وَعَلا، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذا، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في القَلبِ، بِأَنَّ أَضافها إِلَى نَفْسِهِ، كَما قالَ قارُونُ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}القصص:78 فَأَضافَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، أَوْ نَسَبَها إِلَى غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ اللهِ مِنَ الخَلْقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحََقِّقْ شُكْرَ القَلْبِ، إِذا لَمْ يُثْنِ عَلَى اللهِ بِلِسانِهِ، وَلَمْ يَحْمَدْهُ عَلَى إِحْسانِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِما يَجِبُ مِنَ الشُّكْرِ، إِذا سَخَّرَ تِلْكَ النِّعَمَ في مَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ شُكْرَ اللهِ تَعالَى.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِك َوَذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، وَاسْلَكْ بِنا سَبِيلَ أَوْلِيائِكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَحْبابِكَ، أَقُولُ ما تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدَ الشَّاكِرينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، وَلا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَه ُلا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَاشْكُرُوهُ فَإِنَّكُمْ إِذا شَكَرْتُمُوهُ شَكَرَكُمْ جَلَّ في عُلاهُ، قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} سُورَةُ: البَقَرَةِ (158)، وَقالَ تَعالَى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}التعابن:17، فاشَكُرُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وَإِحْسانِهِ، في أَنْفُسِكُمْ وَفي أَهْلِيكُمْ وَفي بِلادِكُمْ، وَفي سائِرِ ما أَنْعَمَ اللهُ تَعالَى بِهِ عَلَيْكُمْ، اتَّقُوا اللهَ وَأَبْشِروا بِمَزِيدِ عَطاءٍ وَهِباتٍ وَمِنَحٍ، قالَ تَعالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سُورَةُ: الأَعْرافِ (96), وَإِنَّما يَتَحَقَّقُ الإِيمانُ وَالتَّقْوَى، بِالصَّبْرِ عَلَى طاعَةِ اللهِ، وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصَيِتَهِ، وَالصَبرُ عَلى أَقْدارِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ جَلَّ في عُلاهُ، وَنِعَمِهِ تَتْرَى عَلَيْنا، لا نَنْفَكُّ مِنْها لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظاتِ، وَإِنَّ أَعْظَمَ ما يَصُدُّ النَّاسَ عَنِ الشُّكْرِ غَفْلَتُهُمْ عَنْ حَقِّ رَبِّهِمْ جَلَّ في عُلاهُ، فَإِنَّه إِذا غَفَلَ الإِنْسانُ وَاسْتَحْكَمَ قَلْبُهُ غَفْلَةً وَبُعْداً عَنِ اللهِ؛ انْغَمَسَ في هَذِهِ النِّعَمِ عَلَى وَجْهٍ لا يَحقِّقُ مَرْضاةَ اللهُ جَلَّ وَعَلا، وَظَنَّ أَنَّها لَهُ لِكَوْنِهِ فُلانَ بْنَ فُلانٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنَ الجِنْسِيَّةِ الفُلانِيِّةِ أَوْ لِكَوْنِهِ مِنَ البَلَدِ الفُلانِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَوَهْمٌ، فَاللهُ يُعْطِي يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، يَبْتَلِي بِالنَّعْماءِ؛ لِيَرَىَ مِنَ الِإنْسانِ صِدْقَ إِيمانِهِ، وَالمؤْمِنُ في كُلِّ أَحْوالِهِ، عَلَى أَحْسَنِ حالٍ: إِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْراً لَهُ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إنَّ مِنْ أَعْظِمِ أَسْبابِ عَدَمِ شُكْرِ النِّعَمِ، أَلَّا يُعَدِّدَ الإِنْسانُ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَلَّا يَنْظَُر إِلَّا إِلَى النَّقْصِ في حَياتِهِ، فَإِذا نَظَرَ أَنُّهُ لا يَمْلِكُ أَرْضَاً أَوْ لا يَمْلِكُ سَكَناً، أَوْ لا يَمْلِكُ كَذا، مِمَّا يَحْتاجُهُ، وَحَصَرَ نَظَرَهُ في النَّقْصِ، غَفَلَ عَنِ الكَمالِ، وَإِذا غَفَلَ عَنِ الكِمالِ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ، فَذاكَ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ تَعالَى قُوَّةً في بَدَنِهِ، وَصِحَّةً في جِسْمِهِ، وَسَلامَةً في عَقْلِهِ، إِذا غَفَلَ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ، وَنَظَرَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُيَسِّرْ لَهُ مَكْسَباً في هَذِهِ السُّنَّةِ وَاسِعاً، جَحَدَ تِلْكَ النِّعَمَ كُلَّها فَلَمْ يَشْكُرْها، وَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّها، وَلِذَلِكَ مِنَ المهِمَّ أَلَّا تَنْظُرَ إِلَى النَّقْصِ في حَياتِكَ، بَلْ انْظُرْ إِلَى عَظِيمِ ما مَنَّ اللهِ تَعالَى بِهِ عَلَيْكَ.
دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَحَدٍ المرْضَى، وَقَدْ سُلِبَتْ يَداهُ، وَكانَ زَمِنَاً لا يَسْتَطِيعُ الحَرَكَةَ، وَتَعَطَّلَتْ حَواسُّهُ الَّتي يَتَحَرَّكُ بِها، فَقالَ لَهُ: كَيْفَ تًجِدُكَ؟ قالَ: الحَمْدُ للهِ، فَقُلْتُ لَهُ: عَلَى ماذا تَحْمَدُ اللهَ، وَقَدْ سَلَبَكَ قُدْرَتَكَ عَلَى الحَرَكَةِ وَالمسِيرِ وَالمجِيءِ، وَقَضاءِ حَوائِجِكَ بِنَفْسِكَ؟ قالَ: أَحْمَدُهُ عَلَى أَنْ مَنَّ عَليَّ بِالإيمانِ، وَثبَّتْ عَقْلِي، وَأَعْمِلْ لِسانِي بِذِكْرِهِ.
هَكَذا يَنْظُرُ الإِنْسانُ إِلَى نِعَمِ اللهِ، فَذاكَ الَّذِي نَقَصَ في جانِبٍ مِنْ جَوانِبِ حَياتِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ أَجْرَى الدَّمَ في عُرُوقِهِ، مِنَ الَّذِي يُجْرِي الدَّمَ في عُروقِنا، وَنَحْنُ لَيْسَ لَنا في هَذا شَأْنٌ بِالكُلِّيَّةِ؟ الآنَ لَوْ تَعَطَّلَتْ كُلِّيِّةً لاحْتَجْتَ إِلَى جِهازٍ وَمُراجَعَةٍ لِلمُسْتَشْفَى، بَيْنَ فَتْرَةٍ وَأُخْرَى، لِتُعالِجَ هَذا الخَلَلَ، مِنَ الَّذِي نَظَمَ هَذا العَمَلَ لِهَذِهِ القِطْعَةِ، في بَدَنِكَ، دُونَ عَمَلٍ مِنْكَ؟ إِنَّهُ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ، فَهَلْ شَكَرْنا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْنا في الصِّحَّةِ؟
يُحَدِّثُني طَبِيبٌ يَقُولُ: أَمْضَيْتُ أَرْبَعِينَ سَنَةً في تَخَصُّصِي في الغُدَّةِ الدَّرَقِيَّةِ، وَوَاللهِ إِنَّهُ في كُلِّ يَوْمٍ، نَكْتَشِفُ مِنَ العِلْمِ بِهَذِهِ القِطْعَةِ مِنَ الجِسْمِ، ما لا عِلْمَ لَنا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَسُبْحانَ اللهِ! {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}الإِسْراء:85، نِعَمُ اللهِ عَلَيْنا كَثِيرَةٌ، لَكِنَّنا نَغْفُلُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ، بِأَنْ يَنْصَبَّ بَصَرُنا إِلَى ما فَقَدْناهُ، أَوْ إِلَى ما مَنَعَنا اللهُ إِيَّاهُ، وَاللهُ لا يَمْنَعُ شَيْئاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ، فَإِذا مَنَعَكَ اللهُ شَيْئاً مِمَّا تُحبُّ؛ فاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّما مَنَعَكَ رَحْمَةً بِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ أَعْطاكَ لَكانَ سَبَباً لِهَلاكِكَ، أَوْ نَقْصِكَ مِنْ حَيْثُ لا تَشْعُرْ، فَكُنْ للهِ مُسْتَسْلِماً وَبِهِ وَاثِقاً، وَإِلَيْهِ لاجِئاً، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بِذَلِكَ تَفُوزُ فَوْزاً عَظِيماً. لا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ أَعْلَى مِنْكَ، وَتَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ مُنِحُوا ما مُنِحُوا مِنْ مَتاعِ الدُّنْيا، قَدْ كَمُلَتْ حَياتُهُمْ، الدُّنْيا -مَهْما كانَتْ- عَلَى نَقْصٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، ما في أَحَدٍ كَمُلَتْ لَهُ دُنْياهُ:
كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ يَشْكُو دَهْرَهُ * لَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الدُّنْيا لِمَنْ؟
كُلُّ مَنْ تَلْقاهُ لابُدَّ عِنْدَهُ مِنْ هَمٍّ، مَنَ الَّذي كَمُلَتْ لَهُ العَطايا وَالهِباتُ؟ لَيْسَ أَحَدٌ، الدُّنْيا لَيْسَتْ دَارَ قَرارٍ، إِذا كُنْتَ تَعْلَمُ أَوْ لا تَعْلَمُ؛ فاعْلَمْ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَتْ تَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلاثُةُ شُهُورٍ، ثَلاثُةُ أَهَلَّةٍ لا يُوقَدُ في بَيْتِهِ نارٌ، طَعامُهُ الماءُ وَالتَّمْرُ، مَنْ مِنَّا مَرَّ بِهَذِهِ الحالِ؟ أَنا أَجْزِمُ أَنَّ غَالِبِيَّتِنا لَمْ يَسْمَعْ بِهَذا عَنْ أَحَدٍ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يُشاهِدَهُ في نَفْسِهِ، وَهَذا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي فَتَحَ اللهُ لَهُ كُنُوزَ الدُّنْيا، وَأَعْطاهُ كُنُوزَ الأَرْضِ، «أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ -أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ-» صَحيحٌ البُخارِيُّ (1344) هَكَذا يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ، خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً رَسُولاً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدَاً رَسُولاً، فاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْداً رَسُولاً، لِتَكْمُلَ مَرْتَبَتُهُ وَتَعْلُو مَنْزِلَتُهُ، وَيَنالَ حَظَّهُ التَّامَّ الكامِلَ في الآخِرَةِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ، عِبادَ اللهِ، اُشْكُرُوا اللهَ عَلَى النِّعَمِ، وَإِذا أَرَدْتُّمْ أَنْ تَعْرِفُوا قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ؛ فاعْمَلُوا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ» صَحِيحُ مُسْلِم (2963)، مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِمِنَنٍ عَظِيمَةٍ، عامَّةٍ وَخاصَّةٍ فاشْكُرُوهُ جَلَّ في عُلاهُ.
نَسْأَلُهُ جَلَّ في عُلاهُ، أَنْ يَجْعَلَنا مِنْ عِبادِهِ الشَّاكِرينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ الشَّاكِرينَ، وَأَعِنَّا عَلَى خَيْرِ الدُّنْيا وَالدِّينِ، وَاشْمَلْنا بِرَحْمَتِكَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ، وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ، مَنْ قَلَّدَتْهُ أَمانَةً؛ فَأَعِنْهُ عَلَيْها، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رَحْمَةً لِلعِبادِ يارَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ عَلَى ما تَحَمَّلُوا مِنْ مَسْؤُولِيَّاتٍ، وَسَدِّدْهُمْ يارَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا وَلِإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ، وَلا تَجْعلْ في قُلُوبِنا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.