عن أمير المؤمنين، أبي حفص، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه))([1]).
مقدمة:
هذا الحديث، حديث ((إنما الأعمال بالنيات)) الّذي انفرد بروايته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أعظم الأحاديث وأوسعها فائدةً، وأحوجها إلى العناية والدراسة، يقول البخاري رحمه الله: (ليس شيءٌ من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أجمعَ ولا أغنىَ، ولا أكثرَ من حديث ((إنما الأعمال بالنيات))، ذلك لكون هذا الحديث، يدخل في أبواب العلم كلها، ويدخل في الأعمال كلها، فما من عمل إلا ويجب أن يقترن بنية.
معنى الحديث:
فقول النبي صلى الله عليه وسلم :((إنما الأعمال بالنيات)) أي الأعمال كلُّها ظاهرها وباطنها، خفيُّها وجهرها، كلُّها بالنية، والنية هي: القصد ، والإرادة ، والهدف والغرض، فلا بدَّ لكلّ عملٍ من نية تُصاحبه. والمقصود بالنية هنا نية العمل، ونية المعمول به.
والنّية نوعان، نيّة تتعلّق بالقصد والغرض والغاية، من وراء العمل، ونيَّة تميز نوع العمل؛ ولهذا فإنّ بحث النية يتناول أمرين:
الأمر الأول:نية المعمول له، وهو أن يكون العمل لله وحده، لا شريك له، وهذا هو أصلُ الدين، الّذي أمر الله تعالى به الأولين والأخرين.
والأمر الثاني:نيَّة العمل، أي: ما المقصود بهذا العمل؟ ما الذي تُريد أن تبرأ ذمَّتُك به من هذا العمل؟ وهنا يكون التمييز بين الفرائض المتشابهة، فإذا جئتَ تصلي العصرَ الآن: نويتَ صلاة العصر، ولو لم تنوِ العصرَ، لكانت مثلَ الظهر في الصورة، أي أربع ركعات، فالنّيّة تميز صلاة العصر عن صلاة الظهر، وتميز الفرائض بعضها عن بعض، كما أنها تميز بين الفرائض والسنن.
فلابد لكلّ عمل من نية، فالصلاة لابد لها من نية، والصوم لا بد له من نية، والزكاة لابد لها من نية، والحج لابد له من نية، وهكذا كلّ أنواع العبادات.
بل حتى الأعمال التي تكونُ من غير غرضٍ ولا قصدٍ في العادة، إذا استحضر الإنسان فيها النية، فإنها تكون سبباً لمزيد أجر وفضل وإثابة، لذلك يقول الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}([2]).
ومثالاً لذلك الإصلاحُ بين الناس، يفعله بعضُ الناس بدون استحضار نيّة التقرب إلى الله عزّ وجلّ، أي يُصلح بين طرفين من النّاس مثلاً، لأنهم أصحابه أو أقاربه، فهو مأجورٌ على هذا العمل، لكن إذا فعله طاعةً لله، وابتغاءُ لمرضاته، كان أعظم، ولذلك يقول الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، ثم يقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}([3]) فجعل الأجر العظيم مرتباً على النّيّة، فلابدّ أن يُلاحظ الإنسانُ النية، في كل عمل، حتى يكون هذا العمل خالصاً لله تعالى وحده.
فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم :((إنَّما الأعمال بالنِّيَّات)) يعني من حيث صحتها وقبولها واعتبارها، فلا يكون العمل صحيحاً ولا مقبولاً ولا مُثاباً عليه ولا معتبراً، إلا إذا كان مصاحباً لنية صحيحة سليمة .
