...أما بعد.
في هذه الحلقة – إن شاء الله تعالى – سنتكلم فيها عن الحج حضارة، هذا هو موضوعنا الذي سنتناوله.
الحضارة عندما تطلق يراد بها ما يقابل البدو، والحضارة في معناها العام الشامل تُشعر بالرقي والسمو والكمال الإنساني.
ولذلك يطلق على المجتمعات التي بلغت مبلغاً حميداً في تطورها ورقيها مجتمعات متحضرة، أو مجتمعات حضارية.
فهل الحج له دور في تحقيق هذا المعنى، في إبراز هذا الملحظ؟ لنكتشف هذا من خلال ما نذكره من نصوص، وما نورده من آثار لهذه العبادة في تحقيق هذا المعنى.
هذا التجمع البشري الكبير الذي شرعه الله تعالى بفرض الحج على أهل الإيمان، إنه أكبر تجمع بشري إنساني في العام، وفي الزمان، والمكان، إنه تجمع لا نظير له، مختلف في ألسنته، مختلف في ألوانه، مختلف في تقاليده، مختلف في أشكاله، مختلف في خلفيات أهله، كل هذه الخلافات، وكل هذه التنوعات التي تكون بين الناس تنصهر وتتحد في مظهر واحد، يبرز الاتفاق البشري، والوحدة البشرية، هذه الوحدة ليست على شعار دنيوي، من مكسب مالي أو غنيمة حاضرة، وليس على عرق، أو جنس أو لون، أو لسان أو إقليم، أو خلفية، إنه وحدة على الهدف الذي من أجله خلق الكون رب العالمين، الذي من أجله وجد البشر: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾سورة الذاريات:56
إنه وحدة عبادية، فليس في الدنيا وحدة بهذا الشكل، وبهذه الصورة كهذه الوحدة التي نشهدها في هذا التجمع البشري الكبير الذي يضم مختلف طبقات الناس: غنيهم وفقيرهم، مختلف الأجناس والشعوب، هو تجمع حضاري في المقام الأول إذ لا يتاح اجتماع هذه الجموع الكبيرة المتنوعة في مكان واحد، وزمان واحد إلا في الحج، فهو دعوة لائتلاف البشر على الهدف الذي من أجله خلقوا، لذلك لسانهم واحد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
إن هذا الطوفان البشري العظيم المتدفق من جهات الدنيا كلها، من كل فج عميق متعدد في ألوانه وسحناته، وألسنته، ولغاته، وعاداته، وثقافته، لكنه متحد في لسانه، متحد في لباسه، متحد في قصده، متحد في عمله.
وكل هذا لبيان القيمة العظمى التي جاءت بها هذه الشريعة المباركة وهي وحدة الهدف في تحقيق الغاية من الخلق.
هذا هو أسمى مراتب الحضارة، فإن الحضارة الحقيقية هي أن تحقق ما من أجله خلق البشر، الحضارة الحقيقية ليست هي اقتناء المكتسبات المادية مجرداً عن تحقيق العبودية الله جل وعلا.
بل إن ذلك يتحقق بكمال الطاعة الله جل وعلا وامتثال أمره وتسخير هذه الدنيا بكل ما فيها لتحقيق هذا الغرض.
إن الحج حضارة بأعماله وآثاره، وما يعكسه على نفوس الحجاج من احترام للنظام، والتزام بالأعمال، وقيام بالمهام على الوجه الذي يرضي الله جل وعلا، ويحقق الغاية والقصد من هذا العمل.
إن هذا الموكب البشري الهادي بين منازل الحج ومشاعره، وشعائره، يرسم لوحة حضارية رائعة، فهؤلاء الناس قد جاءوا من كل فج عميق ليجتمعوا في رقعة من الأرض تضيق بهم المساحة، لكن تزدهي بهم حرمات وجنبات هذا الحرم المبارك.
في وحدة وائتلاف وانتظام لا يشهد له نظير، ولا يدرك له مثيل، تشيع بينهم الرحمة وتغشاهم الألفة، وتغشاهم السكينة، وتجمعهم العبادة.
إن ذلك لا يكون في موقف غير هذا الموقف العظيم وقد أرسى نبينا صلى الله وعليه وسلم القيم الحضارية التي تكفل للبشرية السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، في تلك الخطبة العظيمة التي تضمنت إرساء القيم الإنسانية التي إذا تحقق بها الناس وعملوا بها، فازوا بسعادة الدارين.
فحقق صلى الله وعليه وسلم في تلك الخطبة الدعوة إلى العدالة، الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، الدعوة إلى حفظ حقوق الإنسان، الدعوة إلى إعانة الضعفاء، ورفع الظلم وتحقيق العدل في المجتمع.
الدعوة إلى الإصلاح المالي، الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، الدعوة إلى الإصلاح الأسري.
كل تلك الملامح بارزة بادية في كلماته صلى الله وعليه وسلم على يسرها وسهولتها، ترسي القواعد التي تقوم عليها الحضارات، والتي لا يمكن أن تكتمل المعيشة الإنسانية إلا بها.
إن الحج يربي الناس على معاني عظيمة في ائتلافهم واجتماعهم، فينهى عن الغلو كما قال صلى الله وعليه وسلم «يا أيها الناس إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» أخرجه النسائي(3057)، وابن ماجة(3029)
إن النبي صلى الله وعليه وسلم ينهى عن التزاحم ويأمر بالسكينة في السير، ويأمر بالتزام ما فيه رفق ورحمة بالمؤمنين.
إنه صلى الله وعليه وسلم يرسي قواعد التجمع البشري، كيف يكون الناس مجتمعين على رحمة ورأفة وانتظام في تحقيق الغاية العظمى من هذا الكون، ومن هذا الخلق، وهو عبادة الله وحده على نحو يرضاه، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
أدعو نفسي وإخواني من حجاج بيت الله الحرام أن يراعوا هذا الملحظ ، وأن ينظروا إليه نظر اعتبار، فالحج ليس فوضى، الحج ليس قذارة ووساخة، الحج ليس تدافعاً وتزاحماً وقتالا.
الحج ليس خرقاً للنظام وخروجاً عنه، الحج ليس انفعالاً، إنه سكينة، إنه رحمة، إنه ائتلاف، إنه نهي عن الغلو، إنه تعاون على البر والتقوى.