...أما بعد.
في هذه الحلقة إن شاء الله تعالى سنتكلم عن "الحج رحمة"، سيكون الحديث عن أوجه الرحمة في هذه العبادة، الحج فريضة من فرائض الإسلام، والإسلام دين رب العالمين، دين أرحم الراحمين، الذي جعل رسالة النبي صلى الله وعليه وسلم موصوفة بالرحمة، فقال:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾سورة الأنبياء:107
فالإسلام بكل ما فيه من شعائر، بكل ما فيه من عبادات، بكل ما فيه من أحكام، بكل ما فيه من واجبات، بكل ما فيه من فرائض كله رحمة، يبصر ذلك ويدركه من فتح الله بصيرته وأدرك ما في هذه العبادة الجليلة من أوجه البر والإحسان.
إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة يتراحم بها الناس، بل رحمة واحدة بين الإنس والجن والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على بلدها، وادخر جل في علاه وهو أرحم الراحمين، تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة.
من هذه الرحمة ما كان في تشريعه، فهذا الحج بمشاعره، وشعائره وأحكامه وشرائعه هو رحمة من الله جل وعلا، يبدو ذلك في الغاية من الحج، فالحج به تحط السيئات وتكفر الخطايا والسيئات.
«فمن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» تقدم تخريجه
يا الله ما أعظم إحسانك وعطاءك وبرك، ونوالك، نسألك يا رب العالمين، ألا تحرمنا فضلك.
رحمة لا يحدها وصف، ولا يبينها لسان، إنها رحمة أرحم الراحمين الذي جعل هذه العبادة حطًا لتلك الجبال من الخطايا والسيئات.
تلك الجبال من الأوزار تتلاشى وتتبدد وتذهب إذا أحسن العبد في حجه، فحج قاصداً الله جل وعلا فلم يرفث ولم يفسق.
«من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
عطاء عظيم، إنه وجه من أوجه الرحمة التي في هذه العبادة العظيمة.
أضف إلى هذا وجهاً آخر من أوجه الرحمة أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، كما قال النبي صلى الله وعليه وسلم «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» تقدم تخريجه
هذا وجه آخر من أوجه الرحمة.
ومن أوجه الرحمة أن الله تعالى لم يفرض الحج إلا على المستطيع، فقد قال الله جل وعلا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾سورة آل عمران:97
من أوجه الرحمة أن الله فرض الحج مرة في العمر، كما قال النبي صلى الله وعليه وسلم :«يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟، فسكت النبي صلى الله وعليه وسلم، فأعاد عليه فسكت النبي صلى الله وعليه وسلم، فأعاد عليه فقال النبي صلى الله وعليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» أخرجه مسلم(1337)
فمن رحمته جل في علاه أن فرض الحج على عباده في العمر مرة واحدة.
ومن أوجه الرحمة في هذه العبادة أن الأجر فيها على قدر المشقة والنصب، فما بذله الإنسان لا يذهب هباءً، قال صلى الله وعليه وسلم: «أجرك على قدر نفقتك ونصبك» أخرجه البخاري(1787)، ومسلم(1211)
فكل درهم أو فلس أو قرش تدفعه، فالله سيجزيك عليه عطاء عظيماً، ويرتفع به ثوابك، ويعلو به مقامك.
كما أن التعب الذي يدركه الحاج في تنقلاته، سواء كان تعباً بدنياً أو تعباً نفسياً، كل ذلك مما يؤجر عليه عند الله جل وعلا، ويعظم به أجره.
الحج رحمة لما فيه من السعة والرخصة، فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم «فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويلات» أخرجه البخاري(134)، ومسلم(1178)
كل ذلك رحمة من الله جل وعلا بعباده.
الحج رحمة في اجتماعه، وأفعاله فإن المؤمنين يتراحمون، ولذلك قال النبي صلى الله وعليه وسلم في الرمي: «يا أيها الناس إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» تقدم تخريجه
والغلو في التزاحم، والغلو في الرمي بأكثر مما أُمر به الإنسان.
والغلو في أن يتكلف الإنسان عموماً ما لم يشرعه الله تعالى له.