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم :((ولكلِّ امرئ ما نوى))فيه إشارةٌ إلى أنَّ الناس في نواياهم يختلفون، فالمصلّون في الصلاة يتوجّهون كلّهم إلى الله عز وجلّ، من حيث المقصد الأصلي، لكنهم يتفاوتون في تحقيق هذه النّية، ولهذا يتفاوتون في الأجر بقدر، ما يكون في قلوبهم من نوايا صحيحة ومقاصد طيبة، فالعاملان قد يكونان في صورة واحدة من العمل، كأن يكون كلاهما ساجدين مثلاً، لكن قد يكون بينهما في الأجر والفضل، كما بين السَّماء والأرض، وعلّة هذا التفاوت، هو اختلاف ما في قلبيهما من قصد وإرادة وخشوع وخضوع.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((فمن كانت هجرته إلى الله)) يتضمّن مثالاً للتفاوت الّذي يكون بين شخصين في النية، وبالتالي في الأجر والقبول والفضل، فهذان الرجلان قاما بعملٍ واحد، وهو الهجرة من مكّة إلى المدينة، فصورة العمل واحدةً، لكن اختلفت نيّة كلّ واحدٍ منهما.
وبدأ الرّسول صلى الله عليه وسلم، بذكر أنموذج الإخلاص في النيّة، قائلاً: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله)) وفي ذلك تفخيم وتعظيم لمقام من أخلص نيّته لله عز وجلّ، وكانت نيّة الهجرة، مطابقةً لما يريده الله عز وجلّ.
ثم يذكر بالمقابل أنموذجاً اختلفت فيه نيّة العمل، ولم تتطابق مع مراد الله عز وجلّ، يقول الرّسول صلى الله عليه وسلم:((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يَنكحها))، فهذا رجل خرج كذلك مهاجراً من مكّة إلى المدينة، لكنّ النّية التي أضمرها في قلبه، كانت تتعلّق بغرض دنيويّ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لدنيا يصيبها)) ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة على وجه الخصوص لأنها من أعظم مقاصد الدنيا، فقال: ((أو امرأة يَنكحها)).
فما جزاء وعاقبة لا تتطابق النّية في ضميره مع صورة العمل؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فهجرته إلى ما هاجر إليه)) فلم يذكر عقوبة معيّنة، لأنّ ذلك يختلف باختلاف الغرض الدنيوي الّذي هاجر إليه، فقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً.
والهجرة في الأصل هي الانتقالُ من مكَّة إلى المدينة، وهذه قد انقطعت، لأن مكة أصبحت دار إسلام، لكن الهجرة الباقية هي هجرة ما نهى الله عنه ورسوله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية))([4])، وأوضح ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((والمهاجر من هجر مانهى الله عنه))([5])، وكذلك ورد في الصحيح من حديث معقل بن يسار، قال صلى الله عليه وسلم : ((العبادة في الهرج (يعني في زمن الفتن) كهجرة إليّ))([6])، فصار معنى الهجرة بعد فتح مكة، هو الانتقال من حال السوء إلى حال الصلاح، مكاناً وحالاً.
من فوائد الحديث:
-أنّ النيّة تكون مقترنةً بالعمل.
-أنّ الأعمال تقوم على حسب نيّة الإنسان، أي بحسب قصده وما يريده من وراء العمل.
- أنّ شرط قبول الأعمال عند الله عز وجلّ، هو النية الصحيحة.
-أنّ صورة العمل قد تتّفق، لكن تتفاوت نيّات العاملين، بحسب ما يقوم في قلوبهم من الصدق والإخلاص وحسن القصد، وبالتالي يتفاوت الجزاء والأجر.
-أنّ النّية يُراد بها إخلاص العمل لله عز وجلّ، كما يُراد بها تمييز العمل عن غيره من الأعمال، نوعاً كتمييز صلاة العصر من صلاة الظهر، أو درجةً كتمييز صلاة الفريضة من النافلة.
-أنّ الهجرة إلى الله عز وجلّ، فضلها عظيم، وأنها كانت في البدء من مكة إلى المدينة، ثم صار معناها بعد فتح مكة هجرة ما نهى الله عنه ورسوله.
-أنّ الأمور بمقاصدها، وهي قاعدة فقهية كبرى، تستند إلى هذا الحديث، ومعناها: أنّ نتائج الأقوال والأفعال وأحكامها تختلف باختلاف المقاصد.