الرحمة بادية في كل صفات هذا العمل، وفي هذه العبادة، ولذلك كان النبي صلى الله وعليه وسلم لا يسأل عن شيء في الحج إلا ويقول: «افعل ولا حرج» أخرجه البخاري(83)، ومسلم(1306)
رحمة بالعباد ورفقاً بهم، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
إننا بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا بأن هذا الدين دين رحمة، وأن النبي صلى الله وعليه وسلم نبي الرحمة، فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم مذكراً بأوصافه: «أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» أخرجه مسلم (2355)
فهو الرحمة المهداة لجميع العالمين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
إن الحاج ينبغي أن يتذكر أن الله جل وعلا يرحمه بما يقوم في قلبه من رحمة العباد، ورفقه بهم، وحنوِّه عليهم، وعطفه عليهم.
فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء» أخرجه الترمذي(1924)
والرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
وقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث جرير بن عبد الله، «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» أخرجه البخاري(7376)، ومسلم(2319)
رحمة العبد للخلق مما يدرك بها وينال بها رحمة الله تعالى التي من آثارها خيرات الدنيا، ومن آثارها خيرات الآخرة.
ومن فقدها فقد قطع أكبر أسباب نوال الرحمة، فالقلوب الخالية من الرحمة لا تنال الرحمة، وينقطع الحبل بينها وبين خير الدنيا وخير الآخرة.
إن رحمة الله قريب من المحسنين، فلنحسن في حجنا، وفي أعمالنا، لنحسن لأنفسنا باتباع النبي صلى الله وعليه وسلم وتحقيق التوحيد الله جل وعلا، ولنحسن إلى المسلمين بإيصال كل بر وإيصال كل خير إلى الناس، فإن الله تعالى يحب المحسنين، ويحب الراحمين، ومن لا يَرحم لا يُرحم كما قال النبي صلى الله وعليه وسلم.
إننا بحاجة إلى أن نؤثر على أنفسنا، وأن نأتي إلى الناس الذي نحب أن يعاملونا به، فإن هذا من أوجه الرحمة أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم :«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» أخرجه البخاري(13)
فأنا أندب إخواني الحجاج إلى أن يحسنوا في معاملتهم إلى الناس، كل معاملة، كل تصرف، تحب أن يعاملك الناس به فعامل به غيرك.
فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو: «من أحب أن يدخل الجنة ويزحزح عن النار؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر»، هذا فيما يتعلق بصلته ب الله جل وعلا: «وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى» أخرجه مسلم (1844)، وهذا فيما يتعلق بمعاملة للخلق.
الحج من الأعمال المباركة التي تزكو بها الأخلاق، وإذا زكت الأخلاق واكتملت تلك الأخلاق على الوجه الذي يرضي الله جل وعلا بدت فيها سمات الرحمة، فإذا تخلق المؤمن بخلق النبي صلى الله وعليه وسلم الذي كان يوصي أصحابه بالسكينة فيقول: «ليس البر بالإيضاع، السكينة السكينة، ليس البر بالإيضاع» تقدم تخريجه ، كان ذلك من دواعي اتصافه بالرحمة تجده يرحم الفقير، بإعطائه ما يسد حاجته، ويرحم الضعيف بإعانته، وحمله متاعه ومساعدته لبلوغ غايته، يرحم الجائع بإطعامه، يرحم المستغيث بإغاثته، يرحم الضعيف بعدم مزاحمته والإفساح له، وهلم جرّاً من أوجه الرحمة التي نحن في حاجة إليها.
وقد يبلغ العبد بالرحمة مبلغاً لا يتخيله.
أتعلمون أن رجلاً دخل الجنة في غصن أماطه عن طريق المسلمين، قال: «لا يؤذي المسلمين، فشكر الله له، فغفر له، وادخله الجنةأخرجه البخاري(652)، ومسلم(1914)
أتعلمون أن امرأة من بني إسرائيل بغي تتجر بعرضها وشرفها، تزني وتأخذ على الزنا أجراً، سقت كلباً رحمة به، فرحمها الله تعالى وغفر لها ما كان من بغيهاأخرجه البخاري(3467)، ومسلم(2245)
إننا بحاجة إلى إبراز هذه المعاني المهمة التي هي في الحقيقة جوهر الدين، وهي مقصوده: أن تعمر القلوب بالسكينة، أن تعمر القلوب بالرحمة، أن تعمر القلوب بالخير ومحبته للناس، أن يلتزم الإنسان ما استطاع من دين الله جل وعلا ظاهراً وباطناً.